قاسم عباس إبراهيم الجرجري
ولد الشيخ (سعيد ميرزا النورسي) سنة 1876م في قرية (نورس)، التابعة لولاية (#بدليس# )، إحدى الولايات الكوردية في (تركيا)، من أبوين كورديين وأُسرة عريقة كريمة فاضلة في التقوى. تعلّم القراءة والكتابة على يد أخيه ملا (عبدالله)، وملا (محمّد أمين أفندي)، لكن تحصيله الفعليّ بدأ على يد علماء الدين في قضاء (بايزيد)، منهم الشيخ (محمد الجلالي)، و(فتح الله أفندي)، حيث أدهشهم بذكائه وذهنهِ المتوقّد وقوّة ذاكرته في الحفظِ والاختزان. وأوّلُ ثقافةٍ دخلت إلى عقلهِ، واختزنت في قلبه: القرآن الكريم، فأصبح عاشقاً له، وصار له إماماً ونوراً وهدىً ومنهجاً، وكرّس معظم أوقاته من أجل العلم والمعرفة، فلا رغد ولا راحة ولا لهو ولا
طفولة، ولا حتّى الزواج، سوى التوق إلى المعرفة. فبدأ بدراسةِ علوم النحو والصرف والبلاغة، وتعمّق فيها، ثمّ عكفَ على دراسةِ التفسير والحديث والفقه، ومن ثَمّ التبحُّر في العلُوم التجريبيّة والكونيّة، لأنه كان يرى أن العلومَ الدنيويّة والكونيّة مكملان لبعضها البعض. وكان يؤكّد دوماً أن العالِم الدينيّ يجب أن يكون عالِماً لا جاهِلاً بتلك العلُوم، إذ يقول: ..فالإصلاح يبدأُ من قيامِ المدارس الحكوميّة بتدريسِ الدين بجانبِ العِلم، وقيام المدارس الدينيّة بتدريس العلُوم الحديثة، لكي لا ينحرفُ طلاّبها إلى التعصُّب، أو إلى ضيق الأُفق.
لقد تنامت معرفته، وذاع صيته، في مختلف المدن والقرى الكورديّة والتركيّة، حتّى أطلق عليه اسم (بديع الزمان). سافر إلى ولاية (ماردين)، حيث قام بتدريس العلُوم، من التفسير والحديث والنحو والفقه، في مدارسها، مدةً من الزمن، ليعود إلى مدينة (وان)، ويقوم بإنشاءِ مدرسةٍ فيها باسم (خور خور)، ويضع لها مناهِج دراسيّة متطوّرة، بما فيها العلُوم العسكريّة. ومكث في (وان) سنواتٍ طويلة، أمضاها في التدريس والمواعِظ والإرشاد، وترسيخ الإيمان والعقيدة في قلُوب النّاس، وتسوية النزاعات الشائكة بين العشائِر الكُورديّة، التي كانت غارِقة في الجهلِ والأُميةِ والتخلّف. كان طمُوحه أكبر من إنشاءِ مدرسة، أو إعطاء الدروس، وكان يطمحُ إلى إنشاءِ جامعةٍ باسم (جامعة الزهراء)، على غرار (جامعة الأزهر) في (القاهرة)، حتّى أنه سافرَ لهذا الغرض إلى (استانبُول)، لكنّه لم يلق آذاناً صاغية، فعاد إلى (وان)، واستمرّ في الإرشاد وإعطاء الدروس، وهو فائِض الديناميكيّة والحركة. وقرّر الدخول إلى المعترك السياسيّ، ليتمكّن من نقلِ أفكارهِ في الإصلاح السياسيّ والإداري إلى قمّة هرمِ الدولة، على الرغم من الظروف والتحديات. لكن تحلّيهِ بالشجاعة والعزيمة، وإيمانه العميق بصوابيّه مبادئه الإصلاحيّة، جعله يتوجّه إلى (استانبول) مرة أخرى، لعرضِ مشروعه، فاستقبل هذهِ المرّة بحفاوة من قبل علماء استانبول ومثقفيها وأُدبائها، منهم الشاعر المعروف (محمّد عاكف)، والسيد (حسين فهمي باش أوغلو)، واستطاع عرض أفكاره ومطالبهِ على السلطان (عبدالحميد الثاني)، والتي كانت أهمها:
- الاهتمام بالولايات الكُورديّة، التي كانت محرومة من كافّة أنواع الخدمات التعليميّة والصحيّة.
