بقلم: حامد محمد علي
تمهيد
الصحافة هي مرآة الشعب، وإحدى أهم العوامل المؤثرة في الرأي العام، وهي كما تؤثر في حياة الشعوب وحركاتها، تتأثر أيضا بواقعها السياسي والتاريخي والحضاري، فالشعوب المتقدمة حضارياً، تتميز بصحافة مزدهرة وعريقة؛ إذ أن تاريخ الصحافة وتطورها يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الشعوب ويتأثر بعوامل شتى، وهي في تفاعل مستمر مع تلك العوامل (وقد يكون تنامي الشعور القومي والحركة التحررية الوطنية واحداً من تلك العوامل إلى جانب العوامل الأخرى بالنسبة للأمم.. غير أن تاريخ الصحافة الكردية ومسيرتها عبر مايزيد على قرن واحد، مرتبط بحركة التحرر الوطني الكردية، وتكاد تكون هذه الحركة هي البوصلة التي تحدد نمو او انحسار الصحافة عبر مد الحركة وتصاعدها أو جزرها وانكساراتها).
جريدة (كردستان) باكورة الصحافة الكردية
الصحافة الكردية كتعبير عن الواقع السياسي الكردستاني، نشأت في المهجر، لأن السلطات العثمانية لم تكن تسمح بصدور صحيفة كوردية على أراضيها، حيث (وضع السلطان عبدالحميد منذ شباط 1846 رقابة صارمة على الصحافة، لقد نشرت الرقابة على شكل بنود قانونيه.. وهكذا لم تستطع الصحافة التعرض للسياسة والتحدث بحرية حتى عام 1908) .
لقد سبقت الشعوب المجاورة الشعب الكردي في إنشاء صحافتها؛ فالأتراك أصدروا أول جريدة تركية باسم (تقويم وقايع) سنة (1832م).
وأصدر الفرس جريدتهم الأولى (كاغز أخبار) سنة (1851م).
أما أول جريدة عربية في العراق فكانت (الزوراء) وصدرت عام (1869م) في عهد الوالي مدحت باشا.
لقد دفعت العوامل السالفة الذكر وغيرها المثقفين الكرد للتفكير في إيجاد سبيل أو آلية جيدة للنضال من اجل الوطن..فبدئوا بالانخراط في النضال القومي في أواخر القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين عرفوا قيمة وأهمية الصحافة، وبالأخص أولئك الذين كانوا يعيشون أو يدرسون في اسطنبول، حيث وجدوا من قريب الدور الذي تلعبه الصحافة التركية وغيرها من شعوب الدولة العثمانية في حياة المجتمع).
هكذا تبلورت لدى بعض المثقفين الكرد فكرة إصدار صحيفة باللغة الكردية، ولكن يبدو أن هذا العمل داخل كردستان لم يكن ممكناً، بسبب موقف الدولة العثمانية وسلطانها (عبدالحميد الثاني) وخاصة في تلك الفترة، حيث تتالت الثورات والانتفاضات الكردية في أجزاء من كردستان. لذا اضطر المثقفون الكرد للعمل على إصدار صحيفة كوردية خارج كردستان، وإرسالها إلى داخل الوطن بصورة سرية.
يبدو أن (مصر) كانت البلد الأكثر ملائمة لمثل ذلك العمل، لسببين:
الاول- السلطة فيها شبه مستقلة عن السلطان العثماني منذ عهد (محمد علي باشا 1805 – 1849)
الثاني-وجود الانجليز فمنذ أواخر القرن التاسع عشر تقريباً كان لهم موطئ قدم كبير في هذا البلد، وكانوا يرغبون في تجميع المعارضين للدولة العثمانية هناك.
من جهة أخرى كان للصحافة المصرية في ذلك الوقت أصداء كبيرة، وتأسست في ذلك البلد مطابع كبيرة. هذه الأسباب مجتمعة دفعت العائلة البدرخانية الكوردية المعروفة، بالتوجه نحو مصر لإصدار أول صحيفة كوردية في التاريخ.. وهكذا صدر العدد الأول من جريدة (كردستان) يوم الخميس (30) ذي القعدة 1315ﮪ الموافق 22 نيسان 1898 في مدينة القاهرة من قبل (مقداد مدحت بدرخان) وكانت نصف شهرية كما – جاء في تعريفها – وتصدر بأربع صفحات من الحجم (25.5سم – 32.5سم) وطبعت في مطبعة (دار الهلال المصرية) وهي جريدة أهلية لا تتبع أية جهة رسمية أو حزبية.
