#منيرة أميد#
بغداد - ستينات قرن العشرين
جاءوا ليسكنوا في ذلك الزقاق الذي يقع في أحد الاحياء التي تتوسط شارع الكفاح من جهة و شارع شيخ عمرمن الجهة الاخرى، تلك الاحياء كانت مكتضة بساكنيها من الكورد الفيلية.
العائلة كانت تتكون من الوالدين وستة من الابناء كلهم ذكور. الآم الحامل كانت تنتظر ان يرزقها الله بأبنة، لقد زارت مراقد الأئمة والاولياء ونذرت من أجل ذلك الكثيرمن النذور.
كانوا حديثي العهد بالمدينة، لم يفكروا يوماً اللجوء اليها. كانوا من ميسوري الحال في تلك القرى الكوردية. ولكن حادث جلل الم بهم، ولم يجدوا امامهم سوى الرحيل دواءاً ، كان ابنهم البكر الذي لم يكن قد تعدى عمره 14 ربيعاً . قد خرج ذات يوم بصحبة رفاقه وأقرانه, لكنه لم يعد, لانه انزلق عندما كان يلعب مع صحبه قرب منبع ماء، ليهوي في الوادي مع مياه الشلال ، حيث كانوا يمرحون.
ذات يوم جاء ابنهم الصغير يبحث عن جارتهم التي وعدتها بالمساعدة في ساعة المخاض، ، ولكنه وجدها غائبة، ولم تكن في البيت سوى ابنتها التلميذة في الصف الخامس الابتدائي ، اي لم تكن قد تجاوزت اعوامها الاحد عشر بعد.
رأت فزع الصغير ، واخبرها ، ان والدته موجودة في حمام البيت ، ويعتقد انها قد ذبحت (قطاً) ؟
هرعت لنجدة جارتهم ، ولفطنتها عرفت ، انها في حالة وضع. عند دخولها بيتهم ، كانت قد أنتهت من غسل المولودة الجديدة، واحتضنتها. ( كانت تلك عادة النساء في القرى الكوردية ، ان تقوم بمهام المولدة لنفسها).
ساعدتها بحمل الوليدة عنها ، واخرجتها من الحمام ، واسرعت بوضعها في الفراش ، ولكن الجارة فقدت الوعي. تذكرت البنت ما كانت تفعل والدتها في هذه الحالات ، فاسرعت لحرق خرقة صغيرة من القماش ، وقربتها من انف الجارة المسكينة لتشم رائحة (العطابة) ، لعلها تصحوا ، وفعلا تحقق ذلك .
لا تذكر كم مضى من الوقت لحين عودة والدتها ، ولكنها كل ما تتذكره ، انها سلقت بعض البيض (نصف ستاو) ، واعطتها لجارتهم ، ومع اشتداد صراخ الطفلة ، لم يكن أمامها سوى من عمل القنداغ ( ماء مغلي يبرد قليلاً ويضاف اليه قليل من السكر) ، وبملعقة صغيرة أطعمت الصغيرة.
اثنت عليها أمها كثيراً، لدى عودتها . ولكن ذلك اليوم كان بداية لعلاقة عميقة جمعتها بتلك الاسرة، وخاصة بالمولودة الصغيرة ، التي شاركت بمنحنها أسم ( زينب) . تعلقت بها بشكل غريب ، رغم انه كان لها اشقاء صغار ، كانت لا تلبث عند عودتها من المدرسة ان تذهب لتراها ، وعندما كبرت بعض الشئ ، كانت معها دوماً، ولم يكن ليحلو لها القيام بواجباتها المدرسية الا وزينب الى جوارها. كانت تشعرها بفرح غامر ولم تكن تفهم كنة تلك الاحاسيس التي بدأت تحس بها في ذلك العمر المبكر ، والتي لا يقل عن عواطف الامومة التي عرفتها لاحقاً.
ذات يوم عادت من المدرسة ، الأجواء كانت تبدوغريبة ، هناك شئ يعمل الجميع على اخفاءه. كعادتها هرعت الى الجيران طرقت الباب، كان مغلقاً على غير العادة ، لم يرد أحداً. عادت الى البيت ، فاحتضنتها أمها ودموعها تنهمر؟ فعرفت ان هناك شيئاً غير عادي قد حدث ، ولا بد انها مصيبة كبرى ؟! ولكنها في النهاية فهمت ، انها لا تستطيع أن تضم الى صدرها زينب بعد الان ؟! لانها أبعدت قسرا ، وببساطة لقد تم تهجير العائلة ؟
لا تعرف كم احتاجتها من الوقت ، ليخف عنها الم الفراق ، ولكنها أحست دوماً ، بوخزة في قلبها ، اشبه بمن فقد وليده.
