#زاغروس آمدي#
خلال المائة سنة الأخيرة، أي منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبرطورية العثمانية، قام الأكراد بالعديد من الثورات والحركات المسلحة لتحرير وطنهم كردستان، الذي تم تقسيمه بين تركيا والعراق وايران وسوريا، وتأسيس وطن حر مستقل كباقي شعوب المنطقة والعالم.
لكن نظراً لعدم إكتمال العوامل الذاتيّة والموضوعية للشعب الكردي كأمّة موحّدة لها هويّة واضحة وجامعة قادرة على تكوين قوة قادرة على تحدي القوى المحتلة لكردستان، بالإضافة إلى عدم إنحياز الظروف والأوضاع الإقليمية والدولية لصالحهم، فشلت جميع تلك الثورات في تحقيق أهدافها والتي كانت مطالبها لاتتعدى غالبا حدود الحكم الذاتي.
من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها هذه الحركات - وبلا إستثناء – أنها كانت عفوية وغير منظمة ولم تحظَ بتأييد شعبي في حدوده الدنيا بحيث تكون قادرة على تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى الخطأ القاتل الذي تكرر دائما في جميع تلك المحاولات ألا وهو الإرتباط بدولة أو أكثر من الدول التي هي نفسها تحتل أجزاءًا من كردستان. وخلقت هذه الحركات عداوات محكمة بين عشائر الكرد وفئاتهم ومثقفيهم، لأنها لم تأخذ بعين الإعتبار الحاسّة الشعبية العامة للكرد التي لم تقتنع يوماً بجدوى النضال المسلح، وكأنها كانت تعلم في لاوعيها بأن الدم الكردي المراق مجرد دم مهدور. لذلك وقفت غالبية الشعب الكردي وماتزال موقف اللامبالاة من هذه الحركات المسلحة، بإستثناء نسبة كبيرة من المثقفين المنفصلين عن واقع شعبهم المأساوي. وما يؤكد صحة هذا الموقف أنه لولا الإحتلال الأمريكي للعراق وتبعات ذلك الإحتلال لكان السيدان مسعود البرزاني وجلال الطالباني ما يزالا يعتصمان بالجبال إلى يومنا هذا. ومايؤكد صحة الموقف الشعبي العام من هذه الحراكات هو النتائج الكارثية والعواقب السلبية التي عانى منها الشعب الكردي، والتي ما كانت لتحصل لولا هذه الحركات.
العناوين الرئيسية
- مدخل لا بد منه
- أوج آلان والشفف بأوهام الأفكار وممارساته الخاطئة
- الفكر الواقعي ودوره في إحداث تغيرات كبيرة في العالم
- عوامل فشل الحركات الكردية المسلحة
مدخل لا بد منه
مشكلتنا الحقيقيّة نحن الكُرد، هي أننا نسينا أن نهتم ببناء أنفسنا، أي بناء الإنسان، لإنشغالنا طول الوقت في السياسة لتحرير الوطن المسلوب، هذا الإنشغال الذي استهلك معظم أو ربما كل الطاقات الفكرية لدى السياسيين والمثقفين والناشطين، وقد يبدو هذا لأول وهلة شيئاً طبيعياً، فكلُّ كرديٍّ يريد الحصول على سبق شَرَفي في تحرير كردستان.
لكن وسط هذا السبق وفي خضم هذه الفوضى نسينا أننا وضعنا العربة أمام الحصان، وذلك من الإرباك الذي وقعنا فيه نتيجة لتسرُّعنا ولهفتنا الساذجة في تحقيق الهدف كل تبعاً لتصوّره الخاص. فجميع الحركات الكردية التي قامت في المائة سنة الأخيرة نجحت في شيء واحد فقط، وهو المزيد من الإخفاقات والانتكاسات مع تعميق الشروخ والخلافات والانقسامات بين مكونات الشعب الواحد من أفراد وأحزاب وقبائل وعشائر.