بعد أسبوع واحد من صدورها نشرت مجلة (الهلال) المصرية في عددها الصادر في مايس 1898 خبراً تقول فيه: (كردستان هي أول جريدة كردية صدرت في العالم باللسان الكردي، وتفخر مصر أن تلك الجريدة صدرت فيها، وكذلك شأنها في عالم الصحافة، فإنها ميدان تتسابق فيها الأقلام على اختلاف اللغات والنزعات، ومحرر كردستان حضرة الفاضل مقداد مدحت بك، نجل المرحوم بدرخان باشا، وهي تصدر في القاهرة مرتين في الشهر، بدل اشتراكها ثمانون قرشاً في العام وموضوعها تحريض الكرد على السعي وراء التمدن والفضيلة وحثهم على اكتساب العلوم) ..
الظرف التاريخي والسياسي الذي ولدت فيه جريدة (كردستان) الذي أعقب سقوط الإمارات الكردية؛ وانهيار الانتفاضات والحركات التحررية لكل من (البدرخانيين) و(الشيخ عبيدالله النهري) وكذلك ازدياد الضغط العثماني على القوميات غير التركية داخل الإمبراطورية، وتنامي الشعور القومي لدى هذه القوميات، كل هذه وغيرها من الأسباب أعطت (كردستان) أهمية خاصة، حيث يبدو أن القائمين على إصدار الصحيفة قد أدركوا أهمية الصحافة والكلمة كسلاح جديد للنضال، بعدما تم إسكات النضال المسلح بالقوة.
وكما يقول الدكتور (كمال مظهر احمد) (فإن كردستان) مصدر مهم وأصيل لفهم كثير من جوانب الحياة الأساسية والفكرية الكردية، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ والمعلومات المنشورة فيها تساعد المؤرخ كي يفهم بشكل أفضل العلاقة بين الكرد والأرمن ونشاطات الوطنيين الكرد في صفوف الاتحاديين، ومكانة فرسان الحميدية في التاريخ الكردي الحديث وغيرها من مثل هذه المواضيع).
صدور (كردستان) كأول جريدة كوردية في التاريخ يعتبر نقطة تحول مهمة، ليس في تاريخ الصحافة الكردية وحسب، بل وفي مسيرة النضال التحرري للشعب الكردي، وذلك بدخول الحرف المناضل عن طريق الصحافة إلى خضم الكفاح.
(وهكذا كان ميلاد الصحافة الكردية بداية مسيرة مشرفة اندمجت فيها الصحافة رغم ظروفها القاسية مع مشاكل الشعب الكردي وقضيته التحررية، حتى غدت جزءاً من تلك القضية..) .
ولهذه الأسباب تعرضت (كردستان) منذ صدورها إلى ضغوط ومضايقات وقد أثرت هذه الضغوط سلباً على صدور الجريدة بشكل منتظم ومستقر، خاصة بعد صدور (العدد الخامس) حيث انتقلت الجريدة اعتباراً من العدد السادس منها، من القاهرة إلى (جنيف) بسويسرا، وقد تأخر صدور هذا العدد عن موعده الأصلي أكثر من ثلاثة اشهر، كما وانتقلت ملكية وإدارة وتحرير الجريدة منذ ذلك العدد الى الأمير (عبدالرحمن بدرخان) شقيق الأمير (مقداد مدحت بدرخان) مؤسس الجريدة.
وهكذا تعرضت (كردستان) إلى التهجير القسري منذ ذلك الحين، فبعد صدور العدد (التاسع عشر) في جنيف انتقلت الجريدة مرة ثانية إلى القاهرة، حيث صدرت الأعداد (20 -23) هناك، ثم انتقلت إلى لندن، فصدر العدد (الرابع والعشرون) هناك، ثم انتقلت إلى مدينة (فولكستون) في جنوب بريطانيا وصدر منها الأعداد من (25 – 29) أما العددين الأخيرين (30 – 31) فقد صدرا مرة أخرى في جنيف، حيث توقفت الجريدة بصدور العدد (31) الصادر في 6 محرم 1320 ﮪ الموافق ل 14 نيسان 1902 م.
