أ. د. #فرست مرعي#
بدأ التبشير في المشرق الإسلامي منذ قرون عديدة؛ وذلك بأساليب مباشرة أو غير مباشرة، مع ظهور الغرب باعتباره قوة لا يستهان بها على الساحة الدولية، وكانت الطلائع من المبشرين الذين شكلوا بدورهم رأس الحربة للقوات الغربية الغازية.
وفي الوقت نفسه، كانت أوروبا قد انقسمت على نفسها بين ثلاثة مذاهب رئيسية، وهي: الكاثوليكية، والأرثوذكسية، والبروتستانتية، حيث حدث صراع عنيف داخل القارة الأوروبية بين الكاثوليك والبروتستانت، بسبب الدين في الظاهر،
ولكن الواقع كان شيئاً آخر، فالنفوذ والسيطرة على أوروبا، ومن ثم على طرق التجارة البحرية العالمية، وانعكاسها فيما بعد على العالم الإسلامي من جميع النواحي. فبدأت حركة الاستكشافات البرتغالية في القرن الخامس عشر الميلادي التي أوصلتهم الى رأس الرجاء الصالح، ووصولهم فيما بعد إلى الهند، كانت العملية استعمارية تماماً؛ فقد اكتشفوا أن تحصينات المسلمين كانت ضعيفة يسهل اختراقها، وصحّت ظنونهم، وفازوا بما أرادوا بعد ذلك.
وانعكس ذلك الصراع على أراضي الدولة العثمانية، من خلال التنافس بين فرنسا الكاثوليكية وبريطانيا البروتستانتية الإنجليكانية، بعد أفول نجم البرتغال وهولندة في منطقة الشرق الاوسط. ولذلك بدأت الدولتان بحشد أكثر الجماعات المسيحية تحت لوائهما، ترقباً لانهيار الخلافة العثمانية، لذلك أكثروا من النشاط التنصيري.
بدأ المنصرون البروتستانت الإنجليز يظهرون في العراق وكوردستان منذ أوائل القرن التاسع عشر، وبالذات عام 1829م، وأولهم (غروفر Grover)، وبعد ذلك (صمويل)، ترافقه البواخر الحربية والقوات المسلحة البريطانية، والتي كانت تهدف إلى فرض السيطرة على طريق العراق المؤدي إلى الشرق الأقصى(= طريق الهند) بالقوة.
قال الوكيل السياسي البريطاني في الشام (باركر (Barkar ، في أوائل القرن التاسع عشر: إن تسهيل المواصلات بين الشرق والغرب عبر الشام، ووضع هذه المواصلات في أيدي الأوروبيين، تسهيلاً لنشر المسيحية في المشرقين الأوسط والأقصى، أمر ملح. فأيّدت جماعات تبشيرية غربية كثيرة هذا التوجه؛ منها جماعة (سان سيمون).
ونظراً لعدم قدرة المبشرين البريطانيين على مواجهة منافسيهم الفرنسيين، فقد رحبوا بالمبشرين الأمريكيين البروتستانت، وكان هدفهم تحويل مسيحيي العراق وكوردستان من النساطرة والسريان الأرثوذكس، غير الخلقدونيين الأصليين، ومن الذين تكثلكوا(= أصبحوا كاثوليك بجهود البعثات الفرنسية)، إلى المذهب البروتستانتي، بالإضافة إلى محاولة تنصير المسلمين. تمّت هذه البعثة تحت إشراف المبشر الأمريكي (كرانت Grant)، وكان (كرانت) يعتقد أن تحويل مسيحيي العراق النساطرة، وكوردستان تحديداً، عن مذهبهم، إلى المذهب البروتستانتي، يعتبر خطوة مكملة لمجهودات البعثات التبشيرية الأمريكية في تحويل نساطرة إيران إلى البروتستانتية. وإذا ما نجحت هذه الخطة، فإنهم بذلك يحرزون انتصاراً على الإرساليات الكاثوليكية الفرنسية والإيطالية والبابوية معاً، التي تبذل جهداً مضاعفاً لتحويل هذه الجماعات المسيحية إلى المذهب الكاثوليكي.
نجح المبشر الأمريكي كرانت Grant في استمالة النساطرة(= الآثوريين – الآشوريين) إلى الغرب، وبدأوا بتوجيه الاتهامات والإهانات إلى العثمانيين والكورد، الذين كانوا سادة المنطقة، بعد أن كانوا يعيشون مع الكورد مسالمين. من هنا بدأت المشكلات، وثار المسيحيون، ومن ورائهم المبشرون، في عهد إمارة بدرخان باشا، في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، خاصة عندما لبى (مار شمعون) (بطريرك النساطرة) النداء، معتمداً على العطف الأوروبي، وتشجيعات (كرانت)، فكانت النتيجة مأساة، وتدخلاً أقوى للغرب في المنطقة، بحجة حماية المسيحيين، وسقوط الإمارة البوتانية عام 1847م على يد الدولة العثمانية؛ ففرنسا حملت راية الدفاع عن الكاثوليك، أما بريطانيا فادّعت حماية البروتستانت، فما زادت المنطقة إلا بلبلة وآلاماً ومآسي.
لا يخفى على الباحث الحصيف دور المبشرين(= المنصرين) في دعم الأنظمة الحاكمة في كوردستان آنذاك، لكي يحصلوا على فرص التنصير، فحدث أن وصلت الثورات الكوردية مراحل متقدمة، وكانت قاب قوسين أو أدنى للوصول إلى تحقيق شيء من الحرية والاستقلال الذاتي، لولا المؤامرات المدبرة والمكايد من كل جانب، وخاصة الغرب. وما تجربة الأمير بدرخان باشا مع المبشرين الأمريكي والبريطاني (كرانت) و(بادجر)، بين أعوام 1843-1847م، والشيخ عبيدالله النهري مع المبشر الأمريكي (كوشران) عام 1880م، عنا ببعيدة.
