هفال عارف برواري
مِمّا لا شكّ فيه أن هناك تساؤلاتٍ كثيرةً أُثيرت في الآونة الأخيرة على الجذور الآيديولوجية لتنظيم (داعش)، خاصّةً بعد التوسُّع الملفت والتمدُّد الرهيب له، الأمرُ الذي دفعَ الجهاتِ الإسلاميةَ إلى الاستنفار لردّ هذه الفكرة، بكُلِّ ما أُوتيت من حُجّة وقوّة في البرهان. وأكّد الكثيرون من هؤلاءِ أن هذا التنظيم هو امتدادٌ فكريّ لفرقةِ (الخوارج)، التي أصبحتْ شماعةً تاريخيّةً تتعلّق بها التنظيمات المتشدِّدة التي تُحْرِجُ الساحة الاسلامية بأفعالِها المشينة، ومن ثم برزت حركات سلفيّة متشدّدة، وخاصّةً مِمّن يُسَمّون بالمداخلة (نسبة الى جماعة الشيخ ربيع المدخلي)، لكي تنفي عن نفسِها آيديولوجية هذا التنظيم، زاعمةً زوراً وبهتاناً أنه خرج من عِباءة الإخوان المسلمين، ولم تكتفِ بذلك بل أمعنتْ في تنسيبِ أفكاره الى المفكر والأديب العملاق (سيد قطب)، وخاصّةً في كتابه الشهير (معالم في الطريق)، والذي كان سبباً في إعدامه،
عبد العزيز بن باز
وقد نُقِلَ عن شيخ السلفيّة والمرجعيّة الوهابيّة المرحوم الشيخ (عبد العزيز بن باز) أنه اتهمَ (سيد قطب) في عقيدته، وذهب إلى عدم قبول كتبه، وتفسيره المشهور (في ظلال القرآن).
وما أحرى بنا - لدحضِ ما يُروِّجونه - أن نستندَ إلى الأدلة والحُجج الآتية:
أولاً: كون تنظيم (داعش) نابع من فكرِ الخوارج، كلامٌ لا أساسَ له مِنَ الصحّة، لأن فكرَ الخوارج الأوائل كان مبنيّاً على أُسس ثابتة، نتيجةً لواقعٍ سياسي أملي عليهم، ومن مظاهره:
1- تكفيرُ كلٍّ من (عثمان، وعليّ، ومعاوية، وعائشة، وطلحة، والزبير). 2- عدم اشتراط قُرَشيّة (الخليفة). 3- تأمين (أهل الذِمّة)، وعدم قتلهم أو انتزاع أيّ شيءٍ منهم. 4- العمل بالآياتِ القرآنيّة دون الأحاديث، وهم بذلك لا يطبقون (حدّ الرجم)، كونه لم يرد في القرآن. والآن تبيّن بوضوح أنهم ليسُوا خوارج، حتى وإن كانت تحركاتهم تبيّن أنهم خارجون عن الملة، ولكن استنساخ الأحداث لا يجوز، ف(داعش): 1- لا يكفّر هؤلاء الصحابة. 2- يشترط قرشية الخليفة، لذلك نصّب التنظيم (أبا بكر البغداديّ) باعتبارهِ قرشيّاً. 3- قام بتهجير (أهل الذمّة) وقتلهم. 4- العمل بالأحاديث، ومن أوائل ما قام به رجم المرأة، و(الخوارج) كانوا لا يؤمنون بالرجم؟ كونه لم يرد في القرآن الكريم. وهذا لا يعني أننا نبرّئُ ساحةَ الخوارج، فهم كذلك استخدموا الوسائل نفسِها في تكفير الآخرين، لكن المراجع والمنابع والأحداث تختلفُ تماماً، كما بيّنا.