ومن المفارقات العجيبة في هذا المجال إن جريدة (كردستان) رغم أنها – كما جاء في صدر الصفحة الأولى منها – كانت ترسل (2000) نسخة من كل عدد إلى كردستان، مع ذلك لم يعثر الباحثون الكرد على نسخة واحدة من أعدادها (الواحد والثلاثين) في الوطن الكردستاني.
تم العثور على الأعداد التي صدرت – باستثناء العدد 19 – في مكتبات وأماكن متفرقة في أوروبا.
السياسة التحريرية للجريدة
يقول (جبار جباري): (كانت كردستان تمثل الوجه الحقيقي للإنسان الكردي المضطهد قومياً وفكرياً، ففي حينها كانت لسان حال الكرد الأحرار، لذلك لاقت مضايقات كثيرة واستفزازات السلطات المتوالية.. وكانت الظروف الشاذة للمنطقة بشكل عام ذات تأثير مباشر على مسار الصحيفة، ولكن النهج الحر القويم الذي مارسته (كردستان) وترويجها للمبادئ القومية التحررية، كان له أيضا أثره في إثارة الأذهان وإذكاء الروح الوطنية في نفوس الكرد قاطبة، وكذلك في إحياء التراث الكردي بنشر العديد من المقالات الأدبية والثقافية.
وحول مكانة الجريدة وطابعها الديمقراطي التقدمي يقول (الدكتور كمال مظهر احمد): (تحتل جريدة كردستان مكانة جداً بارزة في تاريخ الصحافة الكردية، لا لكونها أول صحيفة كوردية فقط، بل كذلك لما تميزت به من طابع ديمقراطي متقدم وواضح ولما عالجت من مواضيع حيوية مختلفة بأسلوب سلس رصين).الجدير ذكره عن صحيفة (كردستان) أنها مع نهجها القومي الليبرالي التقدمي، ورغم الضغوط والمضايقات التي تعرضت لها من جانب السلطات العثمانية – رمز الخلافة الإسلامية - تميزت بطابعها الديني (الإسلامي) ويظهر ذلك جليا في الآيات والأحاديث الكثيرة التي تتضمنها، والتي كانت تستشهد بها لحث أبناء الشعب الكردي على طلب العلم والمعرفة، وحب الوطن، والتآخي، والسعي والمثابرة، وتحمل المسؤولية أمام الشعب والوطن.. الخ).
تطور الصحافة الكوردية بعد جريدة (كردستان)
أهم مراحل الازدهار
كما أكدنا في بداية حديثنا، فأن ظهور الصحافة الكردية وتطورها وازدهارها، كان دائماً مرتبطاً بالواقع السياسي للشعب الكردي وحركته التحررية، والوضع السياسي القلق الذي تعيشه كردستان.
فحالة المد والجزر التي تمربها القضية الكوردية، تترك آثارها دائماً على الواقع الصحفي الكردي.. فكلما حصل انفراج سياسي، اندفع المثقفون الكرد لإصدار صحف جديدة.
وفي فترات الأزمة السياسية يكون هناك نوعان من الصحافة الكردية، (صحافة معارضة) تصدرها فصائل الحركة التحررية، وتسمى بصحافة (الثورة) أو صحافة (الجبل).. وهي إما تصدر في المناطق المحررة، أو تصدر بصورة سرية في المدن التي تخضع لسيطرة السلطات الحكومية..
النوع الثاني هي التي تصدرها وتشرف عليها السلطة المركزية، ويطلق عليها (صحافة السلطة) أو (صحافة المدينة) فهي عادة تصدر بالتعاون مع كتاب ومثقفين كورد يعيشون في المدن الكبيرة.