يروي المؤرخ الكوردي الشهير محمد أمين زكي، في كتابه (خلاصة لتاريخ الكورد وكوردستان، الصفحة 26) هذه الرواية، بقوله: وكان من أسباب هزيمة الشيخ عبيد الله النهري سنة 1880م، أن بعثة التنصير الأمريكية لعبت دوراً مهماً في هزيمته (= الشيخ عبيد الله النهري). فكان للدكتور (كوشران)، رئيس البعثة، نفوذ كبير عند الشيخ، وعندما هدّد الشيخ المجتمعات النصرانية في (أورمية)، أنقذتهم البعثة (التنصيرية)، فقد عرفت البعثة الشيخ، وكانت تعالج زوجته. كانت البعثة تعرف أن القوات الفارسية(=القاجارية) في طريقها إليه، وأقنعته أن يؤخر زحفه لعدة أيام، حتى وصلت هذه القوات، حينها هرب أتباعه إلى المنطقة التركية، واندحر هو، ونقل إلى مكة، منفياً، حيث مات هناك.
بعد تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، وتنصيب الشريف فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، في شهر آب عام 1921م، بدأت بريطانيا - الدولة المنتدبة على العراق - بالضغط على العراق، بشأن إقرار معاهدة تنظم العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية بين الجانبين، من جهة، وتحقيق مصالح بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول الأوروبية، التي تنصب على الاهتمام بالإرساليات التبشيرية (التنصيرية)، من بروتستانتية وكاثوليكية، التي تعمل في البلاد الإسلامية، من جهة أخرى. حتى أن عصبة الأمم التي أعدت لائحة الانتداب البريطاني البغيض على العراق، نصّت في المادة العاشرة منها (على المنتدب أن يراقب أعمال المبشرين في العراق، حسبما تقتضيه الحاجة، لتوطيد وحسن إدارة الحكومة، وفيما سوى ذلك لا تؤخذ وسيلة ما من الوسائل لمعارضة تلك الأمور، والمداخلة فيها، ولا تميز فرقة على أخرى بسبب مذهب أو جنسية).
وقد استغلت بريطانيا مشكلة ولاية الموصل، للضغط على أعضاء المجلس التأسيسي العراقي بضرورة الموافقة على إقرار المعاهدة، لأنه في حالة عدم إقرارها فإن بريطانيا تكون غير جادة في إلحاق الموصل بالعراق. أي بعبارة أخرى: إنه في حالة امتناع الجانب العراقي عن التوقيع على المعاهدة، فإن العراق سوف يخسر ولاية الموصل.
وعلى أية حال، فإن المعاهدة تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى، في 10/10/1922، وصادق عليها المجلس التأسيسي العراقي في 10/6/1924، ونصت المادة 12 منها على ما يلي: ((لا تتخذ وسيلة في العراق لمنع أعمال التبشير (التنصير)، أو للتدخل فيها، أو لتمييز مبشّر على غيره، بسبب اعتقاده الديني أو جنسيته، على أن لا تخل بالنظام العام وحسن إدارة الحكومة))([1]).
وجاء في تقرير لجنة المعاهدة في المجلس التأسيسي العراقي ما يلي: جاءت في هذه المادة كلمة تبشير، وهي لا تدل على المعنى المقصود منها، واللجنة تطلب أن يتحفظ المجلس بأن تكون أعمال البعثات الدينية منحصرة بين الطوائف (الأقليات غير الإسلامية) فقط، لأن شمول أعمال هذه البعثات بين المسلمين يؤدي الى المحاذير الواردة في آخر هذه المادة، بالنظر الى أحوالهم الاجتماعية والدينية([2]).
الإرسالية المتحدة في العراق
في 18/11/1923م اجتمعت في (نيويورك) اللجنة المشتركة، والمؤلفة من ممثلين عن الكنيسة المشيخية في الولايات المتحدة الأمريكية، والكنيسة المصلحة في الولايات المتحدة الأمريكية، واتفقت على تأسيس الإرسالية المتحدة فيما بين النهرين United Mission in Mesopotamia،التي عرفت - فيما بعد- بٍ(الإرسالية المتحدة في العراق United Mission in Irag)، ثم تغيّر اسمها بعد ثورة 14 تموز 1958م إلى (الزمالة العراقية The Iraq Fellowship)، ووفقاً لقانون الجمعيات، رقم (1) لسنة 1960م، أسس أعضاء الإرسالية في العراق (الجمعية الخيرية الأمريكية في شمال العراق). تعتبر هذه الإرسالية من أولى الإرساليات التي تضمّ فرقاً بروتستانتية متعددة، ولكنها تعمل كشخصية معنوية مستقلة([3]).
في سنة 1926م دعا (المجلس المسيحي للشرق الأدنى The Near East Chrristian Concil) الإرسالية المتحدة للانضمام إليه، إلا أنها اعتذرت عن ذلك، لعدم توفر المال والوقت اللازمين لها. ولكن في سنة 1930م وافقت الإرسالية على الانضمام للدعم الذي كان يقدمه هذا المجلس لأعضائه، والفوائد التي كانوا يحصلون عليها.
إن هدف الإرسالية هو التبشير بين سكان المنطقتين: الشمالية (كوردستان)، والوسطى، في العراق، وقد اتخذت اللجنة المشتركة للإرسالية في أول جلسة لها قراراً يقضي بفتح محطة في كل من بغداد والموصل، وعلى أن تفتح محطة ثالثة في (الحلة)، في أول فرصة سانحة. هذا وبعد أن انسحبت الإرسالية العربية، التي أسسها القس الأمريكي الشهير (صموئيل زويمر)، المتوفى (سنة1952م)، من جنوب العراق، تسلّمت الإرسالية المتحدة مهامها اعتباراً من 1/1/1926م، وهكذا أصبحت الإرسالية المتحدة مسؤولة عن العمل الإنجيلي (البروتستانتي) في العراق بأجمعه.
شهدت الإرسالية المتحدة في العراق، منذ تأسيسها في عام 1924م، وإلى أن أغلقتها السلطات العراقية في عام 1969م، أحداثاً جساماً سياسية واقتصادية وتغيّرات اجتماعية وثقافية، على الصعيدين العراقي والعالمي، أثرت تأثيراً بالغاً على خططها وفعالياتها، سلباً أو إيجاباً، حسب ماهيّة الحدث أو العصر([4]).