أمّا كون التنظيم من خلفياتٍ إخوانية، نسبةً الى كتب (سيد قطب)، فأقول إن هذه حُجّةٌ باطلة من أساسِها، كون جماعة الإخوان المسلمين معروف عنها نهجها الوسطيّ وفكرها الاعتداليّ، ومنهجُها قائِمٌ على السلميّة التامّة، وتنظيراتُها الفكرية - التي أغنتِ المكتبة الاسلامية - استطاعت دفع ردود أفعال التيارات الأخرى، وشبهاتها، على الساحة السياسية والفكرية، وأكّدت مدنيّة الدولة الإسلامية، أمّا (سيد قطب) - فرغم وجود علامات الاستفهام عليه من قبل بعض قيادات الإخوان، وخاصّةً في المرحلة الأخيرة من حياته في السجن، وذلك لتعرّضه لأبشع أنواع التعذيب - فمن المنطقي، في ظلِّ ذلك التعذيب القاسي، أن تخرج كلماتُه بشيءٍ من القسوة، لكن من يقرأ كتبه يرى أنها قد ارتقت إلى مستوى التنظير، بل يمكنك القول إنه كان فيلسوف الحركات الإسلامية، دون منازع، خاصّةً وأن خلفيته الأدبية - مُضيفاً إليها عمق إيمانه بمبدئه- جعلت كتاباته تتميّز بالقوة في التعبير، والحيوية في المعنى، والعمق في المدلولات. وقد استطاع أن يحوّل الكلمة المكتوبة إلى حركةٍ حية، وإلى واقعٍ ملمُوس، وبعد أن مات في سبيل هذه الكلمات دبّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة، كما كان يردّد هذه الأمنيات.
محمد باقر الصدر
بل تجد أن مفجّر الثورة الإيرانية الإمام (الخميني) قد تأثر بكتبه، بحيث جعله من أكبر المفكّرين الذين تأثر بهم، حتى أنه ترجم كل كتبه إلى الفارسية. ولكي لا نطيل، فإن كل الحركات الإسلامية وقادتها، من إيران إلى العراق، بشقيها: السني الإخواني، متمثلاً في (الحزب الاسلامي العراقي)، والشيعي، متمثلاً ب(حزب الدعوة) العراقي، الذي أسّسه (محمد باقر الصدر) والذي ظهر تأثره واضحاً، في كتابه (فلسفتنا)، مروراً إلى باكستان، متمثّلاً بمنظّر الحركةِ الإسلامية هناك، السيد (أبو الأعلى المودودي)، الذي تأثّر بكتب (سيد قطب). وكلُّ هذه الحركات الإسلامية كانت لها منهجية واضحة في الحركة، تتبنّى الإرشاد والتوعية والإبلاغ، وتأسيس أحزاب مدنيّة - تقومُ من خلالها بإعادة نهضة الأمة، وإحيائها - بعيدة كل البعد عن العنف والإرهاب، وعن العقلية الجامدة، المرتبطة بالفتاوى من هنا أو هناك، وإقفال العقول والأفهام، والدخول في الدائرة الضيّقة من الحلال والحرام.
وما أحرانا هنا - لدحض ما رُوِّج زُوراً على أن خلفيّة (داعش) ناشئة من كتبِ (سيد قطب) - أن نستندَ إلى بعض الأدلة والحجج المنطقيّة:
1- لم ينصب (سيد قطب) نفسه، مطلقاً، عالماً دينيّاً، يفتي ويحلّل ويحرّم، والتي هي السمة البارزة لهؤلاء، ولا سيّما أن كتب (سيد) تتمتع بالعمق الفكري، ومن الصعوبة فهمها من قبل جُلّ هؤلاء، مِمّن لا يتمتّعون بالثقافة الإسلامية، بل أغلبهم يعانون من جهل كامل بالمفاهيم الإسلامية الواسعة، وقد تحدّث عن الحاكميّة وأصّلها، وبيّن مفاهيم المجتمع الجاهلي والإسلامي، ولكنه لم يشخّص للوصول إلى العالمية، تاركاً للأمة أن تعمل على إيجادها، وأول الوسائل هي وعي الأمة بإحداث صحوةٍ راشدة، تصل إلى يقظة شاملة، ومن ثم تتسع لتتحوّل الى النهضة الكليّة.