- فتح جامعة في كوردستان تركيا باسم (جامعة الزهراء).
- الابتعاد عن الاستبداد، وإصلاح نظام الحكم.
وللأسف الشديد، تمّ التعامل مع هذهِ المطالب العادلة والمشروعة باتهام (النورسي) بالجنون، وذلك لتشويه صورته، وكسر إرادته، فتمّ نقله بأمرٍ من السلطان إلى مشفى المجانين. وبعد معاينته من قبل الطبيب المعالج، اندهش واستغرب من سلامةِ تفكيره، واستقرار حالته النفسيّة والذهنيّة، فكتبَ الطبيبُ تقريرَهُ عن حالته، وأرسلها إلى القصر: ..لو كانت هناك ذرة من الجنون عند (النورسي) إذاً لَمَا كان هناك عاقِلٌ واحِدٌ في الدنيا.
بعد اطّلاع القصر على تقرير هذا الطبيب، كلّف السُلطان (عبدالحميد) وزير الأمن (شفيق باشا) بتكريمه، وإعادة الاعتبار إليهِ، لكنّه رفضَ وسَخِرَ من تكريمهم. لم تنكسر عزيمته، ولم ييأس من هذا الأذى المعنويّ، ولم يتراجع عن مبادئه وقيمه، وهو الذي وهبَ حياته للإسلام، وشهر قلمه مُدافعاً عنه، ووقف أمام المد الإلحادي والغزو الثقافي، من أجلِ إحياءِ نهضةٍ إسلاميّة جديدة، وهو يُدرك أنه سيواجه التحديّات والصعاب والقسوة والوحشيّة والأذى المعنويّ والجسديّ من أجل رسالته ومبادئه..
ومن (استانبول) يتّجه إلى (سلانيك)، حيث مركز (جمعيّة الاتحاد والترقّي)، ويلتقي بقادتها، الذين تولّوا فيما بعد عزل الخليفة، وإعلان الجمهوريّة، والذين حاولوا كسبَ ودّه ورأيه، غير أنه عارضهم بشدّة، وحذرهم مِمّا يقومون به، في خطابه الذي ألقاهُ في (ساحةِ الحريّة)، شارِحاً المفهوم الصحيح للحريّة قائِلاً:
...إن الحريّة التي يجب أن يُنادى بها، هي الحريّة التي تكون في إطارِ الشريعة الإسلاميّة، لا الحريّة الفوضويّة التي لا حدود لها. وكذلك قوله: لقدِ اعتديتم على الدين، وأدرتُم ظهرَكُم للشريعة. وخلال وجُوده في (سلانيك) يسمع بقدوم مفتي الديار المصريّة، الشيخ (محمّد بخيت)، إلى (استانبول)، فيعود إلى (استانبول)، ويلتقي به لبحث أوضاع العالَم الإسلاميّ معاً. ويسأله مفتي الجمهوريّة عن رأيه في الحريّة الموجودة الآن في الدولة العثمانيّة، وفي أوروبا، فيجيبهُ (النورسي): ...إن الدولةَ العثمانيّة حبلى حاليّاً بجنين أوروبا، وستلدُ يوماً ما. وأمّا أوروبا، فهي أيضاً حبلى بجنين الإسلام، وستلدُ يوماً ما. أعجب المفتي بهذهِ الأجوبة، وأيّدهُ في هذا الرأي، واعترفَ بقدرته، وغزارةِ علومهِ، قائِلاً: لا يُناظر هذا الشاب، ولا يُمكن أن أغلبه.