في شهر آذار عام 1924م، وصلت الوجبة الأولى من المنصرين (المبشرين) إلى العراق، وانضموا إلى الموجودين قبل تأسيس الإرسالية التبشيرية، فبلغ عددهم (11) منصراً (مبشراً). وفي الشهر التالي عقدوا اجتماعهم الأول في بغداد، تلاه مؤتمر عام عقد برئاسة المنصر القس الأمريكي( صموئيل زويمر) في السينما الوطني، حضره عدد غفير من الناس، منهم من كان حضر مؤتمراً تبشيرياً في القدس، التي كانت واقعة تحت الانتداب البريطاني، ومنهم من حضر من الهند وإيران، فضلاً عن الإنجيليين والبروتستانت الموجودين في العراق. لقد تقرر في هذا المؤتمر وضع دستور للعمل، وفتح مدرسة للبنين، وأخرى للبنات، في بغداد، وفتح مدرسة للبنات في الموصل، كما تقرر تشجيع الكنيسة الإنجيلية الوطنية (العراقية)، والعناية بالكنائس والمدارس النسطورية ( =الآثورية- الآشورية) كنشاط ثانوي.
عيّن الدكتور (كاتين) سكرتيراً للإرسالية في العراق، وعهد إليه العمل الإنجيلي في بغداد. كما عيّن الدكتور (آدموند ماكدويل) سكرتيراً لمحطة الموصل، ومرشداً للمرسلين الجدد، الذين يرسلون إلى الموصل لتعلم اللغة العربية. كما عيّن الخوري (روجر كريغ كمبرلند Roger Craig Cumberland) مسؤولاً عن محطة (دهوك)، وعيّن الكاهن(أدوين رايت) مسؤولاً عن محطة (بعشيقة)([5]) الواقعة في ضواحي (الموصل)، وسكانها خليط من اليزيديين والنصارى، في حين تمّ تعيين (جليسنر) مسؤولاً عن محطة (كركوك).
1- محطة بعشيقة:
بدأ العمل الإنجيلي بين اليزيديين في عام 1923م، عندما باشرت الإرسالية الدانمركية إلى الشرق (The Danish Mission to the Orient) أعمالها في (بعشيقة) (مدينة صغيرة تقع على بعد خمسة عشر كم شرقيّ الموصل) بواسطة امرأة سويدية..فلعدم وجود إمكانيات مادية لتغطية العمل، فقد تم استئجار امراة سويدية، لكنها لم تقم هناك، ولم تؤدّ الواجب المناط بها، لذلك استأجرت الإرسالية المتحدة شخصاً نسطورياً (=آثورياً) يدعى (نسطوريوس كاليتاNestoorius Kalata) للقيام بالعمل الإنجيلي بين اليزيديين، وقدمت له المساعدات السخية للقيام بواجباته. ويقيم أبناء (نسطوريوس) حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية([6]).
وبسبب قيام الحرب العالمية الثانية، والأزمات التي مرت بها الإرسالية الأمريكية المتحدة، اضطرت إلى إيقاف صرف المساعدات له إلى عام 1942م، إلا أن الرجل، بالرغم من ذلك، واصل نشاطه معتمداًعلى دخله الشخصي. ولكن بعد فترة قصيرة أخذت الإرسالية المتحدة، التي كانت تشرف على أعماله نيابة عن الإرسالية الدانمركية، تدفع له مخصصات شهرية([7]).
في عام 1930م أسس (نسطوريوس قاليتا) مدرسة بسيطة في (بعشيقة)، لتعليم القرويين. وبعد ذلك وضعتها الإرسالية تحت إشراف القس (جليسنر)، مسؤول محطة كركوك، والذي ظل مشرفا عليها حتى بعد وفاة (نسطوريوس كليتا)، في عام 1953م، إلى أن حلّ محلّه القسّ (تايلور Rev.M.Taylor)، في عام 1956م. علماً بأن قرينته كانت معه([8]).
لقد تمكن (كاليتا) من إدخال عدد من اليزيديين إلى المسيحية الإنجيلية، منهم: صادق شامي (شمي)، الذي أصبح قساً وكاهناً لكنيسة أربيل الإنجيلية، والآخر هو إلياس حمو، الذي أصبح قساً وكاهناً لكنيسة كركوك الإنجيلية، فضلاً عن والده وشقيقه الأكبر، الذي تحوّل اسمه إلى (باول).
إن محاضر اتحاد الكنيسة المشيخية للولايات المتحدة الأمريكية (UPCUSA)، تورد الملاحظة التالية حول النشاط الإنجيلي بين اليزيديين: إن العامل الأكثر فعالية (في العراق) هو يزيدي مهتدي، الذي استخدم غرفة المطالعة (في داره) لتكون أساساً للدراسات الإنجيلية، وللمراجعة الشخصية. واليزيديون شعب يتركز دينهم في تسكين المعبود الذي يتلبسه، والذي يحمله إلى مقامات أرفع وأسمى([9]).
لقد تزوج صادق شمو فتاة مسيحية من الطائفة النسطورية، لذلك كان المسلمون الكورد ينظرون إليه كغريب، وهذا يفسر – جزئياً، حسب وجهة نظر أحد الباحثين الكلدان - عدم اعتناق المسلمين الكورد للمسيحية في أربيل آنذاك([10]).
وقد زار المنصّر الأمريكي (مارفن بالمكويست)، من منظمة LOMS، أربيل، في تشرين الأول 1993م، واكتشف بأن القس صادق شمو قد غادر أربيل في صيف ذلك العام إلى الموصل، وتقاعد عن العمل الإنجيلي، ولم يترك أثراً من عمله في أربيل([11]).
