إنغمار كارلسون
ترجمها عن السويدية: سامي الحاج
تنويه:
هذه المقالة هي الفصل الأخير من كتاب (كوردستان.. الدولة الحلم)، للكاتب والدبلوماسي السويدي (إنغمار كارلسون). ويمكن النظر اليها على أنها خلاصة رأيه في المسألة الكوردية، وقت تأليف الكتاب. وربما كانت هناك بعض التعابير والآراء، التي لا نتفق فيها مع الكاتب، أو ربما تبدو غير صحيحة، لذلك لا بد أن أنوّه بأنني، ومن منطلق الأمانة العلمية، لم أتدخل في تعديل أو تغيير ذلك، فهذه كانت نظرته وآراؤه، في ذلك الحين، حيث حدثت تطورات مهمة في المنطقة الكوردية، من أبرزها ظهور المعارضة الكوردية القوية في إقليم كوردستان العراق، ومن ثم تحولها إلى المشاركة في الحكومة. ظهور منظمة (داعش) الإرهابية، كقوة استطاعت استنزاف
الكثير من قوة الجيش العراقي، والبيشمركة، على حد سواء، مما حدا بالكثير من دول العالم لإبداء الدعم والتأييد لإقليم كوردستان العراق. بالإضافة إلى التطورات الأخرى المهمة التي حدثت في كوردستان تركيا وسوريا. (المترجم).
بين تحرر (إيسلندا) من (الدانمارك) عام 1944، وانهيار الشيوعية عام 1991، كانت هناك فقط ثلاث حركات انفصالية ناجحة. عام 1965 انفصلت (سنغافورة) عن (ماليزيا) سلمياً. عام 1971، وبعد حرب دموية، انفصل شرق باكستان عن (باكستان)، وتكونت (بنغلاديش) الحالية. ونجحت (ارتيريا) في الانفصال عن (اثيوبيا) عام 1991، بعد حرب داخلية طويلة. استقلال (تيمور الشرقية)، يمكن النظر إليه كنتيجة متأخرة لتفكك المستعمرة البرتغالية. انهيار الاتحادين الروسي واليوغسلافي، أدى إلى أن مناطق كانت تتمتع سابقاً بنوع من الحكم الذاتي، بدرجات متفاوتة، أصبحت دولاً مستقلة. وهذا الكلام يسري على ما يعرف الآن ب (كوسوفو)، وعندما ألغى (ميلوسوفيج) عام 1989، الحكم الذاتي فيها، كانت حالة المنطقة تشبه إلى حد بعيد شبه جمهوريات. أما تقسيم (جيكوسلوفاكيا)، فقد جاء نتيجة مفاوضات سياسية.
أيٌّ من هذه الحالات لا يمكن مقارنتها بالمسألة الكوردية. ولكن بدلاً من ذلك، يمكن مقارنة حالة الكورد اليوم بوضع البولنديين، في الفترة الواقعة بين آخر تقسيم ل(بولندا) عام 1795، والحرب العالمية الأولى. حيث استطاعت بعدها (بولندا) أن تقوم من جديد، من تحت أنقاض الإمبراطوريات: الألمانية، النمساوية- الهنغارية، والروسية. إن بناء (دولة كوردية كبرى)، ممكن تخيله، فقط إذا تعرضت كل المنطقة التي يعيش فيها الكورد، إلى نفس الانهيارات الكبرى، التي تعرضت لها ألمانيا، روسيا، والنمسا- هنغاريا، أثناء الحرب العالمية الأولى.
فالكورد اليوم، وبشكل كبير، ليسوا موحدين في كفاحهم الوطني، كالبولنديين عندما وُلدت (بولندا) من جديد، عام 1918. على العكس من ذلك، الكورد اليوم، ولاعتبارات عدة، متشرذمين أكثر مما كان عليه الألمان، عندما تشكلت المملكة الالمانية عام 1871، والإيطاليين قبل الوحدة عام 1861. أحد الزعماء القوميين: (ماسيمو دي آزيجليو)، قال يومها: الآن قد خلقنا إيطاليا، والآن علينا أن نخلق الإيطاليين. هذه المهمة لم تنته، رغم مرور 150 عاماً.
