محسن جوامیر *
تسلمت رسالة ألكترونیة تقول ما یلي : تواصل دار النشر (آفيستا) طباعة ونشر أعمال شيرزاد حسن الذي يعتبر واحدا من أبرز الكتاب الكورد في كوردستان العراق باللهجة السورانیة. وقد قام بترجمة روايته (حلم العناكب) الكاتب والمترجم بسام مصطفى من اللهجة السورانية الى الكرمانجية وذلك بغية تعريف الأدب المكتوب بالسورانية لقراء الكرمانجية وتعميق جسور التواصل والمعرفة بين أبناء الشعب الواحد في كافة أجزاء كوردستان. وقبل فترة صدرت مجموعة قصصية للكاتب شيرزاد حسن بترجمة المترجم نفسه بعنوان ميم ومازالت أعمال أخرى قيد الاعداد وستطبع قريبا.. إنتهت الرسالة.
في واقع الامر كتبت لهم ردا ألكترونیا وانزويت، ولكن من بعد شعرت إنني ما ارتویت، ولا بد أن أستطرد أكثر للقراء الذين یدعون أنهم كورد وأنهم امة، وكذلك قراء العربیة اللذين جعلتهم لغة الضاد امة واحدة، من المحيط الی الخلیج، برغم طول المسافة بین لهجاتهم، الذي قد یساوي بعد ما بین قارة استرالیا ومكة.
كل من یقرأ الرسالة أعلاە، بشئ من الدقة والرقة، يدري واقع الكورد قومیا، ومدی عدم واقعیة إضفاء صفة (الامة) علیهم، طبقا لما هو متفق علیە بین العلماء. فالرسالة تقول لك إن كتابا للكاتب شیرزاد حسن قد ترجم من اللهجة السورانیة ل اللهجة الكرمانجیة ، وذلك كي یتعرف الكرمانج علی ما يكتب بالسورانیة، وتتواصل بالتالي العلاقة بین أبناء الشعب الواحد، أي بین السوران والكرمانج.
لست أدري أين هذا الشعب الكوردي الواحد الذي یرفض الاجتماع علی مائدة لغة مشتركة، كما كانوا، بحجج لا تنم إلا عن الانبهار بالتشتت القومي، وأین تلك القيادة السياسية التي لا تلقي بالا لأهم تمزق لغوي قومي یتعرض لە الكورد في العصر الحديث؟ ومن المفارقات إن نفس عبارة أبناء الشعب الواحد التي نسمعها من دار ( آفيستا ) الیوم كنا نسمعها طوال عقود من السنین في العراق، فرفضناها وواجهناها بالثورات، ورجمناها بالإدانات.
لا أتطرق في هذە العجالة إلی كورد تركیا، لأن 85% منهم لا یعرفون الكوردية أصلا، حسب إستطلاعاتهم، ولا إیران، بل اركز علی العراق الذي شغلت الكوردية حیزا في دساتیرە وقوانینە، وأقول أن كل مطلع یعلم أن اللغة الكوردية الجامعة المانعة من التصدع والتبعثر، كانت موجودة أیام الزعیمین مصطفی البارزاني وعبدالكريم قاسم، وطوال حكم الرئیس العراقي المخلوع لم تعرف ازدواجیة اللغة، لهذا وجدنا أن العراقیین من زاخو إلی البصرة ومن خانقين إلی الرمادي كانوا يدرسون لغة كوردية واحدة، بعد بیان آذار 1970، وكان هناك أمل في أن تكون تلكم اللغة وصلة جامعة أيضا بین العراقيين بجانب العربیة الجمیلة، لو لم تكن التكتيكات المرحلیة هي الحكم في حكم حاكم قضی علی شعبە أولا ثم علی نفسە. وهذا الظرف إمتد لغاية السنوات الاخیرة، وسارت الامور التعلیمیة بشكل طبیعي، ولم تكن صعوبة تعلم اللغة المعتمدة أو قل السورانیة المعتمدة من طرف كل أبناء كوردستان العراق بكل لهجاتهم ترقی إلی ما یكابدە طفل في صعید مصر أو في صحراء موريتانیا من الصعوبة حین يبدأ بتعلم اللغة العربیة الفصحی. وإن العبد الفقیر كاتب هذە الأسطر وأقرانە المساكین لم يكونوا یعرفوا كلمة عربیة واحدة حینما بدأوا بتعلم ألف باء العربیة للكاتب ساطع الحصري.