2- محطة كركوك
في عام 1928م وصل العراق القس جليسنر (Glessner)، مع زوجته، وبعد أن تعلم اللغة العربية، وساهم في نشاطات مدرسة البنين في بغداد، انتقل مع زوجته الى مدينة كركوك، حيث أسسا محطة للإرسالية، وخدما فيها طيلة بقائهما في العراق. من أعمالهما افتتاح مدرسة في 1932-1933م (اضطرا إلى غلقها بعد انقضاء السنة الدراسية، بسبب الصعوبات المالية الناشئة عن الضائقة الاقتصادية التي عمت العالم عام 1929م)، وافتتاح مكتبة لبيع الكتاب المقدس والكتب الدينية، والتي نالت قصب السبق في مبيعاتها بين مكتبات الإرسالية في العراق.
في عام 1941م، غادر (جليسنر)، وقرينته، العراق، بسبب الحرب العالمية الثانية، ولم يستطيعا العودة إلى العراق إلا في عام 1945م. وبعد وصولهما توجها إلى كركوك لإعادة فتح المحطة، والعمل بين أبنائه من الكورد والتركمان والعرب. وبفضل الجهود الكبيرة التي بذلاها، غدت محطة كركوك لها أهميتها التي تنافس فيها محطة الموصل، لا بل تبزها من ناحية توفر السكن المريح، وحرية العمل. وقد واصل (جليسنر)، وقرينته، العمل في الإرسالية التبشيرية، حتى انفكاكهما منها سنة 1957م.
هذا، وقد تأسست في كركوك كنيسة إنجيلية وطنية، حيث كانت اللغة العامية التركية هي الدارجة بالنسبة إلى المسيحيين، على اختلاف طوائفهم؛ من كلدان، وأرمن، وأرثوذكس، وبروتستانت. ولذلك كان الكاروز (الواعظ) يلقي موعظته باللغة التركية، إلا أنه بسبب تشكيل الحكومة العراقية، أخذت اللغة العربية تحل محل اللغة التركية في كركوك، بصورة تدريجية.
وفي سنة 1948م، عيّن لكنيسة كركوك البروتستانتية واعظ باللغة العربية، وأخذ القس إلياس حمو (وهو يزيدي الأصل من أهالي بعشيقة، كان قد اعتنق المسيحية)، يرعى الكنيسة. وكان عدد أبناء الكنيسة إلى سنة 1958م، يقدّر بعشرين عائلة. وقد أقيم (هيثم أكرم أفرام الجزراوي) راعياً للكنيسة خلفاً للقس (إلياس حمو)، إلا أنه غير مرسوم.
(وقد خرج من أبناء الكنيسة البروتستانتية (الإنجيلية): يوسف متى، وهو خريج جامعة الموصل- كلية العلوم- قسم الجيولوجيا، وتمكّن - بواسطة دعم المنظمات التبشيرية الغربية؛ من أمريكية، وأوربية- من إنشاء ثلاثة كنائس إنجيلية، في محافظات كوردستان الثلاث، بعيد إنتفاضة آذار عام 1991م، حيث اعتنق بعض الكورد المسيحية، لأسباب متعددة. وتمّ تأسيس أول كنيسة ناطقة باللغة الكوردية في مدينة أربيل، وتحديداً في منطقة عين كاوة، التي غالبية سكانها من المسيحيين الكلدان).
قام عضو الإرسالية الأمريكية في العراق (ج. سي. جليسنر) بجولة تبشيرية في منطقة كوردستان العراق في شهر آذار 1931م. وبعد عودته من تلك الرحلة القصيرة، كتب المبشّر (جليسنر)، في مجلة الإرسالية الأمريكية: (الجزيرة العربية المنسية-Neglected Arabia)، يقول فيها: بالرغم من أن مدينة كركوك هي المقر الرئيسي، ومركز عملياتنا في شمال العراق، إلا أنني وجدت بعض الوقت للذهاب إلى مناطق كوردستان غير المعروفة، ولتجديد نشاطنا، والالتقاء بالناس، وكل ذلك من أجل بحثنا الدائم عن مجالات أكبر. غير أنني أعترف بأن الأهم من كل ذلك، هو أن نصنع الفرصة لنعرّف هولاء البشر على المسيح والمسيحية، والذين لم تتح الفرصة لتقبل سماع أي شيء عنهما. وهكذا رحلنا، أنا ومعي اثنان من المبشرين، متوجهين إلى قرى ومدن كوردستان. وفي البداية قام رئيس الشرطة بتحذيرنا، قبل الرحيل، من خطورة تلك المناطق، وحذّرنا قائلاً: ستكونون مسؤولين عن أرواحهم، فبعض المناطق التي تذهبون إليها تعتبر أماكن تمرد (في إشارة إلى حركات بارزان الأولى عام 1932م)، ونحن كمسؤولي أمن نعتبرها مناطق حرب! ومع بدايات رحلتنا مرت علينا سيارات مسلحة، وطائرات تحوم فوق رؤسنا في السماء، وكلها تؤكد كلام رئيس الشرطة بأننا في منطقة حرب.
وفي الواقع، فإن الموسم لم يكن مثالياً برحلة في كوردستان، فالأحوال المناخية لم تكن ملائمة. كما أننا واجهنا مأزقاً خلال شهر مارس هذا، تمثّل في إغلاق مكتبتنا، وغرفة المطالعة، التي كان يجب افتتاحها قريباً.
وفي النهاية لم يكن أمامنا غير خيار الرحيل، وكان علينا الكفاح ومواجهة العواصف والثلج والمطر. وكنا لوقت طويل ندفع بسيارتنا (الفورد) إلى أعلى التلال، بينما كنا غارقين من بلل المطر.
وبعد هذا التعب المضني، كان بانتظارنا تعب آخر، فقد وجدنا أن البحث عن فندق للسياح أو الزوار هو شيء غير موجود طبعاً في هذا المكان، وأن على المرء أن يمشّط المدينة (= أربيل) كلها بحثاً عن مكان ليرتاح فيه بعد كل هذا التعب. والمحظوظ هو الذي سيجد كرسي مقهى طويل ليستخدمه كسرير، والمحظوظ أكثر هو الذي سيجد فراشه لم يسقط مع كوم الثياب في السيارة. وبالنتيجة عليه أن ينسى أمر وجود فندق،أو نزل، على الإطلاق. وعلى صعيد آخر، فقد وجدنا أن معظم رسالتنا – كمبشرين - لا تلقى هنا إلا معارضة قليلة، خاصة عند الأكراد المتشوقين للحصول على الكتب والكراريس للقراءة. والأكثر من ذلك، فوجئنا بأن طلبة المدارس الثانوية يأتون إلينا في غرفنا، ويسألون عن الكتاب المقدس، وكان هذا الشيء لا يحدث إطلاقاً في المدن الكوردية المتعصبة.