علاوة على ذلك، يفتقد الكورد إلى شخصية مُوّحِدة، وطنية، طليعية، ومُحفِزة، من أمثال: (غاليباردي)، أو (بسمارك). أيٌّ من القادة الكورد، لم يأخذ على عاتقه، أو تمكن، من لعب دور (أتاكورد)، قائدٍ كوردي، وممثلٍ لهوية وطنية كوردية شاملة. على العكس من ذلك، كان طابع القيادة يخيم عليه التفكير العشائري، وحتى في الجزء الذي هو عملياً بحكم الدولة المستقلة في العراق: (حكومة اقليم كوردستان)، فإن الوقت ما زال مبكراً للقول بأن سياسيين، مثل: (جلال الطالباني)، و(مسعود البارزاني)، قد خرجوا عن دور الزعيم القبلي، والقائد الحربي، إلى دور رجل دولة. وكما تجلى سابقاً (يتطرق المؤلف في كتابه إلى الصراع الدامي بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني... المترجم)، فإن الاثنان قد قاتلا بعضهما، بالقدر نفسه الذي قاتلا فيه الأنظمة العراقية، التي أنكرت على الكورد حق تقرير المصير، وأن حكومة إقليم كوردستان اليوم، هي عملياً تتكون من إدارتين منفصلتين.
إن (كوردستان كبرى)، موحدة، سوف تضم سوية مجاميع، عاشت منفصلة عن بعضها، في أربع دول مختلفة، لأكثر من حوالي 90 عاماً، بحيث أن الثقافة، الحس الوطني، واستراتيجيات التعبئة السياسية، قد تطورت في اتجاهات مختلفة، وتحت مسميات متباينة. لذلك، فإن احتمالات احتدام صراع داخلي على السلطة، في هكذا دولة، متعددة ومتوفرة. ويسري هذا على مسائل أولية، مثل: أية لغة، أو لغات، سيكون لها مكانة رسمية، وأية ألفباء ستستخدم؟ ولكن التعارضات الفكرية المستترة، هي أكثر جدية وخطورة من هذا. وهنا يمكن التذكير بهجمات ال (ب ك ك) ضد المجاميع الكوردية الأخرى في (تركيا)، والاقتتال الداخلي المتكرر بين (أ و ك) وال (ح د ك) في (العراق)، وال (ح د ك إ) وال (كومَلة) في (إيران).
دول الجوار، والقوى الأخرى، التي تقف معارضة بالضد من قيام دولة كوردية كبيرة، سوف يبذلون ما بوسعهم لاستغلال هذه الحقيقة التاريخية. حيث استطاعت (تركيا) أن تحرك المجاميع، والفعاليات الكوردية، ضد بعضها البعض. والحرب الدموية الطويلة، في شرق وجنوب شرق تركيا، لم تكن فقط حرباً بين (ب ك ك)، والجيش التركي، بل كانت أيضاً حرباً داخلية كوردية، بين مقاتلي (الكريلا)، وبين ما يسمى (حراس القرى). هذا التشرذم واللاتوافق الداخلي، جعل من الكورد أداة سهلة بيد سياسة دول الجوار، وذلك من خلال سياسة (فرّق تسُد). ففي خلال فترة الحرب الدموية، والطويلة، بين العراق وإيران (1980- 1988)، استغل الجانبان الكورد كطابور خامس.
وعلى أية حال، فإن الكورد في تركيا، العراق، ايران وسوريا، لديهم أمران مشتركان. الكثير منهم يشعر بالهوية الكوردية المشتركة، حتى وإن تفاوتت في درجة قوتها، والجميع مقتنع بتأثير الأغلبية، في الدول التي يعيشون فيها. إن التعصب القومي قد تكرسّ وتعزز، بسبب الكمالية، وتحديدها الصارم لمفهوم (الأمة التركية)، وبسبب النزعة القومية العربية للبعث الاشتراكي في (العراق)، و(سوريا)، وبسبب النظام الشاهنشاهي، بداية، ومن بعدها النظام الاجتماعي التعسفي، ذو التقاليد الإسلامية الأصولية، في (إيران).