2- تحركات التنظيم في استخدام العنف المفرط، وغير المبرر، والإرهاب المنظم، وتفتيت أواصر المجتمع الواحد، للسيطرة عليهم، ينافي تماماً ما قاله (سيد) في تفسيره (في ظلال القرآن)، عندما فسّر الآية (77) في سورة النساء ما يلي: لماذا لم يأذن الله للمسلمين بالانتصار في مكة من الظالم، والرد على العدوان، ودفع الأذى بالقوة، وكثير منهم كان يملك هذا؟ ثم يقول: ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، وضبط أعصاب! ولأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ... وقد يدفع القتال إلى زيادة العناد، وإلى نشأة ثارات دموية... ويتحوّل الإسلام من دعوةٍ إلى ثاراتٍ دمويّة! واجتناباً إلى إنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت. فالذي تبيّن من تفسيره، هو فهمه العميق لمراحل الدعوة، وهو ما يُنافي تماماً ما يفعله هذا التنظيم في تحرّكاته، وما روّجه السلفيُّون المتشدِّدون لكي ينسبوا إليه أفكار التنظيم الآيديولوجيّة! طبعاً هو يؤمن بالجهاد، لكنه جهاد على بصيرة وإدراك.
3- المرجعية العقديّة للتنظيم هي الإيمان بوجود (خليفة)، وأن الخليفة يجب أن يكون عربياً، وقرشياً، وهو ما يؤمن به السلفيّون أيضاً، ويتسترون عنه، لذلك أكّدوا أن (أبا بكر البغدادي) قرشيّ الأصل! وهو تأصيلٌ بدعي، أصَّله الحكم العضوض، إبّان تولي الأمويين الحكم، وهم بذلك يوحون أن فترة الأمويين لا يجوز الطعن فيها، لأنهم يعتبرونهم أولياء المسلمين. فانظروا ماذا قال (سيد قطب) في قضية (معاوية) و(عمرو بن العاص)، مع (الإمام علي)، حتى نقطع شبهة السلفيين بيقين الدليل. يقول (سيد): إن معاويةَ وزميلَه عَمرًا لم يَغلبا عَليًّاً، لأنهما أعرَفُ منه بدخائل النفوس، وأخبَرُ منه بالتصرّف النافع في الظرف المناسب، ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح، وهو مقيَّدٌ بأخلاقه باختيار وسائل الصراع. وحين يركَن معاويةُ وزميلُه إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم، لا يملك عليٌّ أن يتدلَّى إلى هذا الدرك الأسفل، فلا عجَبَ ينجحانِ ويفشَل، وإنه لفشَلٌ أشرفُ من كلِّ نجاح. من كتاب (كتب شخصيات)، ولو كان (سيد) بين أيديهم، لقاموا بقطع رأسه، والحكم عليه بالردة!!
4- الحجج التي استدلّوا بها ثبت بطلانها، وذلك عندما كانوا يمنعون في (السعودية) كتب (سيد قطب) وتفسيره، بحجّة أنها تدعو إلى العنف والضلالة - حسب زعمهم -، وكان يحتجُّون على ذلك بالشيخ الملهم (ابن باز)، الذي أمر بمنع كتبهِ وحرقها، على الرغم من أنه لم يصل إلى علوّ مكانته العلميّة في تاريخ السعودية أحدٌ. ثم تبيّن في الآونة الأخيرة أن هناك كتابا للشيخ (ابن باز)، لم يُطبع، وتم طبعه لاحقا، ونشره بعنوان (تحفة الإخوان بتراجم الأعيان) يذكر فيه الشيخ (سيد قطب) كأحد هؤلاءِ التحف الإخوانية في تاريخ الحركات الإسلاميّة، ويدعو له في الكتاب بقبول الشهادة، ويذكر أنه كان يملكُ مؤلفاتٍ كثيرةً مفيدة، وأهمّها تفسيره (في ظلال القرآن)!