وشعرَ (النورسي) بخطورةِ الجمعيّات، وخاصّةً (جمعيّة الاتحاد والترقّي)، فضلاً عن المؤامرات التي بدأت تحاك ضِدّ الدين الإسلاميّ، وطمسِ معالِم العالَم الإسلاميّ، والنخر في شجرةِ الوحدةِ الإسلاميّة، ومعهُ الغيورون على دينهم. وانصرفَ إلى تأسيسِ الجمعيّات والاتحادات، وإلى الصِحافة والتأليف والكتابة، لمواجهةِ تلك المؤامرات، ففي عام 1908م، تمّ تشكيل أوّل جمعيّة كورديّة علنيّة في (استانبول)، باسم (جمعيّة التعاون والترقي الكورديّ)، انضمّ (النورسي) إليها، وكان لهُ دورٌ بارِز في رسمِ سياستها. كما أصدرت هذهِ الجمعيّة صحيفةً أسبوعيّة باسم (كردستان تعاون وترقّي)، فكان (النورسي) من أهمِّ كُتّابها. وفي العام نفسه 1908م، قام (النورسي)، وتلميذاه (خليل الخياليّ) و(حمزة مكسي) بتأسيس جمعيّة (بعث كُردستان)، وقامت هذهِ الجمعيّة بفتح (المدرسة الدستوريّة) في (استانبول)، لتعليمِ أبناءِ الكورد القراءة والكتابة. ويعتقل (النورسي) في عام 1909م، بسبب مقالةٍ نشرها في صحيفة (البركان)، لسان حال (الجمعيّة المحمديّة)، ولكن المحكمة العسكريّة برّأته. وتزامن اعتقاله مع ضُبّاطٍ في حادثةٍ مدبّرة، حيث أطاحت (جمعيّة الاتحاد والترقّي) بالسُلطانِ (عبدالحميد الثاني).
ويقرّر (النورسي) نشر أفكاره في الإصلاح خارج (تركيا)، فسافرَ إلى بلادِ الشّام، وكان ذلك في سنة 1911م، وحلّ ضيفاً على علماءِ مدينةِ (دمشق) ووجهائِها، وألقى خِطاباً مهمّاً في (الجامعِ الأُموي)، عرضَ فيها رؤيته في الإصلاح، كما حدّد أمراضَ المجتمع، وطرق مُعالجتها. ثم انتقل إلى (بيروت)، وبعدها يعود إلى (استانبول)، ويلتقي بالسلطان (محمّد رشاد)، ويؤكّد مطلبه في إنشاءِ (جامعةِ الزهراء) في كُوردستان تركيا، واستطاع أن ينتزع منهُ الموافقة، ولكن غليان المنطقة، وأحداث الحرب العالميّة الأُولى، حالت دون إتمامِ الجامعة.
كان (النورسي) صاحبَ عقيدةٍ وإيمان، ويؤمنُ أن حُبَّ الوطن من الإيمان، فعندما أعلنت كلٌّ من (اليونان وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود) الحرب على (تركيا)، قامَ (النورسي) بتشكيل فرقٍ من المتطوعين الكُورد من كُوردستان تركيا، وقاد كفاحاً بطوليّاً. وعندما بدأتِ الحربُ العالميّة الأُولى (1914- 1918م)، يُطلق (النورسيّ) مع مجموعةٍ من العلماء فتوى الجهاد، فضلاً عن قيامهِ بقيادةِ متطوعين من الكُورد للدّفاعِ عن الوطن، وخلال المواجهة مع الجيشِ الروسي يُصاب، ويقع في الأسر، ويُساق إلى معسكراتِ الأسرى في (سيبيريا)، وذلك في عام 1916م. وبلطفٍ من الله تمكّن من الفرار من المعكسر، وعبر رحلةٍ شاقّة يصلُ إلى (استانبول)، في 8 تموز 1918م، ويُستقبل استقبال الأبطال، ويعيّن عضواً في (دار الحكمة الإسلاميّة)، ويدعوهُ (كمال مصطفى أتاتورك) إلى زيارةِ (أنقرة)، ويلقي في برلمانها خطاباً، عاتبه (كمال أتاتورك) على مضمونه، لكنّه ردّ عليهِ بقوله: يا باشا إن أعظمَ حقيقةٍ في