إن احتمالات تحشيد الدعم الخارجي، في الكفاح من أجل الحقوق الإنسانية والوطنية، قد أصبحت محدودة، وذلك بسبب أن جميع مناطق الكورد محاطة بدول لها سكانها الكورد، وهذه الدول كانت على الدوام تشك في النيّات الحقيقية للكورد. الشيء الوحيد، الذي وحّد سياسياً كلاً من: تركيا، سوريا، العراق وإيران، منذ عام 1920، هو معارضتهم لإنشاء دولة كوردية مستقلة. وقد دأب وزراء خارجية هذه الدول، على الاجتماع، بشكل دوري، لمناقشة المسألة الكوردية، وإعلان التزامهم بمنع قيام مثل تلك الدولة. منذ عام 1937 دخلت معاهدة (أو ميثاق) (سعدآباد)، بين العراق، إيران، وتركيا، حيّز التنفيذ، وفيه التزام من هذه الدول، بالكف عن استغلال الكورد كأداة ضد بعضهم البعض، بل على العكس من ذلك، العمل المشترك للوقوف بوجه الطموحات الوطنية والانفصالية الكوردية.
إن (كوردستاناً كبرى) سوف تهدد السلم الإقليمي، في: تركيا، إيران، العراق، وسوريا. ولا واحدة من هذه الدول تؤيد مبدأ حق الاستقلال، الذي ينطلق من تقسيم المنطقة. ولذلك، فإن مشكلة الكورد اليوم، أولاً وقبل كل شيء، مرتبطة بتلبية الحقوق الإنسانية، وحقوق المواطنة الأساسية، في الدول التي يعيشون فيها. في (العراق) فقط، جرى الاعتراف بهم كأقلية عرقية. أما في (سوريا)، فهناك حوالي ربع مليون منهم بدون جنسية. وفي كل الدول، عدا (العراق)، فإن الكورد هدف لسلسلة من القيود، عندما يتعلق الأمر بالحقوق الثقافية، وإتاحة وسائل الإعلام والتعليم باللغة الكوردية.
أما كيف تتطور وتنمو النزعة القومية الكوردية، فإن ذلك لن يعتمد - في الأقل- على التطور السياسي في الدول التي يشكلون فيها أقلية. فالنظريات القمعية قد جعلت من ذلك أكثر عدوانية، وزادت من التدفق نحو الجماعات الراديكالية، وأدت كل نكسة، أو هزيمة عسكرية، إلى مزيد من تسييس المجتمع. إن الاستمرار في الهجرة، وخاصة هجرة العقول، من المناطق الكوردية إلى أوروبا، أو المراكز الاقتصادية، في الدول التي يعيشون فيها، يشكل خطورة بأن يزداد الوضع الاقتصادي والاجتماعي سوءاً، ويؤدي إلى أن إسلاماً سياسياً متطرفاً، ميالاً للعنف، سيكون أقوى من تلك النزعة القومية.
أما إذا اتجه التطور، على العكس من ذلك، نحو التعددية والديمقراطية، فإن النزعة القومية الكوردية العدائية، سوف تقل حدتها. مثلما لو أنّ التطور في الاقتصاد الاشتراكي، تحوّل تحوّلاً إيجابياً، عندها ربما لا يرى الجيل القادم، في القومية، عاملاً وحيداً وحاسماً لهويته. في (أوروبا)، بدأت فكرة الدولة الوطنية تفسح المجال أمام كلاً من الهويات الإقليمية، و(ما بعد الدولة)، وحتى في (تركيا)، و(الشرق الأوسط)، يمكننا أن نلاحظ كيف أن فكرة القومية (العرقية)، المستوردة من أوروبا، بدأت تفسح الطريق لعودة الهويات الثانوية، التي كانت يوماً ما تطبع المجتمع العثماني، وتسامحُه تجاه الآخرين، الذين لديهم خلفية ثقافية ودينية مغايرة.