ولنعد الى السؤال الأساس، ألا وهو: مَنْ يقفُ إذن وراء الخلفية العقديّة والفكريّة لتنظيم (داعش)؟ وسيتبين لنا أن خلفياتها سلفيّة بامتياز، وسنرى ذلك بوضوح من خلال هذه الأدلّة :
1- إن (داعش) يتبع منهج (أهل الحديث) نفسه، ذلك المنهج الذي تستند إليه السلفية اليوم في اختيار الإمام والحاكم أو الخليفة، وهو أن يكون قُرَشِيَّ النسب كشرطٍ أساس. يقول ابن تيمية: وَأَمَّا كَوْنُ الْخِلَافَةِ فِي قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ، كَانَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةً مَنْقُولَةً مَأْثُورَةً يَذْكُرُهَا الصَّحَابَةُ(منهاج السنة: 1/ 521).
2- قضية التكفير المستوحاة من الإرث السلفي، صحيح أن الشيخ ابن تيمية كانت له اعتباراته الجيوسياسيّة، إلاّ أنهم يسوقون هذا الفقه التاريخي والفتاوى المدونة عندهم، ويجعلُونها في مصافِ الكتب التي لا يمكن المس بها، وتقديرها الى درجة القداسة والعصمة! يقول ابن تيمية أيضاً: ...وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب(مجموع الفتاوى: 35/ 159). فنجد أن أوّل العمليات التي قام بها (داعش) هي محاولة تصفية الفصائل الإسلامية الموجودة، بغية استقطابِ أعضائها حول نفسه، بعد الاستتابة، مثل (جبهة النصرة) الإسلامية المرتدة، حسب رأيها، وقتالها قبل قتال النظام السوري الكافر.
3- تعاملهم مع الطوائف والديانات الأخرى ينطلق من منطلق إرثٍ فقهيّ مرتبطٌ بإرثِ ابن تيمية، الذي -كما قلنا- تم تسويقه حسب مفاهيمهم البدوية. فقد أخذ بعض السلفيين من الشيخ حِدَّة مزاجه في أوضاع سياسية ملتهبة، وآيلة على الانهيار، حينها، ولم يأخذوا منه سعة علمه. يقول ابن تيمية بشأن الدروز والنصيرية: فهؤلاء كُفّار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية، فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين، ولا يهود، ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما حرّم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما. وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد، فهم كُفّار باتفاق المسلمين(مجموع فتاوى ابن تيمية: 161)، لذلك فلا غرابة أن تكون ردة فعلهم على الطائفة اليزيدية، التي هي على مقربة من الطائفة الدرزيّة، وكذلك تعامُلهم مع طوائف الشيعة العلوية، الذي كان من منطلق عقديّ تاريخيّ.
4- قيام (داعش) بهدم الكنائس وأماكن العبادة للديانات الأخرى، نابع عن فلسفة سلفيّة، تميّزت بالظهور الثاني لإحياء السلفية، في عهد الشيخ ابن عبد الوهاب، كحالةٍ خاصّة مرتبطة بواقعٍ ما، وكاجتهاد بشريّ غير معصُوم، جعل المنهجية السلفية الحديثة أصلاً من أصُول مفهوم العقيدة الخالصة، لا يجوز التجاوز عنها، ومستوحاة من فتوى الشيخ ابن تيمية، عندما قال: ...إن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة، كأرض مصر والسواد بالعراق، وبر الشام، ونحو ذلك، مجتهداً في ذلك، ومتبعاً في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلماً منه، بل تجب طاعته في ذلك(مجموع الفتاوى: 28/ 634). وقوله أيضاً: ...بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة، كالعراق ومصر، ونحو ذلك، فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة، لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسةٌ بعد عهد(مجموع الفتاوى: 28/ 635).