الإسلام هي الصلاة، والذي لا يُصلّي خائنٌ، وحكمُ الخائِنِ مردود. كما اعترضَ (النورسي) على نصب تماثيل (كمال أتاتورك) في الأماكِن العامّة، قائِلاً له: إن هجُومَ قُرآننا العظيم إنما ينصبّ على التماثيل، أمّا النصب التذكاريّة التي يجب على المسلمين إقامتها، فهي المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام ودور العبادة وشق الطرق. عاد إلى مدينةِ (وان)، واستمرّ على نهجهِ ومسلكهِ السليم في إرشادِ النّاس إلى الخير، وإلقاء الدروس، وعندما قامَ الشيخ (سعيد بيران) بالثورةِ على حكومةِ (الاتحاد والترقّي)، من أجلِ الحريّة والاستقلال في عام 1925م، تمّ إخمادها من قبل هذهِ الحكومة، وأُلقي القبضُ على الشيخ ورفاقهِ، وتمّ إعدامُهم. ثم اعتقل (النورسي)، على الرّغم من أنه لم يُشارِك في هذهِ الثورة، لأنه كان يُدرك وحشيّة حكومة (الاتحاد والترقّي)، وارتباطاتها بالقوى الغربيّة، وتمّ إحالته إلى (استانبول)، ومن (استانبول) إلى (بوردور) و(أسبارطة) و(بارلا)، التي ظلّ فيها تحت الإقامةِ الجبريّة حوالي ثماني سنوات، ومنها إلى زنزانةٍ انفراديّة في (أسبارطة)، وينتهي به المطافُ في (سجنِ أفيون)، ويخلّى سبيلهُ عام 1949م. ويعتقلُ أيضاً بسبب قيام طُلاّبه بطبعِ رسالةِ (مرشد الشباب) في (استانبول)، ويخلّى سبيلهُ كذلك في عام 1952م. وبسبب رفضهِ لبس القبّعة يُعتقل أيضاً. ويقومُ بجولةٍ واسِعة في جميعِ أنحاءِ تركيا، وخاصّة مواقِع اعتقاله، ثم يعود إلى (أورفة) في 20/ 3/ 1960م. وفي 23/ 3/ 1960م توفي رحمه الله رحمةً واسِعة.
حركة النور (رسائِل النور)
أسّس (النورسي) هذهِ الحركة في كُوردستان تركيا سنة 1899م، ووضع لها أهدافاً وأسساً وضوابِطَ، وحدّد موقف هذهِ الحركة من مُختلف القضايا، منها مقاومة الاستعمار، وطردهِ من بلادِ المسلمين، ومُحاربة الطغيان والظلم والاستبداد، والجهلِ والتخلّف، والدعوة إلى العدالة والحريّة الحقيقيّة، وإلى كُلِّ شيءٍ جميل وعظيم من شجاعةٍ وصدقٍ ومروءةٍ واستقامةٍ وحفظِ الحقوق، فضلاً عن حياةٍ حرّةٍ كريمة، وغيرها. لأنه كان يُدرك أن كُلَّ شيءٍ يكون مُصاناً تحت سقفِ الشريعةِ الإسلاميّة، وبالتالي لن يعيشَ الإنسان عظيماً وحُرّاً كريماً إلاّ بالشريعةِ الإسلاميّة. وحركةُ النور: هي عبارةٌ عن جماعةٍ إسلاميّة إصلاحيّة مستقلّة، تتلقّى تعليماتِها من نورِ القرآن الكريم، وهدفها إبرازُ مزايا القرآن الكريم. يقولُ (النورسي) عن هذهِ الحركة: إن رسائِل النور ليستْ طريقةً صوفيّةً، بل حقيقة نور مفاضٍ من الآياتِ القرآنيّة. ولم تستق من علوم الشرق، ولا من فنون الغرب، بل هي مُعجزةٌ معنويّة للقرآن الكريم خاصّ لهذا الزمان. وقد استطاعت هذهِ الحركة - على الرغمِ من التحديات والعواصف الهوجاء، وخاصّةً من (جمعيّة الاتحاد والترقّي)، وبعض أتباع الطرق الصوفيّة - أن تشقّ طريقّها بنجاح، وتلقي بظلالِها على تركيا وبلادِ الشّام والهند وألمانيا.