تمر الاعوام ويستمر التدهور في الاوضاع البلد، وفي ظل تلك الاوضاع السياسية المضطربة لا تجد بداً من الهروب، وهي عروس لم تهنأ في بيتها الزوجي كثيراً، لتجد طريقها الى المنافي مرغمة. حيث انتقلت من منفى الى منفى بصحبة زوجها.
أحد المنافي الاوربية بداية التسعينات
في وقت متأخر من ذلك المساء يرن الجرس الموصل بالمدخل الرئيس للمنزل . يرد زوجها ، فيخبرها انه أحد طلبة الدراسات العليا – في نفس الجامعة التي انهت دراستها العليا فيها. وحيث ما زال زوجها يعمل.
أستغربوا هذه الزيارة وفي هذا الوقت بالذات ، وخاصة وهو أحد الطلبة المبعوثين من ( الجمهورية الايرانية). و رغم أن الحرب العراقية الايرانية كان قد وضعت اوزاره ، الا انه كان قد صنع ذلك الحاجز الغريب ، بينهم كعراقيين وأولئك المرسلين للدراسة على حساب دولتهم من ايران الجارة اللدود.
الطارق جاء طالباً المساعدة, في امر هام, اعتذر كثيراً منهم، فربما جاء في وقت غير مناسب؟! .. ولكن هناك ما دفعه لطلب المساعدة منهم بالذات دون الاخرين؟! اخبرهم انه هو الاخر عراقي ينتمي الى أحد العوائل الفيلية التي هجرت الى ايران في مطلع السبعينات. وانه متزوج وله ولد عمره 3 سنوات.
اتفقوا في النهاية ان يتم التعارف بين الزوجات في اليوم التالي في مركز المدينة، اخبرها ان زوجته ، اسمها زينب ، ذو عينين زرقاوين ، قالها مازحاً ، حتى لا تتصوري انها ( اوربية) ، ثم ذكر لقد كانوا يسكنون في الحي الفلاني قبل تسفيرهم؟! وغادر بعدها.
ظلت كلماته الاخيرة ترن في رأسها؟ زينب ، زرقاء العينين ، كانت تسكن عائلتها في نفس حيهم؟ ايعقل هذا ؟ ام انه فلم هندي؟ أترى هي؟ اكتب لها الباري ان تراها بعد كل هذه السنوات ؟ وفي هذه البلدة الغريبة؟ في هذا الجزء من العالم؟ كيف تكون معها زينب في نفس المدينة ومنذ سنتين ، ولم تلتقي بها ؟ وان التقت بها هل كانت ستعرفها ، وهي لما فارقتها لم تكن قد تعدى عمرها بضع سنوات ؟
لم تنم ليلتها.
أنبلج الصباح .. كانت تتابع الساعة ..انها التاسعة.. تستطيع الان ان تتصل بها ،.. اتصلت .. بعد السلام سألتها مباشرة ، هل انت أبنة فلان؟ أأنت شقيقة فلان وفلان ؟ أحست بأنفعال شديد لم يكن انفعال الشخص، على طرف الاخرمن الخط بأقل منها؟ كررت من أنت ؟ انا أعرف صوتك؟ من انت ارجوك؟ أنا متأكدة اني اعرف هذا الصوت.. سمعته سابقاً؟.
اتفقوا على اللقاء بعد 10 دقائق.. تلك الدقائق كانت بطول السنوات العشرين التي فارقتها... كان شريط الذكريات يتهاوى أمامها... تذكرت اخوها ( المفقود).. الذي كان يشكل ثنائياً مع أحد ابناء تلك العائلة. تذكرت احاديث والدتها وجارتهم .. تذكرت مئات المواقف والحالات .... كلها كانت أنسانية تعبر عن تلك العلاقات الحميمة التي كانت تجمع الجيران ، والذي كانوا للبعض أكثر من أهل.
هناك في بيت .. زينب.. مرتبكة كثيراً.. البست ابنها ملابسه بعجلة ، حتى اخطاءت في الباسه حذاءه ، وقف زوجها ضاحكاً، اهكذا ستقابلين شخصاً للمرة الاولى .. اجابته لا انها ليست المرة الاولى .. اني عرفتها من صوتها..