وكنا بالمقابل نردّ على الطلاب زياراتهم بزيارة مدارسهم خلال فترات الاستراحة. وكنا ننشر كتبنا، ونستعرض أفكارنا.
وفي يوم الأحد كنا نخطط، بالإضافة إلى صلواتنا، وعباداتنا القصيرة، لزيارة بعض الأكراد، لكن هذه الخطة كانت تحبط - في أكثر الأحيان - بسبب حشود الجوعى والمشردين في الطرقات، الذين كانوا يتجمهرون أمام مقر سكننا، ويربكون زياراتنا، حتى أننا كنا – أحياناً - نجد صعوبة في تناول وجبات الطعام، ولا نجد وقتاً لها. وبالمقابل كانت هناك زيارات منتظمة لمسؤولين في الحكومة، والمدرسين، والطلاب، والجنود، وغيرهم، داخل غرفنا، ونادراً ما خرج أحد منهم إلا ومعه جزء من الكتاب المقدس، وكان من بين هؤلاء شخص طلب كتباً تتعلق بالقانون المدني.
وبالطبع قمنا باطلاعه على كتاب (القانون)، وعندما خرج من عندنا كان يحمل أجزاء هامة من أعظم كتاب عن القانون.
وعلى صعيد منطقة كوردستان، فقد كان أهم ما لفت نظرنا هو الطريق السريع، الذي أنشىء مؤخراً. فهذا الطريق يقود الى أعالي الجبال والأنهار. وقد أصبحت القرى الواقعة بالقرب من الحدود الفارسية (طريق أربيل – الحاج عمران = طريق هاملتون الاستراتيجي)، بفضل هذا الطريق، ممكناً الوصول إليها، وسهلة المنال، على ظهور الحمير.
ويظهر السكان الأكراد، في معظمهم، أو قسمهم الأكبر، بأنهم لم يسمعوا قط عن المسيح، وسواء كانوا يستطيعون القراءة أم لا، فقد اشتروا كتبنا المسيحية، وجلسوا بالساعات ينصتون لرسالتنا في المحبة.
وفي أحد الأيام، وبينما كنا جالسين في أحد المقاهي، نقرأ بصوت عالٍ، و نشرح الكتاب المقدس، وجدنا أن الحاكي (=الفونغراف) كان له دور هام في كل المكان. ففجأة تغيّر صوت الفونوغراف من أغنية كوردية حربية إلى (دافعوا... دافعوا عن المسيح)! ولقد فوجئنا بسماع كلمات هذه الأغنية، خاصة في مكان يبدو أنه بعيد جداً عن الحضارة! وقد رأى أصدقاؤنا الأكراد بأننا مستغربون بعض الشيء، ومسرورون، لهذه الأغنية!
لقد أظهرت بياناتنا، وإحصائياتنا عن الرحلة، بأننا قمنا ببيع 44 نسخة كاملة من الإنجيل و80 نسخة من العهد الجديد، و4 للعهد القديم، 373 نسخة من الكتاب المقدس، و570 كراسات دينية، وكتاب تعليمي، بينما كان التوزيع المجاني للكتب الأدبية قد تجاوز آلاف النسخ.
وفوق ذلك، فقد أظهرت هذه الإحصائيات مدى العمل الذي تمّ إنجازه في هذه الفترة القصيرة.
وأستطيع أن أؤكد أن ما تم إنجازه من هذه الرحلة سيشجع بالتأكيد على القيام برحلات أخرى، وفتح مناطق جديدة وواسعة([12]).
3- محطة دهوك
أسس محطة دهوك للإرسالية المتحدة الخوري (روجر كريغ كامبرلند)، سنة 1924. وكان (كامبرلند) قد وصل إلى الموصل عام 1933، قادماً من أمريكا. حيث ولد عام 1894 في مدينة (لافين)، الواقعة شرقيّ (لوس انجلوس)، والتابعة لولاية (كاليفورنيا). وفي عام 1919 تخرج من الكلية الغربية. وفي عام 1922 أكمل دروسه الدينية في مدرسة (ماك كورميك) اللاهوتية في (شيكاغو)، ثم عيّن كاهناً (قسّاً) في كنيسة (هايلان بارك) في (شيكاغو).
بعد وصول (كامبرلند) إلى مدينة (دهوك)، الواقعة على بعد (70 كيلومتراً شماليّ مدينة الموصل)، فإن الأخيرة كانت مدينة صغيرة (قضاء تابع للواء الموصل)، وكان مجتمع دهوك فسيفسائياً يضمّ المسلمين واليهود والنصارى. وكان النصارى ينقسمون إلى طائفتين، وهم الكلدان التابعين للكنيسة الكاثوليكية، والنساطرة (الآثوريين)، الذين بقوا على معتقدهم القديم (عقيدة كنيسة المشرق)، وكانوا قد نزحوا من ولاية (هكاري)، الواقعة جنوب شرقيّ تركيا، إثر تعاونهم مع روسيا القيصرية ضد الدولة العثمانية، أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث خسروا أملاكهم، وأصبحوا لاجئين في معسكر بعقوبة. حينها قامت السلطات الإنكليزية بمحاولة إسكانهم في بعض القرى الكوردية الأميرية؛ في أقضية دهوك وزاخو وعقرة والعمادية ورواندوز. لذلك حدثت مشاكل بينهم وبين الكورد سكان المنطقة، كما أنهم أدخلوا ضمن تشكيلات (الدرك – الشبانة)، التي صنعها المستعمر البريطاني، للقضاء على المجاهدين الكورد والعرب،إبان انتفاضاتهم في سنوات 1919 لغاية 1924م.
