#رياض جاسم محمد فيلي#
تمر علينا الذكرى الخمسين لقيام ثورة الرابع عشر من تموز عام / 1958 الخالدة ، التي غيرت الحكم الملكي وأسست النظام الجمهوري بقيادة أبن الشعب البار ( الزعيم الشهيد المغفور له عبد الكريم قاسم ) مع نخبة خيرة من الضباط الوطنيين الأحرار في الجيش العراقي الأغر ... فشهدت البلاد نسائم الحرية التي تلمسها الشعب العراقي عبر إطلاق الحقوق العامة والحريات الديمقراطية وإنتشار الصحف والمطبوعات وظهور الأحزاب السياسية إلى العلانية ، ولأول مرة تشكلت رئاسة الجمهورية من مجلس سيادة مكون من ثلاث أعضاء يعبرون عن ألوان الطيف العراقي ، كما تألفت حكومة الثورة من وزارة وطنية إئتلافية من معظم القوى السياسية والحزبية في حينها ، وفي سابقة لم تشهدها البلاد ... حيث أقرت المادة (3) من الدستور المؤقت الصادر بعد الثورة في 27-07-1958 ، على قيام الكيان العراقي على أساس الشراكة الحقيقية بين العرب والكرد ، وبالتالي إنعكست هذه الأجواء المتفتحة على شريحة الكرد الفيليين التي عانت في عهد النظام الملكي من إهدارها حقوق مواطنتها المشروعة عبر تشريع قانون الجنسية العراقية رقم (42) لسنة 1924 الجائر ، وجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية رغم كونه مخالفاً لأحكام المادة (6) من القانون الأساسي العراقي { الدستور الملكي لعام 1925 } الذي إسقطته الثورة المجيدة ، إذ نصت ما يلي : - ( لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون ، وأن أختلفوا في القومية والدين واللغة ) ، وأصبح الدستور المذكور آنفاً مناقضاً لنفسه بتعديله وفق القانون رقم (69) لسنة 1943 ، وحسب ما نصت عليه الفقرة (1) من المادة (30) وكما يلي : - ( لا يكون عضواً في أحد مجلسي النواب والأعيان ما لم يكن عراقياً إكتسب جنسيته العراقية بالولادة أو بموجب معاهدة لوزان أو بالتجنس على أن يكون المتجنس منتمياً إلى عائلة عثمانية كانت تسكن عادةً في العراق قبل سنة 1914 ومر على تجنسه عشر سنوات ) ، أي أن الكردي الفيلي لا يستطيع تولي عضوية المجلسين { الأعيان والنواب } إلا إذا كان مكتسباً للجنسية العراقية بالولادة ، في حين أن العثماني يصبح عيناً أو نائباً لمجرد كونه متجنساً لمدة عشر سنوات من أسرة تسكن عادةً في العراق قبل عام / 1914 ، كما أن التشريعات الملكية اللاحقة زادت من الطين بلة ، فصدر مرسوم إسقاط الجنسية العراقية رقم (62) لسنة 1933 وتعديلاته ، وقانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود رقم (1) لسنة 1950 ، وتبعه القانون رقم (12) لسنة 1951 ، ومرسوم ذيل الجنسية العراقية رقم (17) لسنة 1954 ، والتي أوجدت سوابق خطيرة وترتبت عليها عواقب وخيمة ساعدت على ترسيخ مفهوم إسقاط الجنسية في ذهن الأنظمة المتعاقبة على السلطة ، وتحديداً بعد مؤامرة 8 شباط الأسود عام / 1963 ، ومهدت السبيل لإتساع الدائرة من ترحيل محدود إلى عمليات تهجير بالجملة شملت شريحة مهمة من الشعب العراقي متمثلة بالكرد الفيليين ، وطافت قضية الشيوعيين المبُعدين في عام / 1955 على السطح لكونها مخالفة لروح الدستور ، خاصةً في نص المادة (7) من القانون الأساسي التي حظرت نفي العراقيين إلى خارج البلاد ، وهذا ما كشفته وقائع جلسات المحكمة العسكرية العليا الخاصة المعروفة بأسم { محكمة الشعب } المشُكلة بموجب قانون مُعاقبة المتآمرين على سلامة الدولة ومفسدي نظام الحكم رقم (7) لسنة 1958 ، وأثناء محاكمة وزير الداخلية في العهد الملكي ( سعيد قزاز ) .