5- تحرّكات تنظيم (داعش) في المسارعة في هدم الأضرحة والقبب وقبور الأنبياء، نابعةٌ عن خلفيّة سلفيّة وهابيّة، قامت بهذا الفعل منذ قرون، وما زالت تفعل. لذا فإن أوّل عمليّة قام بها التنظيم عند قدومه إلى العراق هو هدم قبر النبي يونس وتفجيره، وهدم قبر النبي جرجيس، غير مبالين بالعُمق الثقافيّ والفكريّ الذي يرمز إليه هذان القبران، والذي تتميّز به مدينةٌ عريقة مثل مدينة الموصل، متناسين عدم صدور مثل هذه الأفعال عن الصحابة حين قدموا إلى العراق، فضلاً عن (مصر)، المدينة العريقة التي ولاّها الصحابي عمرو بن العاص، الذي دخلها ولم يفكّر في هدم أضرحة الفراعنة، المتمثلة بالأهرامات، ولا حتى صنم أبو الهول، كرموز ثقافية تعبّر عن قِدَم هذ البلد وعراقته. وقد التمسوا أدلّة لهذه العلميات من فتاوى تابعة لممثل السلفية في السعودية، ومفتي الديار السعودية، بل المشرف على فتاوي العلماء، وهو الشيخ الملهم (عبد العزيز بن باز)، عندما أفتى عن قبور الأنبياء، أمثال النبي يونس، فاختزل إجابته بالقول: أمّا قبر يونس فلا يعلم أنه في نينوى، وجميع قبور الأنبياء لا تعلم ولا تعرف، فدعوى أنه موجود في نينوى أو في غيرها أمرٌ باطِل لا أصلَ له، وقد ذكر العلماء أنه لا يوجد قبرٌ معروف من قبور الأنبياء البتة، إلاّ قبر نبينا محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) في المدينة، وإلاّ قبر الخليل في الخليل في المغارة المعروفة، هذا هو المعروف، أما قبور بقية الأنبياء فغير معروفة، لا يونس ولا غيره من الأنبياء والرسل، قبورهم الآن غير معلومة، ومَنِ ادّعى أن قبر يونس موجود، أو فلان، أو فلان، فكلّه كذب لا صحّة له، ولا نعلم نبياً يُقال له: جرجيس، ولا يعرف من الأنبياء من يسمى: جرجيس، فالمقصود: أنه ليس هناك قبر نبيّ معروف غير قبر نبينا محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) في المدينة، وغير قبر الخليل في بلد الخليل في المغارة المعروفة. وكون المنهجية السلفية تؤكّد هدم القبور المبنية، أو التي يتم زيارتها بنية التبرّك او الدعاء، فيجب إزالتُها وهدمُها، لأنها من الشرك الذي يخرج المرء من الملة، ويجب المسارعة في محو هذه الآثار، كعملية استباقية لبتر جذور الشرك.
وبناءً على ما سبق يتبيّن بوضوح أن العقلية والخلفية الآيديولوجية ل(داعش) هي سلفية بامتياز، ولكن هل هي قابلة للانتشار، أظنُّ ذلك!
- فعندما تقف الدول المهيمنة، والدول القبلية الموالية، بقوة البترودولار، أمام الثورات الشعبية، بكل ما أُوتيت من قوة وعنف.
- وعندما تتخلّى الدول الداعية لحرية الشعوب وتأسيس الديمقراطية، عن مبادئها، بل تقوم بالانقلاب على هذه المبادئ، عن طريق حلفائها القُدامى، على أوّل عملية ديمقراطية في (مصر)، كموقع يضفي تأثيره على المنطقة برمتها، بغضّ النظر عن سلبياتِ الأداء، ودخول آيديولوجيات متشدّدة، لم تكن تؤمن بهذه العملية، بل كانت بعضها ذات سوابق جهادية، تحوّلت مع مجريات الواقع إلى مشاريع مدنيّة، تتجه نحو هذا المنحى كواقع مدني فرض عليهم، بل كانوا أسرع من بعض التوجهات العلمانية إلى منحى الديمقراطية.
- وحينما يؤتى بالجزّار القديم - أمام أعين الملأ، وعلى مرأى البلدان الحرّة - ليقومَ بذبح الديمقراطية، ويُكافَئ بمكافآتٍ مجزية من قبل الدول راعية السلام!!
- وعندما كانت ثورة سوريا، في بدايتها، ثورة مدنية بحتة، تنادي بحقوقٍ مشروعة فقط، تحوّلت جراء عنف نظامها إلى ثورةٍ مسلّحة، تمثلت ب(الجيش الحر)، الذي كان منضبطاً بمطالب معينة، لكن بخلفية مسلحة، جراء عنف النظام السوري، فكانت ردة فعل الدول المهيمنة وحلفائها أيضاً هو الدخول لا للحلّ، ولكن لسحب البساط عن تطلعات الشعب، ليُحرموه من حلم الحرية والديمقراطية.