وما إن استقر المقام ب(كامبرلند) (=كمبلان، في الاسم الشعبي المتداول) في مدينة دهوك، حتى قام باستخدام أجيرين نصرانيين من الطائفة النسطورية (الآثورية)، وهما كل من: يوخنا يوخانس البازي، وحنا أوراها البازي، والاثنان من أبناء قبيلة البازي، المشهود لها بالشجاعة والإقدام في منطقة هكاري، في كوردستان تركيا. وكانت من أولى مهام (كامبرلند) تعلم اللغة الكوردية، والقيام بزيارات عدة للمراكز الدينية الإسلامية، والمسيحية، فضلاً عن زيارة القرى المهمة في منطقة دهوك، حتى الوصول إلى داخل أراضي كوردستان تركيا؛ حيث وصل في إحدى زياراته إلى قرية (آشيتا الكبيرة)، التي تعد مركز قبيلة (تياري السفلى)، والواقعة على الحدود العراقية – التركية. كما أنه زار قرية (بريفكان)، الواقعة شرقيّ مدينة دهوك؛ مقر الطريقة القادرية الصوفية في منطقة بهدينان، حيث استقبله فيها الشيخ عبيدالله البريفكاني بكل حفاوة وتقدير. ولكنه أثناء زيارته لقرية (بامرني)، الواقعة غربيّ العمادية؛ مقر الطريقة النقشبندية الصوفية، لم يلق الترحيب المعتاد، حيث استقبله الشيخ بهاءالدين النقشبندي بالتجهم، ورفض مصافحته، في حين لم يكترث (كامبرلند) لذلك.
أعمال (كامبرلند) في دهوك
بعد أن درس (كامبرلند) مجتمع دهوك الفتي آنذاك، علم بأنه لا يستطيع التغلغل في هذا المجتمع، أو اختراقه، لذلك يمّم وجهه شطر قرية (بابلو)، الواقعة على بعد أكثر من خمسة عشر كيلومتراً شمال شرقيّ دهوك، وكانت الأخيرة يسكنها اثنان من المهربين، قبل أن تستقر فيها (40) عائلة نصرانية آثورية مهاجرة من منطقة هكاري، في عام 1914م. وقد اشتراها المدعو محمد عبد الرحمن إيتوتي، واتّفق مع سكانها الجدد من الآثوريين على استغلالها، لقاء حصص معينة. وقد حاول (كامبرلند) شراءها، ابتداءً من عام 1924م، إلى أن استطاع الحصول عليها عام 1926م، شراءً، بمبلغ (400) ليرة تركية. وكانت نيّة (كامبرلند) من شرائه القرية، تطبيق الأسلوب النصراني الإنجيلي في الحياة، من خلال ما تعلّمه في وطنه، حيث شاهد منافع الزراعة العلمية في ولاية (كاليفورنيا). وقد حاول تطبيق ذلك على هؤلاء الآثوريين، وتعميم التجربة فيما بعد على الكورد المسلمين في حال نجاحها. وللبرهنة على ذلك، فإنه عيّن السيد اسماعيل شوو البازي مختاراً على قرية (بابلو)، ومنحه قطعة أرض أيضاً في مركز دهوك، في (محلّة شيلى)، قرب قصره، لقاء اعتناقه البروتستانتية، بعد أن كان نسطورياً.
ولو لم يقتل (كامبرلند) على يد أحد المسلمين، لكانت لتجربة (كامبرلند) في بناء قرية نصرانية نموذجية، وفتح مدرسة خاصة هناك، شأن آخر.
وفي الوقت نفسه، فإن النصارى الكلدان؛ سكنة دهوك، كانوا يضمرون الكراهية تجاه (كامبرلند). والدليل على ذلك، عندما حاول (كامبرلند) شراء فدانين من الأراضي جنوبيّ المدينة، بقصد بناء قصر له، دخل في منافسة شديدة مع كاهن كلداني، هو الخوري (يوسف بهرو الدهوكي)، راعي كنيسة الانتقال الكلدانية في دهوك، بسبب وقوع هذه الأراضي ضمن مقبرة النصارى الكلدان، الأمر الذي جعله يكره (كامبرلند) كرهاً شديداً، بسبب بنائه قصره على تلك الأرض، التي اعتبرت - على أية حال - ضمن أراضي الوقف الكلداني. وفضلاُ عن ذلك، فإن البروتستانت لا يعيرون أية أهمية للطقوس والمراسيم التي تقوم بها الكنائس الأخرى، من كاثوليكية وأرذوكسية، خلقدونية وغير خلقدونية، بل يعتبرونها مجرد هرطقات وإضافات من قبل المجامع المسكونية (العالمية)، وعمل وتقاليد الباباوات والبطاركة والمطارنة وغيرهم من رجال الدين النصراني غير البروتستانتي، بل المهم في نظرهم العلاقة المباشرة بين العبد والرب، الذي هو (المسيح) في زعمهم واعتقادهم.
ومن الأعمال المهمة التي قام بها (كامبرلند) هي جلبه الماء النقي إلى مدينة دهوك من إحدى العيون الواقعة في شماله الشرقي (منطقة كيزه برا)، حيث تمّ نصب خمسة حنفيات في خمسة مناطق رئيسية في دهوك، كانت إحداها تغذي الجامع الكبير في دهوك، وكان للعمل الأخير مغزىً كبيراً. وربّما كان هذا العمل أكثر ما يتذكره أهالي دهوك القدماء.
علاقة (كامبرلند) مع الآثوريين
في بداية مجيئه إلى دهوك، وطد (كامبرلند) علاقته مع الآثوريين، حيث استأجر منهم رجلين للقيام بخدمته، ومرافقته في رحلاته، كما أنه اشترى قرية (بابلو)، عام 1926م، لأبناء قبيلة البازي، وهم إحدى القبائل الرئيسية للآثوريين القادمين من كوردستان تركيا. وكانت علاقته وطيدة مع القس (دانيال)، لذلك قام بعدة زيارات إلى فرع العشيرة داخل أراضي تركيا، مخترقاً الحدود العراقية.