أحتضنتها طويلاً.. كأن تلك السنوات قد تقلصت الى تلك اللحظة .. ثم ابعدتها.. لتشبع من رؤياها ... نعم القدر رتب لها ان ترى زينب مجدداً.. تحدثتا مطولا ، سألت عنهم فرداً فرداً.. سألت عن شقيقها.. الذي كان يظن الكثير ، انه توأم لاخوها؟! فجاء الخبر الصاعقة ؟ لقد انهى دراسته في الطب؟ ثم جند في الاحتياط .. كان ينقل بالطائرة الى أحد المواقع .. حيث أسقطت من قبل النيران المعادية ( في الحرب العراقية الايرانية) ، وترك ارملة وطفلين؟
بينما هي لم تحتاج الى الكثير لتبلغها به. كانت قد علمت من المسفرين في الثمانينات ما حل بالعائلة؟ وكيف تم تصفية الابناء ووفاة الام من الفجيعة معهم ليلحقهم الاب وخاصة مع اعتقال بقية ابنائه.. كل ما استطاعت ان تخبرها هو اختفاء أثرشقيقها من كان تؤاماً روحياً لاخ الاخرى، رغم اطلاق سراحه بعد سنين ، لكنهم اعتقلوه مجدداً مع اندلاع انتفاضة 1991؟!
استغربت ، كيف كانت تعرف كل شئ عنها؟ فقالت ، صحيح انا كنت صغيرة ، ولكن لم يكن ممكنا نسيانك ، لان اهلي مازالوا يتحدثون لي عنك؟ ويتذكرون عائلتكم ، وكنا نحن ايضاً نتتبع أخباركم؟!
كان أغرب موقف هو من ابنها ، عندما رأي اندماجنا بالحديث بالكوردية ، وحميمية اللقاء ، اصبح يسأل امه ، اماه هل نحن عدنا الى اهلنا؟ انحن الان في وطننا؟
كان الوقت قصيراً .. انها عائدة الى اهلها .. في اليوم التالي.. لم يسنح لها الوقت .. سوى ان تشتري بعض الهدايا لابناء (الشهيد). مع وعد انهما سيلتقيان بعد عودتها مجدداً .. أحست لحظتها أن روحيهما ، لم تكن لتبدوا انهما افترقتا أبدا.
عادت زينب .. محملة بهدايا لا تعد ولا تحصى ، استغربت كيف استطاعت ان تحملها كلها؟! ولكن لم تفرح كما فرحت بالحبة الخضراء ( ونوشك) وهي حبوب خضراء صغيرة ، لا تنبت أشجاراها سوى في كوردستان، تأكل كمكسرات والمجفف الصغير الحجم منها تستخدم في صنع رز في الكثير من القرى الكوردية، والمادة الصمغية المستخرجة من الشجرة تستخدم كعلكة ( علج ماي).
ولكنها ايضاً عادت باخبار الاهل والاقارب .. وخاصة والديها العزيزين .. وكيف كانت فرحتهم بخبر لقاءنا ؟ واني سأكون قريبة منها في غربتها.
لم تنتبه يومها ان زيارتهم لها كان في وقت متأخر جداً .. كان الوقت قد تجاوز الساعة العاشرة مساءاً ، ومن عادة اهل البلد حيث هم ، ان لا تكون الزيارة بعد الثامنة ، لان الاولاد الصغار دون الرابعة عشر لا يجب أن يتواجدوا خارج منازلهم بعد هذا الوقت ، والسبب الاخر أن الدوام الرسمي يبدأ بين السادسة والسابعة صباحاً . لذا يتوجب النوم المبكر.
تكررت الزيارات في الاوقات ذاتها .. لم تشأ السؤال ! ولكنها احست بتحفظهم ان يعلم احداً بهذه العلاقة؟! علمت اخيراً الاسباب ؟!
ان الوضع بين الطلبة الموفدين من بلدهم لا يختلف كثيراً عن الموفدين من بلدان تحكمها الانظمة الشمولية؟ فكتبة التقارير هم ذاتهم اينما كانوا ؟ لذا فالحرية التي منحتها اوربا للقاءهم ، لم تكتمل؟ فلعنت ذلك الشرق البليد الذي لم يكتفي بتفريقهم وهم على ارضهم وانما لاحقهم الى منافيهم البعيدة كأنه رباط أبدي او قدر يظل يناصبهم في حلهم وترحالهم .. ودعتها للمرة الاخيرة وكلها امل بلقاء قادم في الوطن بعد ان يزاح عنه الدكتاتورية وذلك الحلم سيتحقق لا محالة..[1]