- فالشعوب حتماً ستتجه تلقائياً نحو العنف المضاد، عندما تجابه بثورة مضادة لثورتها، فالعنف لا يولد إلاّ عنفاً.
- ومن هنا كان تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام، الحاضنة التي التحق بها آلاف الشباب، لا سيّما بعد ما حظيت بقوة الانتشار السريع والتمدّد الملفت (بغض النظر عن ملابسات ظهوره، ومن يقف وراءه، أو مصادره المالية).
- استخدام الدول المهيمنة، وحلفاؤها، ازدواجية المعايير في التعامل مع فئة دون فئة، بحيث يستولي (الحوثيون) على أغلب مناطق اليمن، وهم لا يمثلون إلاّ 3% من الشعب اليمني، ولا يستنفر الغرب لهم، ولا يتهمونهم بالإرهاب!
- وتأتي فترة العلاج بعد طول انتظار، وبعد انتشار هذا التنظيم الداعشي في كُلِّ مكان، وذلك بضربه من كُلِّ الجهات، وبجرعات علاجية مكثفة، عن بعد، ولا يستثنون منه أحداً، وبدون وضع حلول مدروسة ومنضبطة لمحاصرة المرض، ثم إعطاء الجسم السليم حق الحياة، والذي سيكون مردوده استنزاف طاقةٍ كبيرة من جسمه، هذا من جهة، لكن من جهةٍ أُخرى سيستقطبُ قوةً جديدة - كقانون من قوانين الصراع من أجل البقاء - من جهات أُخرى، تزوّده مزيداً من الدماء الثائرة على الوضع المتردّي، الذي تُرك قصداً دون أي علاج، فهناك وراء الأحداث يتمّ شحن الهِمم، وهناك دماء تغلي خلف الأسوار، ولله عاقبة الأُمور في كُل حال.
نشأة التنظيم:
إبّان الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م ظهرت جماعات مسلحة، منها (جماعة التوحيد والجهاد)، ثم تحوّلت إلى (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين)، بقيادة أبي مصعب الزرقاوي الأردني 2004م، الذي قُتل عام 2006م، وبعدها أُعلن تشكيل (دولة العراق الإسلامية) بزعامة أبي عمر البغدادي، الذي قُتل هو أيضاً عام 2010م، من ثم تزعّم التنظيم (إبراهيم عبود السامرائي)، الملقّب ب(أبي بكر البغدادي)! انكمش دورهم في المناطق الصحراوية بين العراق وسوريا، بعدما نجحت الحكومة العراقية بتشكيل صحوات من العشائر في الأنبار وصلاح الدين، وغيرها من المناطق، وبإشراف أمريكي، وكان النظام السوري يغضُّ الطرف عنهم، بل كان يسهل عليهم -عن طريق المخابرات- مرور الإمدادات والعناصر إلى داخل العراق، للقيام بعملياتٍ ضدّ القوات الأمريكية، وعندما استقوت التنظيمات الثائرة على النظام السوري، مثل الجيش الحر، وجبهة النصرة، وغيرها من الفصائل، قامت المخابرات السورية بإفساح المجال لتنظيم الدولة الإسلامية بالعمل، وهو بدوره قامَ بالسيطرة على المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، وأعلن أبو بكر البغدادي في نيسان 2013م، من طرفٍ واحد، دمج تنظيمي (دولة العراق الإسلامية) و(جبهة النصرة)، وأعلن عن اسمها الجديد، وهو (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ومختصرها (داعش)، وقد رفضَ (الظواهري) هذا القرار، كما رفضَه قائد جبهة النصرة، الذي بايع (الظواهري)، وهو (أبو محمد الجولاني). وبعد صراعات ومعارك ضد معارضي النظام السوري، سيطر التنظيم على مناطق شاسعة من سوريا، منها محافظتي (الرقة) و(دير