ولكن بعض المراجع الآثورية تذهب عكس ذلك، وترى أن ذلك مجرد أكذوبة - على حد تعبير الدكتور (رياض السندي)-، فقد أفرد الكاتب الآثوري المعروف (يوسف مالك) صفحات عديدة من كتابه للتهجم على المستر (كامبرلند)، وأفرد فصلاً خاصاً تحت عنوان (المبشّرون والسياسة)، صبّ فيه جام غضبه على (كامبرلند)، ونظراً لأهميتها، وخروجها من كاتب مسيحي، لذا ننقل نصها:
لم يكن (كامبرلند)إلا أحد المبشرين الأمريكيين البروتستانت. وكان يقيم في دهوك، التابعة للواء الموصل. على الرغم من تصريح (العراق تايمز)، في الثاني من أيار 1933، عن اتصالاته المستمرة بالآثوريين النساطرة في دهوك، على مدى تسعة أعوام متوالية، فإن ذلك لا يعدو إلا أكذوبة أخرى كانت الغاية منها تطنيب السيد (كامبرلند) البائس، الذي كان قد خرج حتى ذلك الحين عن نطاق مهامه التبشيرية، ليدخل في شؤون كان يجهلها جهلاً تاماً. إن استغلال (العراق تايمز)، المعروفة سابقاً ببغداد تايمز، جهود (كامبرلند) الهزيلة، لم تكن إلا لخدمة مآربها الخاصة، وذلك لنيل رضى الحكومة العراقية عليها. وأبانت إثر إندماجها مع (بصرى تايمز)، أن مواقفها الجديدة ستكون دائماً وأبداً دعم مواقف الحكومة العراقية وسياستها القائمة.
بينما تنظر الصحف العربية الأخرى بأنها لسان حال السفارة الإنكليزية، فلم تجد أفضل وسيلة لكسب الشعبية على حساب الآثوريين، ولم تكن لتجد رجلاً آخر، أحطّ وأنذل من شخص (كامبرلند)، للقيام بذلك، كما سيظهر من خلال مقالاته المتناقضة، المكتوبة في مدة قصيرة جداً.
ومع أن (كامبرلند) لم يقم بأي اتصال عملي بالآثوريين، لكنه يعرف عنهم - عبر مقالاته - أكثر مما يعرف الذين انشغلوا بقضيتهم، وكانوا على اتصال دائم بهم. فجعلت الحكومة العراقية منه، وقد اكتشفت نقاط ضعفه وطموحاته، أداة طيعة، ومغفلاً بما يكفي للإساءة إلى سمعة أمريكا في تلك الأنحاء من العالم. وحيال ذلك وجب عليه ليشكر فضل صديقه الحميم الميجر (ويلسن)، الحاكم السياسي البريطاني على العراق([13]).
أما الباحث الكلداني (حارث يوسف غنيمة)، فإنه يقول في كتابه، تعليقاً على علاقة (كامبرلند) مع الآثوريين، وغيرهم، بقوله: لقد كان (كمبرلند) رجلاً مثقفاً، إلا أنه كان متسرعاً في تصرفاته، ولا يخشى نتائج أعماله، أو أقواله. كان متفانياً لعمله الإنجيلي، ويجوب المنطقة على ظهر حصانه، متنقلاً من قرية إلى أخرى. انتمى إلى الجمعية الملكية الآسيوية، وأخذ ينشر، على صفحات مجلتها، مقالات عن الحوادث التي رافقت العصيان الآثوري في 1933م، ويعلن آرائه بدون تمحيص، أو تحفظ، مما أثار شعور أبناء المنطقة، وأقلق الحكومة العراقية، حتى أصبح شخصاً غير مرغوب فيه. في الوقت الذي كان موقف الإرسالية المتحدة إزاء تلك الأحداث مناقضاً لموقفه، وكانت توصي أعضائها بالوقوف إلى جانب الحكومة، وإسداء النصح إلى الآثوريين، لحل مشاكلهم سلمياً.
علاقة (كامبرلند) مع المسلمين:
في الحقيقة لم يستطع المبشر (كامبرلاند) أن يرغم أحداً من المسلمين الكورد على اعتناق النصرانية الإنجيلية، لأنه كان على دراية تامة بأنه من الصعوبة بمكان إدخال المسلمين الكورد في النصرانية آنذاك، ولكنه استطاع إدخال الأفكار الغربية، التي كان لها تأثير سلبي على عقول وأفكار بعض المتنفذين من شخصيات دهوك. (ويحتفظ الكاتب بأسماء بعض من هؤلاء).
لقد تمكن (كامبرلاند) من إدخال معلّم عربي يدعى (عبّود)، أو (توفيق الحداد أفندي الدباغ )، كان من أقرباء معاون شرطة دهوك، وكان يدرّس في مدرسة دهوك الابتدائية سابقاً (مدرسة صلاح الدين الحالية)، في عهد مديرها الأستاذ نذير الطالب الموصلي، الذي تولى إدارتها من 3/12/1934م ولغاية 30/10/1938م. فبعد أن أعلن المعلم العربي (توفيق)، وزوجته، نفسيهما بأنهما مسيحيين، وقف مسلمو دهوك بقوة ضد نشاط (كامبرلاند) التبشيري. وفي رسالة له، قبل أقل من شهر من مقتله، كتب (كامبرلاند) عن هذا الموقف، وعن المقاطعة التي وضعها مسلمو دهوك ضده، قائلاً: لقد منعوا الناس من المجيء إليّ، ليس جهراً (لأن ذلك يتعارض مع القانون الذي يضمن الحرية الدينية – في إشارة إلى المعاهدة العراقية البريطانية) ولكن بصورة سرية([14]).
في شهر أيار/مايس 1938م حضر (كامبرلاند)اجتماع مسيحيي الشرق الأدنى، الذي عقد في سوريا، ومن هناك كتب (كامبرلاند) إلى مرجعه في (نيويورك)، مشيراً بأن مقاطعة الناس له في دهوك ما زالت مستمرة. فكتب يقول: نحن متحيرون فيما نفعل، وأكثر تحديداً فيما إذا استمر الموقف الحالي، فإنه من الصعب أن أستصوب البقاء في دهوك. فالآن، ومن أكثر من سنة (يقصد سنة 1937)، ومنذ إعلان توفيق المعلم (=مسلم عربي في الأصل) بأنه قد أصبح مسيحياً، فإن جفن العين يطبق بصعوبة، ومعظم الناس لا تتجاسر على الاقتراب منا. ومن الطبيعي فإني لا أبالي أن أبدو عنيداً غبياً، ولكن ما من أحد يريد أن ينفق حياته يطرق رأسه على جدار من الصخر، ناهيك أن كل شخص يريد أن يكون حراً([15]).