لولا معرفتي باللغة العربیة الفصحی وفضلها، لضربت اخماسا في اسداس في الجزائر وتونس عام 1991، لأني ما كنت أفهمهم ولا هم كانوا یفهمونني. وهذا الحال یكاد يواجە الكوردي من دهوك الرائعة وشقیقە الكوردي في السلیمانیة الیوم، برغم كونهم من قوم واحد، وكان اللە في عون العامل التايلاندي الدهوكي حین ینتقل بعملە إلی أربیل والسلیمانیة، ظنا منە أن أهل تلك البلاد یفهمون بعضهم البعض وبالتالي یفهمونە، وثمة قصص وحكايات، أو مضحكات مبكیات بصدد الكوردیة التي لا تحل ولا تربط في محیط هٶلاء البٶساء، الذي تتحول فیە اللهجات. وهنا تأتي دار نشر ( آفیستا ) المذكورة وتنثر علینا العواطف من العبارات، بحسن نیة، محاولة بذلك تضييق الهوة بین بني جلدتها الكورد لتقوية إنتمائهم الكوردي، بترجمة قصة سورانیة إلی الكرمانجیة، دون أن تعلم أن جهدها لا یعني أكثر من أن تأكل الخبز بالخبز، كما كان الشاعر هزار الموكرياني یقول في مثل هذە الحالات.
أقول هذا وأٶكد جازما، بل وكلي يقين، إنە مهما حاول المرء التشبث بلهجتە، حتی لو كان من إسطنبول أو دياربكر أو كوردستان الحمراء، فانە سيظل ناقصا في قامتە الثقافية والأدبیة والكوردستانیة، وشاعرا بقصور لغوي، إن لم يتقن لغة العاصمة أربیل التي بزغ فجرها في السلیمانیة عاصمة الثقافة والأدب والشعر واللغة في عتمة الإضطهاد وإنكار الحقوق القومیة، وازدانت سماٶها في العلیاء بنور مفردات موكريان وبهدينان.
ما أجمع علیە علماء اللغة والاجتماع هو أن الأرض واللغة الواحدة هما العنصران الاساسیان لتكوين أي امة او شعب، وإذا ما إنتفی عنصر من هذین، فلا وجود لها ( أي الامة ) ولە ( أي الشعب )، وكل إدعاء كما ورد في الرسالة أعلاه لن يتجاوز حدود الجهل بالامور الخطیرة أو خداع النفس. ولو لم تقدم حكومة إقلیم كوردستان بابداء الحزم في حل هذە الازدواجیة أو الثنائیة اللغوية، فان هذا الانفجار اللهجوي سوف تتعدی إلی لهجات أخری كذلك، وتظهر بالتالي قومیات جديدة في رحم القومیة الكوردية المهددة بالانقسام والتصدع الأكیدین.
المراقب لهذا التوجە یلحظ جیدا إن الأمر أصبح تقلیدا، فهناك أقلیات لهجوية كوردية أصیلة، تعیش علی بقع جغرافیة ضیقة علی أطراف وحواشي كوردستان، بدأت ترفع عقيرتها وتتسلل، مطالبة نیل نصيبها من الدراسة بلهجتها إقتداء بمدينة دهوك التي تطالب الآن بقوة بالقضاء حتی علی البقية الباقية من اللغة الموحدة التي مازالت تدرس بها بعض المواد، كما يبدو. بل إن بعضهم تقوم قیامتە وترتعد فرائصە هلعا إذا قلت أن ما يتكلم بە هو لهجة، وعلیك أن تقول إنها لغة. وقبل عدة أیام وصلتني رسالة ترجو التبرع لطبع كتاب باللهجة الفلانیة، وكان مكتوبا علیها رقم الحساب البنكي أیضا.
وهنا لا أتطرق إلی طامة الأبجدية اللاتينیة التركیة، التي من فرط عشق وولە البعض لها، أضحت وكأنها صناعة كوردية، لا یأتیها الباطل من بین یدیها ولا من خلفها، وصاحب إختراعها كوردي من إسطنبول، ولكن سرقها الأتراك بعد عملیة قرصنة. وكذلك لا أتطرق إلی الاملاء بالحروف العربیة المعتمد في الكتابة، والذي تعرض إلی أكبر عملیة إهمال بعد أن كان وافیا للشروط إلی أبعد حد، حیث بدأ كل قلم يكتب بالإملاء الذي يعجبە وبالشكل الذي یملي مزاجە علیە، لهذا نادرا ما تجد أشخاصا لهم نفس الإملاء. وكل هذا یحدث في وقت قد لا تجد مٶسسة في الشرق الأوسط تضاهي في حجمها وجاذبیتها أكاديمیة اللغة الكوردية في أربیل، والتي إخشی أن تتحول یوما ما إلی كراج اللهجات، تسع لكل شئ إلا للغة الكوردية.
حالة الإنفلات اللغوي التي أمام رياحها تكاد اللهجات تفرخ وفي بیئتها ترتع وتلعب، تجعل المرء تتهاوی لديە بعض المشاعر التي مازالت جارحة ومٶلمة، وتظهرعنده بالتالي هواجس وأفكار جديدة، بخصوص التعريب الذي تعرضت لە كركوك الحبیبة وباقي المناطق مثلا، وقد لا یبقی كذلك مسوغ لديە لدعم أو حتی التعاطف مع الحركات الثوریة الراهنة التي تجعل الترويج للهجات من ضمن أهدافها، أو حتی إضفاء صفة الكوردية والشرعیة علیها.. یا تری ما الفرق بین تأثیر وانعكاسات وتداعیات هذە الدعوات علی المستقبل المنظور والبعید للكورد (كأمة وقومیة) ولكوردستان ( كأرض )، وبین التعريب الذي لازال الكورد یلعنونە ويكفرونە ويناضلون من أجل إزالتە وإقبارە إلی الأبد؟.. ثم إن الأمر كما هو معلوم ليس محاولات فردية حتی نسكت علیها أو كتابات جانبیة تهمل، انما هو يسير وفق تنظیم دقيق ممنهج، وأضحی واجبا عند البعض كفريضتي الصلاة والحج.