ما لم يتم تداركه في الحركات الكردية دون إستثناء، هو غياب دراسة الأساس الذي تقوم عليها هذه الحركات المسلحة، ويتمثل ذلك في عاملين أثنين، العامل الذاتي Subjective factor أي تناول موضوع الواقع المجتمعي الكردي بنواحيه المتعددة، وتقدير مدى إمكانيته وقدرته للإستجابة على تحمل ثقل هذه الحركات ومستويات التجاوب معها، والعامل الموضوعي Objective factor الذي يتمثل بتجاهل السياسة الواقعية Political Realism أي بدراسة الواقع السياسي الراهن محلياً وإقليمياً ودولياً، ولا يكفي أن تكون صاحب حق أو أن تكون مظلوما لتحصل على الدعم السياسي الدولي، ويشير الكاتب الأمريكي كينيث والتز Kenneth Neal Waltz في كتابه نظرية في السياسة الدولية إلى عدة عوامل مهمة لا بد من أخذها بعين الإعتبار لفهم الساسة الدولية من أهمها: أن السياسة لا تحكمها أو تحددها الأخلاق وإنما المصالح بفرعيها التكتيكي والإستراتيجي، وأن الدول تتعاطى مع الوقائع السياسية من منطلق عقلاني وبراغماتي لخدمة مصالحها العليا وزيادة قوتها الإقتصادية والعسكرية وأنها تتخذ قراراتها وتتصرف مع العالم الخارجي بصفتها كيان واحد ومتماسك، وأن النظرية السياسية هي نتاج الممارسات السياسية الواقعية، ولا بد من استيعاب التجارب التاريخية ودراسة التاريخ وإعتبار الدولة هي الفاعل الوحيد في السياسات الدولية وليس المنظمات الدولية الحقوقية أو الشركات متعددة الجنسيات، وبالتالي فإن التركيز على الدول كوحدات أساسية للتحليل يساعد على فهم طبيعة التفاعلات في المجتمع الدولي. كما يذكر الكاتب كينيث نقطة هامة وهي أنه يجب النظر إلى النظام الدولي بإعتباره غابة لغياب سلطة مركزية تحتكر القوة وتستطيع فرض إرادتها على الكل كما هي الحال في داخل الدولة.
إن تجاهل أو غياب هذه العوامل المحركة للسياسات الدولية عن ذهنية هذه الحركات الكردية، أو الإكتفاء بدراستها دراسة سطحية، جاءت النتائج العملية على أرض الواقع مخيِّبة للآمال عند هذه الحركات.
أنا هنا طبعاً لست مؤرخاً أو ناقداً للتاريخ، كل ما أريد أن أصل إليه هو أنّ من لا يقوم بتقييم ماضيه بشكل موضوعي، فإنه سيفشل على الأرجح في حاضره ومستقبله. وللحكيم الصيني مقولة بهذا الشأن تقول: (تحدث لي عن ماضيك، أعرِّفك بمستقبلك). لأن ما نفعله اليوم له علاقة وثيقة بما فعلناه بالأمس، كما أن له تأثير على ما سنقوم به غداً. لأن الزمن كلٌّ لا يتجزأ، ومن يتغافل عن تحليل الماضي من الزمن وتفكيكه ودراسته وإستخلاص الدروس والعبر منه، فلابد وأنه لن يُسرّ لا في حاضره ولا في مستقبله، لأنه سيقف عاجزاً عن تقرير مصيره، وبالتالي سيتولى الآخرون هذه المهمة عنه.
إنَّ النجاح في عمليات صناعة الوقائع الراهنة لايمكن أن تتم دون إدراك السياسات القائمة Existing policies وفهم العمليات التاريخية بدقة، والتي تتطلب بدورها معرفة ودراية تاريخية معمقة.
ثمةَ مقولةٌ شائعة تقول: الشعب الذي لا يعرف ماضيه محكومٌ عليه بتكراره. وأعتقد أن هذا يسري إلى حد كبير على الحركات الكردية التي عجزت عن تحليل الواقع السياسي الإقليمي والدولي المتشابك بشدة مع كردستان المستعمرة من قبل أربعة دول مختلفة، ولكل منها علاقات وطيدة مع دول العالم، وأن بين هذه الدول الأربعة قاسم مشترك يبدو بديهياً، وهو أنه مهما اختلفت تلك الدول فيما بينها فإنها متفقة على بقاء الكرد وكردستان تحت سيطرتهم. وإنه لا جدوى من أي كفاح مسلح من قبل الكرد دون تأييد قوي وحقيقي من إحدى القوى العظمى على الأقل. وما حصل في العراق من تدخل أمريكي وانهيار الدولة العراقية وحل الجيش العراقي وحصول الكرد على أغلب حقوقهم واستحواذهم على قدرٍ ما من الدعم الأمريكي، يبين ويبرهن على ذلك.
ففي كردستان إيران أعلن الشهيد القاضي محمد الإستقلال الذاتي لجزء من كردستان إيران عام 1946 الذي لم يدم أكثر من أحد عشر شهراً، بالاعتماد على كلام أو وعد قنصل سوفياتي ستاليني في إيران، ودون الأخذ بعين الاعتبار برأي أكثرية القبائل الكردية، فوجد نفسه بعد أحد عشر شهراً من إعلانه لدولته، على منصة الإعدام ينفذ بحقه حكم الموت. فقام بتسليم الراية لوزير دفاعه آنذاك المرحوم الملا مصطفى البرزاني الذي حارب بدوره البعث العراقي وبعض القبائل الكردية ونصف قبيلته المنشقة عنه، بمساعدة شاه إيران وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، فانهارت ثورته فجأةً 1975، بسبب توافق رضا بهلوي شاه إيران وصدام حسين رئيس العراق في الجزائر ضده. وتوفي بعد ذلك بأربع سنوات مريضاً بالسرطان في أحد المشافي الأمريكية.