(النورسي) ومشروعه الإصلاحيّ (إصلاح الذات - إصلاح المجتمع)
كان منهجُ (النورسي) في الإصلاح ينطلِقُ من الفرد، فبدأ بنفسهِ، ومن ثَمَّ طلاّبه، ومحيطهِ القريب والبعيد، وفي إصلاحِ الأُسرة، التي هي نواة المجتمع. أمّا أهمّ أولويات مشروعهِ الإصلاحيّ، فكان إصلاحُ الحكم، الذي دخل الفساد الإداري في مفاصله ومؤسساته، وتشبع بالأفكار الغربية السلبيّة، والقيم الغريبة عن روحِ الإسلام وجوهره. وكان ينصحُ السّلاطين، كما كان ينصحُ (مصطفى كمال أتاتورك)، وكان يدعوهم إلى القيامِ بالإصلاحاتِ الشّامِلة لكُلِّ جوانبِ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والخلقيّة. أمّا آليّة تطبيق هذهِ الإصلاحات عند (النورسي)، فكانت تعتمِدُ على التدرُّج واتباع الحكمة والمرونة والصدق والإخلاص، والتمسّك بسلاحِ الصّبر في كُلِّ معركةٍ من معارِك الحياة، وإبراز حقيقة الإسلام، ونشر الدعوة الإسلاميّة. وقدّم دراسةً وافيةً وشافية عن كلّ الأزمات والأمراض التي كان يعاني منها المجتمع، فحدّد الداء والدواء، وسلكَ في ذلك مسلكَ الأطبّاء في مُعالجتهم للمرض.
موقِفه من القضية الكُورديّة
قدّمَ (النورسي) جهوداً كبيرةً في سبيلِ إصلاحِ المجتمعِ الكُورديّ، وكان حريصاً أشدّ الحِرْص على تطويرهِ وتقدّمه وسعيهِ المستمر في مُطالبةِ السُلطاتِ بتطويرِ الولاياتِ الكُورديّة وتنميتها، تلك الولايات التي أهملها السلاطين والجمهوريون، وكلّ الحكومات التركيّة المتعاقبة. كما لعبَ دوراً بارِزاً في إنشاءِ المدارِس والجمعيّات، فضلاً عن مُطالبته بإنشاءِ جامعةٍ في كُوردستان تركيا، وانصرافهِ إلى كتابةِ الخطاباتِ والمقالاتِ والرسائِل، مستشهداً بالأمثلة والحِكَم والأشعارِ الكُورديّة، وخاصّة أشعار الشّاعِر الكُورديّ (أحمد خاني)، صاحِب الملحمة الشهيرة (ممو زين)، حيثُ كان (النورسي) يتردّد كثيراً على زيارةِ ضريحهِ في (بايزيد)، كما كان يعتزّ ويفتخرُ بأنه كورديّ. وقد حافظَ على ارتدائهِ الزي الكُوردي حتّى وفاته، وأسهمَ في حلِّ الخلافاتِ بين العشائِر الكُورديّة.