الزور)، المجاورة للحدود العراقية، وبدعم لوجستي للنظام السوري. وفي بداية عام 2014 احتلّ التنظيم مدينتي الرمادي والفلوجة في العراق، لكن تمّ استعادة السيطرة عليها من قبل الحكومة العراقية، وفي 10 من حزيران 2014 سيطر التنظيم بشكل مفاجئ على مدينة الموصل، بعد انسحاب غريب من قبل أربع فرق كاملة للقوات العراقية، تاركةً وراءها أسلحة أمريكية ثقيلة، تقدّر بملايين الدولارات! وتحرّك إلى محافظة صلاح الدين، وبعض مناطق كركوك، إلى جلولاء في محافظة ديالى، وبعض مناطق بغداد، وقد التحق الكثير من أهلِ السُنّة بهذا التنظيم، وذلك بسبب الممارسات التعسفيّة، والقمع المبرمج، والتهجير الطائفي، والاغتيالات المنظّمة، التي طالت كل قياداتهم ومشايخهم، وكل من لديه خلفية ثقافية أو علمية، ناهيك عن العبث العشوائي بأهل السنة من قبل حكومة المالكي الطائفيّة، وعليهِ نظرَ الكثيرون إلى تنظيم (داعش) باعتبارهِ حبلَ النجاة من الإبادة الطائفيّة المبرمجة! والمعروف أن هذا التنظيم يتألّف من خلفياتٍ متعدّدة، وهو مقسّم إلى طبقاتٍ، يمكن ذكرها على حسب أهمّيتها، كالآتي:
1- الطبقة المحرِّكة لهذا التنظيم، والذي يشملُ (قياداتٍ متقدّمة من النظام السابق، مع ضباط الحرس الجمهوريّ، والقيادات المخابراتية البعثية)، وهذه هي الطبقة المحرِّكة للتنظيم.
2- الطبقة الثانية، وهم الغلاة، وهي الطبقةُ التي تشكّلت تحت وطأة التعذيب والسجن والتشريد، وفي ظلِّ العنف والقمع الذي كانت الحكومات العربية تمارسه بحقّ مواطنيها، الأمر الذي جعلها تبرِّر أعمالها من خلال إحياء فكرة الموروث القديم، الذي يمثل عهود التشدُّد والعنف، والخروج عن مفهوم الملة.
3- الطبقة الثالثة، وهم المغرَّر بهم من الأجانب، كالشيشانيين والأوروبيين والشباب الشرقيين حديثي السن، ومن سفهاء الأحلام، مِمّن غرّتهم الشعارات البرّاقة والصور المخادعة للواقع، إلى جانبِ المنهجيّة الفكرية المغلوطة، وهؤلاءِ تمّ تسهيلُ أمورهم مخابراتياً، بغية التخلّص منهم في بلدانهم، كما هو حال الشيشانيين، فالروس استفادوا من تصفيتهم عبر حدود نفوذها في القوقاز، وكذلك المضطهدون من بطشِ حكومة المالكيّ في العراق الطائفية.
4- طبقة النفعيين والمرتزقة، مِمّن يدورون حول مكاسبهم الشخصية ومصالحهم، والعربان الذين لا يعنيهم إلاّ النهب والسلب، بأيّ اسم أو شعار، أو مِمّن يبحثون عن النجومية والشهرة والألقاب!
أسباب النشوء:
أولاً: قلنا من البداية إن الجذور الفكريّة لهؤلاءِ هو الفكر السلفيّ، لكن تم تطويره لكي يلائم الواقع المعاصر، وملابساته. حيث اكتسب التنظيم جذوره الفكرية من العقيدة السلفيّة الجهاديّة، وهو فكرُ القاعدة نفسه، لكن بصورة أكثر قسوة، وبإضافات فكريّة جديدة، كمفهوم الخليفة، وكذلك الإمعان في فكرة التكفير، واستباحة الدماء، والتعصّب الفكري، مع عدم الإيمان بالاختلاف، فضلاً عن إسقاط أحكام فقهية سابقة على واقع مُغاير، دون مراعاة الزمن والعلّة، وتميّزهم بالغلو والتطرّف والتنطّع والتشدّد والتعسير، والإيمان اليقيني باستخدام العنف والقسوة في تحقيق أهدافهم.