إذا لم يفهم الكورد بعضهم البعض وترك حبل الاشتباكات والمداهمات اللهجوية علی الغارب لیتموضع كل في جبهتە ويداهم، ووزعت كعكعة اللهجات علی الأباعد والأقارب، ولم یجتمعوا علی اللغة التی أصبحت لهم ملاذا لا عقارب، وأداروا ظهورهم لها، فماذا بقيت من حلقة وصل بینهم تمیزهم عن الأتراك مثلا، وماذا تفيد ترجمة ملیون كتاب من هذە اللهجة إلی تلك، غیر الاعلان علی إستحیاء بأن لا وجود لشعب أو امة إسمها الكورد ؟ بل إن في هذە الحالة حتی الأرض المشتركة لا تفيد، لأن الأرض المشتركة تجمعنا كذلك مع جیراننا العرب والترك والفرس منذ أمد بعید، وإلی الأبد.. ولكن العصب الأساس الذي تحیا علیە أي أمة هو اللغة، الواحدة، الموحدة، الحافظة لكل إنشقاق، والواقیة من كل إفلاس قومي. وإنك لن تجد علی الأرض امة أصيلة بلغتین، وما یحكی عن النرويجیة، فهو عن جهل ومبالغ فيە، لا عن علم بالملابسات التأريخية في تلكم اللغة، وسوف نتطرق باذن اللە إلی ذلك بشئ من التفصیل اذا أمهلنا الاجل، ولكل كتاب أجل.
يقول العلامة اللغوي المصري الدكتور علي عبدالواحد وافي في كتابه الشهیر ( فقه اللغة ص 152 ) ما يلي:
إن اللغة العامية تختلف باختلاف الشعوب العربية، وتختلف في الشعب الواحد باختلاف مناطقه. فعامیة العراق لا يكاد يفهمها المصريون أو المغاربة، وعامیة المصريين لا يكاد يفهمها العراقيون ولا المغاربة، وعامیة المغاربة لا يكاد يفهمها العراقيون ولا المصريون. وفي البلد الواحد تختلف اللهجات العامیة باختلاف طوائف الناس وباختلاف المناطق، فعامیة المنیا غیر عامیة جرجا. بل إن المديرية الواحدة لتشتمل علی كثیر من المناطق اللغوية التي تختلف فيما بینها إختلافا غير يسير. فالقضاء علی الإزدواج لا يكون إذن إلا بأن تصنع في كل منطقة، بل كل مدينة، بل كل قرية، لغة كتابة تتفق مع لغة حدیثها وبذلك يصبح في البلاد العربية آلاف من لغات الكتابة بمقدار ما فيها من مناطق ومدن وقری.. ولا أظن عاقلا ينصح بمثل هذه الفوضی... إنتهی قول العلامة وافي.
في خضم هذە الفوضی اللغوية والتحدي الخطیر للأمن اللغوي الكوردي، لست أدري كیف یكون الأمر مع الدستور العراقي الذي لا تذكر فیه إلا لغة كوردية واحدة بجانب لغة عربیة واحدة، وما إنعكاسات هذە المضحكة اللهجوية علی الواقع التطبیقي للمادة الرابعة في العراق، في حین هناك من يطالب أن یكتب كل شئ بكل اللهجات لكون الكورد لیسوا أصحاب لغة واحدة.
رحم اللە صاحب كتاب ( القضیة الكوردية ) العسكري محمود الدرة الذي وصف الكورد في القرن الماضي بانهم بطیئوا التفكیر وكدت في تلكم الأیام أجن من تلكم العبارة وبت أمیل إلی التكفیر، والآن أترحم علیە لعبقريتە وبغزارة، وأعتبر نفسي بالسوء لأمارة. وإذا ما صارت نبوءة الدرة حقيقة واقعة، ولعنة اللهجات قضت علی اللغة الكوردية الموحدة إلی يوم وقعت الواقعة، فلا مناص حینئذ من تشرذم الكوردية إلی : السورانیة والبهدينیة والكرمانجیة والهورامانیة والفیلیة والزازاكیة واخريات..! وبفضل سذاجة الكورد ستروج يومئذ ترجمات دار آفیستا وتتضاعف أرباحها في سوق اللهجات وأزقتها التي لا تحمل في خزائنها سوی عملة ( الكورد لیسوا امة ).
* كاتب كوردستاني[1]