إن (صحافة الثورة) الكردية كغيرها، كانت ولاتزال تعبر عن أهداف وطموحات الحركة التحررية الكردستانية، وعن آمال الشعب الكردستاني في التحرر من الدكتاتورية ونيل الحقوق القومية والسياسية، وهي صحافة تعبوية تعمل على تعبئة شعب كردستان ضد الأنظمة الحاكمة وربطها بالحركة الكردية من جهة، وتخوض نضالاً من اجل تقوية معنويات مقاتلي الحركة وترسيخ إيمانهم بقضيتهم المشروعة من جهة ثانية.. وهي وإن كانت من حيث المضمون تعبر عن الواقع الكردستاني، إلا انها من النواحي الفنية والطباعية ضعيفة وليست بالمستوى المطلوب.
أما النوع الثاني والتي أسميناها – وغيرنا -بصحافة السلطة أو صحافة المدينة، فعلى العكس؛ مضمونها عموماً لم يرق إلى طموحات شعبنا، حيث إن خطابها السياسي يعمل أحيانا باتجاه الاستسلام والتطبيع والرضوخ للواقع وتعبئة الرأي العام الكردى ضد حركته التحررية، إلا أنها من الناحية الطباعية والفنية كانت متطورة.
إن تنامي الوعي السياسي والثقافي لدى المثقفين الكرد، وتأثرهم بالشعوب المجاورة التي سبقت الشعب الكردي في ميدان الصحافة، وكذلك إحساسهم بالدور الحضاري الفعال الذي تلعبه الصحافة في حياة الأمم ونهوضها، كانت من العوامل الأساسية التي تدفعهم باستمرار لخوض غمار الصحافة والرجوع إليها بعد التخلي عنها لأسباب قاهرة.
فبعد جريدة (كردستان) التي توقفت عن الصدور في نيسان (1902) لم تصدر أية صحيفة كردية إلا بعد مرور (ست سنوات)..حيث حدثت في تركيا ثورة الاتحاديين على السلطان عام (1908) والتي عرفت (بالثورة الدستورية) أو (المشروطية) فصدرت في اسطنبول في شهر تشرين الثاني (1908)صحيفة باسم (كورد تعاون وترقي غزته سي) وكانت لسان حال أول جمعية سياسية كوردية بهذا الاسم تشكلت بعد تلك الثورة.
وقد ساهم في إصدار هذه الجريدة (الشيخ عبدالقادر الشمزينى) وعدد من المثقفين الكرد الكبار أمثال الشاعر (ثيرة ميَرد) والعالم الديني (الشيخ سعيد النورسي) و (اسماعيل حقي بابان) وكانت صحيفة سياسية دينية تصدر باللغتين الكردية والتركية.
بعد هذه الصحيفة ب (خمس سنوات) أي في عام (1913) صدرت في اسطنبول أيضا مجلة كوردية بعنوان (رؤذ كورد) وتعتبر أول مجلة كوردية في التاريخ، وكانت لسان حال جمعية (هيَظي كورد) – امل الكرد – وصدر منها (4) أعداد فقط صاحبها والمدير المسؤول فيها شخص يحمل اسم (عبدالكريم) وهو من أهالي مدينة السليمانية في كردستان العراق.
وبعد اتفاقية (سايكس بيكو) المشؤومة عام (1916) والتي أبرمت خلال الحرب العالمية الأولى بين الدول العظمى آنذاك والتي تم بموجبها تقسيم أراضي كردستان إلى أربعة أجزاء بين (تركيا وإيران والعراق وسوريا) تأثرت مسيرة الصحافة الكردية، ولم تنطلق إلا بعد احتلال الانجليز للعراق حيث أصدر الاحتلال البريطاني جريدة (تيَطةيشتنى راستى) - فهم الحقيقة - في مستهل عام (1918) وهي أول جريدة كوردية في تاريخ العراق..
وهكذا عادت الصحافة الكوردية الى مسيرتها بالتواصل والاستمرار والنمو فازدهرت مع تطور وانفتاح الحالة السياسية، وانكمشت مع تدهور الأوضاع السياسية وانحسار الديمقراطية والحريات العامة.
في العدد القادم ان شاء الله سنتحدث عن مراحل تطور وازدهار الصحافة الكردية.[1]