وقد عاصرَ حِقبة السلاطين، وحِقبة الديمقراطيين، والجمهوريين، وشَهِدَ (مُعاهدةَ سيفر) في سنة 1920م، تلك المعاهدة التي أقرّت الحقوق المشروعة للشعبِ الكُورديّ. كما شَهِدَ (مُعاهدةَ لوزان)، في عام 1922م، تلك المعاهدة التي ضربت (معاهدة سيفر) عرض الحائِط. كما عاصرَ الثورات والحركات الكُورديّة آنذاك، تلك الحركات التي طالبت بالحريّة والاستقلال، منها ثورة الشيخ (سعيد بيران)، التي أخمدتها حكومةُ (الاتحادِ والترقّي)، وبدعمٍ غربيّ، وانتهت هذهِ الثورة بإعدام قائدها الشيخ (سعيد بيران)، ورفاقه. ورُبّ سائِلٍ يسأل: أين كان دورهُ السياسيّ؟ وربّما تنهضُ علامات استفهام كثيرة من غياب دوره في هذا الخضمّ المتلاطِم، علماً أنه كان يمثّل قوّةً فاعِلة ومؤثّرة، ويمتازُ بالخبرةِ والكفاءة، والمصداقيّة والوطنيّة والإخلاص. وجواباً على ذلك نقول: إن (النورسي) كان يُدرك، أكثر من غيرهِ، حجمَ التحديات والمؤامرات الدوليّة، ووحشيّة الحكومات التركيّة المتعاقبة، التي تساندها القوى الدوليّة، التي كانت تعملُ جهدها على طمس القضيّة الكُورديّة. وإلى جانبِ ذلك كان (النورسي) منشغلاً بحركتهِ الإصلاحيّة، فضلاً عن بقائهِ في السجُونِ طويلاً، وكان يعلمُ جيِّداً أنه لو قامَ بتفعيلِ دورهِ السياسيّ لخسر حياته، ومع ذلك كان (النورسي) يقدِّمُ آراءَهُ وتوجّهاته بشأنِ الثوراتِ الكُورديّة.
ونحنُ على كُلِّ حال نتركُ هذهِ المآخذ للنخب السياسيّة، والمؤرِّخين، والباحثين، لما لديهم من استبصار سياسي، وقراءة واعية للتاريخ، وأرى من وجهة نظري أن (النورسي) قد لَحِقَ به بعض الظلم والنسيان، وما أحوجنا إلى الاهتمامِ بهِ أكثر.
(حركة النور) بعد وفاةِ (النورسي)
ازداد عددُ طُلاّبِ (حركةِ النور)، وتوسّعتْ نشاطاتها، وطُبعت رسائِلها، وتُرجمت إلى لغاتٍ عِدّة، ولكن بعد نجاحِ انقلابِ (حزب الشعب الجمهوريّ) على (الحزبِ الديمقراطيّ)، الذي كان يرأسُ الحكومة، بدأت تفتكُ بطُلاّبِ النور، وتقومُ باعتقالِهم، وتتعامَلُ معهم بقسوةٍ ووحشيّة، إلاّ أنهم استمرّوا في دعوتِهم. ولكن نتيجةً لظهورِ اتجاهاتٍ وتياراتٍ في صفوفها تصدّعتِ الحركةُ وتفرّقَ شملها، وضعف بنيانها، وهذا يعني أن وفاةَ (النورسي) تركَ فراغاً كبيراً في جسمِ الحركة. ومهما يكن من أمرٍ، فإن هذهِ الحركة قد تركت بصماتِها على المجتمعِ التركيّ، وما زالوا يشربُون من مناهلهِا الصافية.
وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نقولَ إن (النورسي) كان بحق باعث النهضةِ الدينيّة في تركيا، ورائداً من رُوّادِ الحركاتِ الإسلاميّة في العصرِ الحديث، وأعجوبة الثورةِ الإسلاميّة في تركيا، كما أطلق عليهِ المرحوم الدكتور (محمّد سعيد رمضان البوطي). لقد وقفَ أمامَ المدّ الإلحاديّ والغزو الثقافي في تركيا، ونهضَ لمحاربةِ الأفكارِ الوافدة، وقاوم الاحتلال والاستبداد السياسيّ، ودافع عن قيم الحق والعدالة بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، واستطاع أن يبنيَ مجداً، ويتركَ تراثاً علميّاً وفكريّاً ودينيّاً متميّزاً.
-----------------------
المرجع: (سعيد النورسي.. حركته ومشروعه الإصلاحيّ في تركيا)، للدكتور (آزاد سعيد سمو).[1]