لقد تنفست الشريحة الفيلية الصعداء في عهد الثورة المباركة بإعتبارها منعطفاً جوهرياً في تأريخ العراق المعاصر ، وقد سمحت لأبناء هذه الشريحة للمرة الأولى بدخول الكليات العسكرية ومسلك الشرطة ، وتقلد المناصب الحكومية بعد أن كانت محرومة من أبسط الحقوق ، وظهر منها جيل مثقف واعي وصل إلى مراكز متقدمة في الدولة والمجتمع من { العلماء ، والأساتذة الجامعيين ، والأطباء ، والمهندسين ، وضباط الجيش والشرطة ، والقضاة والحكام والمدعين العامين ، والمدراء العامين ، والمدرسين والمعلمين والموظفين } ، وإتخذت حكومة 14 تموز العظيمة سلسلة من الإجراءات التنفيذية والإدارية التي سهلت وسرعت منح الجنسية العراقية للفيليين لكونهم مواطنين أصلاء على قدم المساواة مثل باقي أبناء الشعب ... فعاد إليهم حق المواطنة وشعروا بإنتماء حقيقي للمجتمع العراقي ، إضافةً إلى المبادرة بإصدار القانون رقم (67) لسنة 1959 الخاص بإلغاء التشريعات الجائرة التي تتعارض مع أحكام الدستور المؤقت ، وأهداف الثورة ، ومنها [ مرسوم إسقاط الجنسية العراقية ، ومرسوم ذيل الجنسية العراقية آنفاً ] ، وإنعكس ذلك بتشكيل وفد فيلي من الوجهاء والأعيان لمقابلة الزعيم وتهنئته بالثورة في أواسط شهر تشرين الأول من عام / 1958 ، حيث كان على إطلاع بقضيتهم نتيجةً لإختلاطه معهم في مناطق سكناهم في بغداد وواسط ، وبالتالي بقى الفيليون على يمين الولاء المُطلق والإخلاص التام للثورة المُظفرة وقائدها ومنجزاتها وتشريعاتها المُنصبة في مصلحة الوطن والمواطن من خلال وقوفهم إلى جانبها في مجابهة وصد المؤامرات المحبوكة ضدها داخلياً وخارجياً مثل حركة العصيان المسلح في الموصل عام / 1959 ، ومخططات حزب البعث الفاشي واللاقوميين النازيين ، والمتُضررين من قيام الثورة ، وتدخلات القوى الإقليمية والدولية ، علاوة على تأييدهم للإصلاح الزراعي ، والقانون رقم (80) لسنة 1961 بشأن تحديد مناطق الإستثمار لشركات النفط الإحتكارية ، وبالتالي سطروا أروع الملاحم في الدفاع عن هذه الثورة الوطنية وحمايتها حتى الرمق الأخير من بيت إلى آخر ، ومن شارع إلى زقاق في تصديهم البطولي للمؤامرة الدنيئة التي وقعت في يوم رمضاني من شهر حرام ... وسبقت إجوائها المشحونة إضرابي ( البنزين ، والطلبة ) المفُتعلين بتواطؤ من الإنقلابيين والخونة المُندسين والمُتغلغلين في أجهزة الدولة ، حيث مكنتهم السلطة التي كانوا يتمتعون بها من سرعة الإجهاز على الثورة وزعيمها ، فسقطت غنيمة سهلة بأيديهم المُلوثة بدماء الشعب العراقي والوطنيين الغيارى ، ومنهم الفيليين من خلال إرتكابهم إبادة جماعية شاملة وحملات تصفية جسدية واسعة النطاق لم يشهد لها تأريخ العراق مثيلاً ، منذ غزو هولاكو التتري كنصب المشانق ، وإقامة ساحات الإعدامات الفورية ، وقتل الأبرياء دون محاكمات كمجازر النادي الأولمبي السيئة الصيت ، ورغم عدم تكافوء القوى من ناحية العدة