وهنا تلعب الجالية الكوردية في المهجر، دوراً مهماً: هل ستتمكن من المساهمة في إدخال الأفكار الديمقراطية إلى بلدانهم القديمة، أم أن نظرتهم ستصطدم بالأفكار الرومنطيقية، والحنين إلى الماضي، التي لا تتوافق وواقع اليوم؟ في عالم مثالي، كان من المفروض أن الكورد، كأكبر شعب في العالم دون دولة، كانوا يعيشون في استقلالية، منذ زمن طويل، ولكن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس مثالياً، ولن يكون كذلك أبداً. إن محاولة إقامة دولة وطنية (كوردية كبرى)، بقوة السلاح، هو مجرد وهم، لن يجرّ معه سوى المزيد من الحوادث على شعب مبتلى أصلاً.
في كوردستان العراق، يجري وضع اللبنات الأساسية للتعليم العالي، باللهجتين الكورديتين الرئيستين. الجامعات هناك يمكن تطويرها لتصبح المدارسَ الأم الحقيقية (آلما ماتَر) لكل الشباب الكورد، بغض النظر عن الدولة التي يعيشون فيها، كأقلية. الثقافة والتراث الكورديين يزدهران اليوم، وأن منطقة كوردستان العراق في طريقها، اليوم، لكي تصبح مركز الثقافة الكوردية، والوعي السياسي الكوردي. الخبراء والمختصون الكورد، في مختلف المجالات، يتوجهون إلى هناك، من دول الجوار، أوروبا، وأمريكا الشمالية، لكي يشاركوا، ويساهموا، في بناء المجتمع الكوردي. ولو استمر هذا التطور، ولم يتم النظر إلى كورد المهجر، كتهديد لمؤسسات السلطة المحلية، فإن الضغط سيزداد باتجاه تطبيق الديمقراطية واللامركزية في دول الجوار.
لقد استفاد الكورد من العولمة. ففي مسيرة جيل واحد، انتقلوا من مجتمع عشائري، يقاد من قبل الشيوخ والآغوات، إلى أنه اليوم توجد خمسة قنوات فضائية (وقت صدور الكتاب 2008.. المترجم)، تعرض برامجها التلفزيونية بالسورانية والكرمانجية. ومع وجود الانترنيت والموبايل، فإنهم على اتصال دائم مع كورد المهجر في أوروبا. لا أحد بإمكانه، بعد الآن، أن يمنع استعمال اللغة الكوردية، كوسيلة للتواصل. أصبح بإمكان الكورد، في كل أصقاع الأرض، أن يعرفوا، مباشرة، ماذا يحدث في المناطق الكوردية. إن العولمة، والنمو المضطرد للجالية الكوردية الكبيرة في المهجر، جعل من المستحيل نجاح محاولة استخدام الوسائل العسكرية، والاضطهاد، للوقوف بوجه المطالب الكوردية العادلة في الحقوق السياسية والثقافية، وإخفاء هذه المحاولات عن الأضواء العالمية.
ومع ذلك، تبقى (كوردستان الكبرى) مجرد يوتوبيا، وعلى الذين يحملون مثل هذه الأحلام، أن يفكروا بالمثل الكوردي القائل: (إذا سدّ الله باباً، فتح ألفاً غيره).
*المؤلف: إنغمار كارلسون.
*كاتب ودبلوماسي سويدي، من مواليد عام 1942.
*تولى عدة مناصب دبلوماسية منذ عام 1967، وكان آخرها القنصل السويدي العام في اسطنبول (2001-2008).
*له عدة مؤلفات، يُدرس بعضها في الجامعات والمعاهد السويدية.
*يعمل أستاذاً محاضراً في (جامعة لوند) السويدية، منذ عام 2009.[1]