مقتل المبشّر (كامبرلاند)
لقد اختلفت الروايات حول أسباب مقتل (كامبرلاند). فالباحث الكلداني حارث يوسف غنيمة يقول بأن الباعث على اغتياله ظلّ مجهولاً. فيما يذكر باحث مسيحي آخر، بأن (بريطانيا) كانت قد تضايقت كثيراً من تحريض (كامبرلاند) للكورد للتحدث بلغتهم، والتطلّع نحو حقوقهم القومية. فضلاً أن حوادث الحركة الآثورية في شهر آب 1933م، ومعاصرة (كامبرلاند) لها، جعلت منه شخصاً غير مرغوب فيه، من الجانبين البريطاني والعراقي، من جهة، ومثقفي الآثوريين، من جهة أخرى.
وقد ذكرت زوجة كامبرلاند (هارييت كامبرلاند) بأن عملية توزيع الكتب على نطاق واسع، سبقت عملية القتل، فقد كتبت تقول: ربما كانت هناك علاقة بين الأحداث المحزنة ليوم 12/6 /1938م(الأحد)، والحملة الناجحة في 26/5 /1938م (الثلاثاء)، والأيام التالية، حيث بيعت أعداد كبيرة من الأناجيل، والكتب المقدسة، في القرى، وفي دهوك نفسها. في تلك الأيام لم يكن (كامبرلاند) نشطاً، حيث لم يرخص، في الأشهر السابقة، للقيام برحلات تبشيرية إلى القرى. فالعمل في دهوك كان جيداً بصورة خاصة، وشعور واضح بالإيجابية. وكان السيد (جليسنر) (رئيس محطة كركوك للإرسالية المتحدة) قد ألقى محاضرة توضيحية، لذا فقد طلب أن تلقى في غرفة الجلوس الواسعة في دار (كامبرلاند)، التي ازدحمت بمستمعين مهتمين في الظاهر (مزيفين). وفي يوم الجمعة السابقة ليوم 12/6/1938م (أي 10/6/1938م) جمع الملالي (علماء الدين في دهوك) عدداً من الكتب التي اشتراها الناس، وأقاموا احتفالاً جماعياً لحرقها([16]).
لقد كان لمواقف علماء الدين الكورد في دهوك، وعلى رأسهم الملا (محمد عبد الخالق عقراوي)، إمام جامع دهوك الكبير، مع العلماء الآخرين، من أمثال (الشيخ محمد مماني)، و(الملا حسين مارونسي)، و(الملا محمد رؤوف بيسفكي)، دور كبير في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، بوجه الحملة التبشيرية التي قادها (كامبرلاند)، وزملاؤه في الإرسالية المتحدة في كركوك والموصل، من أمثال (جليسنر) و(برنارد هاكن). وكان هذا الموقف هو الذي حدا بأحد الزعماء القبليين الكورد، وهو (سليم مصطفى آغا بيسفكي الدوسكي)، المشهور بالشجاعة والإقدام، إلى قتل المبشّر (كامبرلاند). ولا نعلم بصدور فتوى محددة بخصوص عملية القتل، ولكن يبدو من ثنايا تقرير زوجة (كامبرلاند) بأن يوم الجمعة المصادف 10/6/1938م، الذي سبق عملية قتل (كامبرلاند) في يوم الأحد المصادف 12 /6/1938م، كان الدافع الأكبر لعملية قتله، حين أحرقت الكتب والأناجيل التي وزّعها (كامبرلند)([17]).
[1]) عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراقي السياسي الحديث، دار العرفان، صيدا، لبنان، 1984م، ج1، ص78.
[2]) المرجع نفسه، ج2، ص34.
[3]) حارث يوسف غنيمة، البروتستانت والإنجيليون في العراق، مطبعة الناشر المكتبي، بغداد 1988م، ص94.
[4]) المرجع نفسه، ص95-96.
[5]) رياض السندي، روجر كريغ كامبرلاند المبشر الأمريكي في دهوك (1894 - 1938)، مجلة متين، دهوك، العدد 79 شهر آب 1998، ص99-100.
[6]) رياض السندي، تاريخ النشاط التبشيري بين الأيزدية، مجلة كولان العربي، أربيل، العدد 49 شهر حزيران 2000، ص 48.
[7]) حارث يوسف غنيمة، البروتستانت والإنجيليون في العراق، مطبعة الناشر المكتبي، بغداد 1988، ص99-100.
[8]) المرجع نفسه، ص 94-95.
[9]) Robert Blinco, Ethnic Realities and the Church, California, 1988, p159.
[10]) رياض السندي، النشاط التبشيري بين الأيزيدية، ص48.
[11]) Blinco, op. cit., p.169.
[12]) خالد البسّام، ثرثرة فوق دجلة – حكايات التبشير المسيحي في العراق 1900-1935م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2004، ص 173- 178.
[13]) الخيانة البريطانية للآثوريين، ترجمة: إيليا يونان إيليا، بولونيا، الطبعة الثانية، 1995، ص55.
[14]) رياض السندي، روجر كريغ كامبرلاند المبشر الأمريكي في دهوك (1894 - 1938)، مجلة متين، دهوك، العدد 80، شهر أيلول 1998، ص107.
[15]) المرجع نفسه، ص107.
[16]) المرجع نفسه/ ص109 – 110.
[17]) عبد المنعم رؤوف الغلامي، ثورتنا في شمال العراق، بغداد 1966، ج1 ص26 هامش رقم(2). الشيخ طاهر الشوشي، تاريخ حياتي وما شاهدته من الحوادث المهمة، كتاب مخطوط محفوظ لدى نجله الدكتور حمزة الشوشي.[1]