والعدد ... إستبلست مقاومة شعبية لأكثر من أسبوع كامل بلياليه في مناطق الفيليين مثل ( عكد الأكراد ، وساحة النهضة ، وباب الشيخ ، والكاظمية ) ، وزج بالآلاف منهم في السجون والمُعتقلات الرهيبة ، وتم تعذيبهم على أيدي البعثيين النازيين ورجال الحرس اللاقومي ، وإستشهد عدد كبير منهم جراء الإختفاء القسري والمعاملة المهينة ، مما أضطر عدد كبير منهم إلى مغادرة البلاد منذ ذلك الوقت ، وقد إنتقمت السلطة القمعية بعد تثبيت أقدامها على الجماجم والدم من الشريحة الفيلية بتشريع قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963 ، وخلال ثلاثة أشهر فقط من إستلامها مقاليد الحكم ، فقد شدد التشريع المذكور آنفاً من شروط منح الجنسية ، وأعطى لوزير الداخلية صلاحيات واسعة ، ومنها إسقاط الجنسية ولأسباب أمنية ودون الرجوع للقضاء ، وبالتالي أزدادت أوضاع الكرد الفيليين سوءً شيئاً فشيئاً ، وإنتكس ما تحقق لهم من مُنجزات ، بغياب شمس 14 تموز ورحيل قائدها غيلة وغدراً .
واليوم في ظل العراق الجديد لا بد من إنصاف زعماء الثورة الخالدة في قلوب العراقيين جميعاً ، وإعادة الإعتبار إليهم بما يليق بمكانتهم ومنزلتهم الرفيعة ، ولكل من وقف معهم وقفة وطنية مُشرفة تستحق كل الثناء والتقدير ، وتعويضهم مادياً ومعنوياً ، وتخصيص رواتب تقاعدية مُجزية لرجال 14 تموز الأبطال وضباطها المُخلصين وذوي الشهداء والضحايا المنكوبين جراء وقوع إنقلاب 8 شباط الأسود .. بضمنهم الكرد الفيليين الذين دفعوا ثمناً غالياً للإنتقام الفاشي الدفين منذ تلك الفترة ولحد الآن وفق سياسة عفلقية بعثية للتطهير العرقي المنُظم ( كعمليات إخلاء القرى الفيلية الحدودية ، والقتل اللاقانوني ، والتعذيب الوحشي ، والتمييز العنصري ، والحرمان من الحقوق والحريات كتسقيط الجنسية والطرد التعسفي من الوظيفة العامة ومنع توليها ، ومصادرة الأموال المُنقولة وغير المُنقولة بغير وجه حق ، وتشريع القوانين والقرارات الظالمة ، وإصدار الأوامر والتوجيهات المُجحفة ، والشروع بحملات التهجير القسري للأعوام [ 1969 - 1970 - 1971 - 1980 ] ، والتي ذهب ضحيتها أكثر من نصف مليون فيلي مُهجر ، مع تغييب أكثر من خمسة عشر ألف شاب فيلي مع جثامينهم الطاهرة لمدة تزيد عن ربع قرن ، وغيرها - - - إلخ ) ... فنالوا حصة الأسد من الهقر والقمع والإستبداد الممتدة لعقود طويلة من الزمن ، وبكل آثارها الرجعية وأضرارها المُتراكمة ، والمستمرة دون حلول جذرية إلى هذه اللحظة رغم سقوط الصنم في 09-04-2003 ... وبسبب تخندقهم في الصف الوطني خلف ثورة 14 تموز المجيدة ... فمتى يصبح ميزان العدل والحق والحرية والمساواة والدستور والقانون والقضاء ... ناجز بكفتيه ... !!! ... ؟؟؟
• ملاحظة : - ( حدثت الثورة المجيدة في يوم الأثنين الموافق 14 تموز عام / 1958 ، وتحل ذكرها الخمسين في ذات اليوم ) .
* باحث متخصص بشؤون الكرد الفيليين.[1]