الدكتور عبدالرحمن قاسملو زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني الذي لجأ إلى عراق صدام حسين وأعلن الكفاح المسلح من كردستان إيران ضد نظام الخميني، يُقتل في غفلة منه في عام 1989 في فيينا العاصمة النمساوية على يد الاستخبارات الإيرانية وعلى طاولة المفاوضات معهم. ويلجأ القاتل إلى السفارة الإيرانية، ثم يُرافقه البوليس النمساوي إلى المطار ويُرحل إلى طهران، فيُستقبل إستقبال الأبطال. وينقل جثمان الدكتور قاسملو إلى باريس ويدفن في مقبرة العظماء هناك. وهذا التهاون النمساوي الواضح والفاضح بشأن جريمة مقتل هذا الزعيم الكردي وأثنين من رفاقه يظهر مدى الاستهتار بالمشاعر الكردية وعدم إيلاء أي اهتمام لها من قبل الجهات الدولية.
أما الماركسي اللينيني عبدالله أوجلان الذي لجأ إلى حافظ الأسد أو بالأحرى أن حافظ الأسد هو من استقدمه إلى سوريا، أعلن حربه التحريرية البروليتارية في كردستان تركيا 1984، بادئاً بالحرب على شعبه قبل أن يُعلنها على عدوه التركي، منطلقا من فكرة الصراع الطبقي ومطبقا لنظرية العنف الثوري لكارل ماركس. وأعلن حربه التحريرية هذه مبتدئاً بمحاولة القضاء على الإقطاعيين ورجال الدين الكُرد، معتبرا إياها (نظرية العنف الثوري) قانوناً رياضياً. وأثناء محاولته تلك للقضاء على الإقطاعيين ورجال الدين، ارتكب جرائم شنيعة بحق شعبه راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء، أكثرهم من الأطفال والأمهات. وقد استغل هذا القائد المثير للجدل المشاعر القومية للكرد أسوأ استغلال، من أجل نشر وتطبيق الفكر الماركسي، الذي أثبت فشله الذريع حيثما طبق عند عشرات الشعوب والدول.
وهنا سأُركز قليلاً على حركة حزب العمال الكردستاني لما لهذه الحركة دور هام في إعاقة مسيرة الشعب الكردي نحو الحرية والإستقلال، وخاصة بعد تخليها عن أهدافها القومية، لأنها حركة تعيش في الماضي وتتبنى أيديولوجيات محنطة وسياسات راديكالية وتمارس إجراءات مخيبة للآمال في كردستان تركيا، فهي معزولة عن العالم الخارجي رغم نضالها الذي تجاوز الأربعين عاماً، ولم تنل هذه الحركة أي إعتراف دولي بها. وإن كتب لها النجاح – مع أنه غير وارد - وحققت أهدافها فسيكون وضع الشعب الكردي مشابها لوضع شعب كوريا الشمالية الذي يعيش في عزلة عالمية شبه مطلقة، ولو أن الصين لم تسمح لهذا النظام أن يرضع من أحدى ثدييها لعاش هذا الشعب المحاصر كارثة كبرى.
وعندما أتناول حزب العمال الكردستاني الذي يحاول أن يملي إرادته على الشعب الكردي بالنقد، أرجو أن لا يفهم ذلك أني مؤيد لأي حزب كردي آخر مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني-عراق على سبيل المثال. إلا أن ما يميز سائر الأحزاب الأخرى ورغم نواقصها العديدة أنها لا تتغافل عن الواقعية السياسية العالمية الراهنة كما يفعل حزب العمال الكردستاني، وتأخذ إرادة الشعب الكردي وأهدافه وتطلعاته بعين الإعتبار ، ورغم ذلك فإن نضالها المسلح هي الأخرى غير مجدي ما لم تحظَ بدعم دولي أو على الأقل بدعم قوة عظمى عالمية نظرا للواقع السياسي والجغرافي الإشتثنائي للشعب الكردي المرتبط إرتباطا وثيقا بالمصالح الدولية للعوامل المعروفة لواقع حال الشعب الكردي. وهذا غير ممكن إلا إذا استطاعت هذه الحركات أن تتوحد وتمارس سياسة موحدة وتشكل قوة معتبرة.[1]