ثانياً: إن الواقعَ السياسيَّ الذي تم فرضه على شعوب المنطقة - من قبل الحكام المستبدين -، ما يقرب قرناً من الزمن، فتح المجال للفكر المتشدِّد. ففي ظلِّ الحكُومات الاستبداديّة، استُخدِم أشدّ أنواع التعذيب والوحشية والعنف، فضلاً عن السجون والاعتقالات، التي كانت تطال كل من يعارض أو يخالف سلطة الحكّام. وكما هو معلوم، فالتوحش الدكتاتوري يقوي التوحش التشدّدي التكفيري، ناهيك عن الوضع الذي أعقب هذا التسلط مُتمثلاً في الفساد الاقتصادي، مما أدّى إلى تفشي ظاهرة الفقر والاحتكار ونهب الثروات وانتشار الجهل. وكما هو معلوم، فالعنف ينتشر بسرعة في مثل هذه البيئات!
ثالثاً: الدول المهيمنة الراعية للسلام، وحقوق الإنسان، كان لها دور كبير في تغذية هذه الحكومات الجائرة، كمت أنها لم تعبأ بالحركات الإسلاميّة المعتدلة، ذات الطابع المدنيّ، تلك الحركات التي ظهرت بقوّة في البلدان العربيّة والإسلاميّة، التي كانت سجونها تعجّ بالأحرار.
مَنْ يدعمُ (داعش):
من المؤكّد أن بداية انتشارهم في سوريا كان بدعمٍ مخابراتي من النظام السوري، وهذا النظامُ كان يُدعم بشكل علنيّ من قبل إيران، والدليل على ذلك أن (أبا أيمن العراقيّ) مثلاً، كان يحتلُّ المراتب العليا في تنظيم الدولة، على الرّغم من كونه من الطائفة الشيعيّة، وقد كان سابقاً من قيادات النظام السابق، وقد ادّعى أنه تمذهب بمذهب أهلِ السُنّة والجماعة، وهو وأمثاله هم مِمّن يتحكّمون في القرارات العليا لهذا التنظيم. وكذلك إسرائيل كانت تصرخُ أنها ضدّ سقوط نظام بشار، وكان سلاحهم - إبّان انتشارهم، وبداية دخولهم العراق - إسرائيليّاً، فقد كان سلاحاً غريباً، ولم يكن موجُوداً حتى في السوق السوداء!
فالدول المتنفذة قد أرادت - في هذه المرحلة - عدم التدخل أو التصادم مع الخصوم، وكانت تستهدف أن يتقاتل الخصُوم بعضهم مع بعض لتكون هي المنتصرة، وتخرجُ من المعركة دون خسائر بشريّة، وتقضي في النهاية على خصومها مِنَ الطّرفين، باستنزاف قدرات الجانبين! فالغاية الرئيسة من سياسيات الدول المتنفّذة هي:
- استقطاب الساحة السنية نحو الفكر المتشدّد، والعنف.
- إرغام الشعوب على تقبُّل أنظمةٍ استبداديّة في المستقبل، كونها أرحم من حُكم (داعش)! وتبقى الديمقراطية في طي النسيان.
- إبقاء المنطقة سوقاً استهلاكية لتجارة الأسلحة، واستخدام كفاءاتها التقنية، والتي تعدُّ تجارة رائجة لدى الغرب، والحصُول على النفط الخام في السوق السوداء بأرخص الأثمان!
- تقسيم المنطقة في المستقبل - من خلال هذا التنظيم الأخطبوطيّ - إلى دويلاتٍ وأقاليمَ لا تغني ولا تسمن من جوع، حتى تبقى إلى الأبد تحت هيمنة هذهِ الدول، ورهن إشارتها، وإعادة صياغة اتفاقيّة (سايكس بيكو) بحُلّة جديدة، من أجل تحقيقِ مصالح الدول الكُبرى في القرن الحادي والعشرين. [1]