#رياض جاسم محمد فيلي#
كثر الحديث في هذه الأيام عن قضية تخفيف الأحكام الصادرة بحق المدانين بجرائم الآنفال من الإعدام إلى عقوبة السجن المؤبد أو ما شابه ، وهذه الدعوة بحد ذاتها تفتقر إلى أي سند قانوني أو أساس موضوعي والتي فندها بشدة ورفضها جملةً وتفصيلاً قاضي التمييز في المحكمة الجنائية العراقية العليا والمتحدث بأسمها السيد منير حداد عبر وسائل الإعلام وتصريحاته الصحفية المنشورة في معظم الجرائد العراقية ليضع النقاط على الحروف من وجه نظر قانونية ودستورية بحتة بعيداً عن التأثيرات السياسية والحزبية وبمهنية عالية وشفافية متناهية تعكس تأكيداً جازماً على ترسيخ مبدأ سلطة القانون ولابد أن يسود فوق الجميع كائن من كان في ظل العراق الجديد ووجوب أن تخضع له مؤسسات الدولة الدستورية على الوجه الأكمل ، وبالتالي ما كان يوجه من إنتقادات وإتهامات إلى هذه المحكمة بصدد تشكيلها بموجب القانون رقم (1) لسنة 2003 إستناداً إلى التفويض الصادر بأمر سلطة الإئتلاف المنُحلة رقم (48) لسنة 2003 وحسب قرارات مجلس الأمن الدولي رقم (1483) و (1500) و (1511) لسنة 2003 على التوالي ، فقد تم إلغاء هذا التشريع المذكور من قبل الجمعية الوطنية المنتخبة وحل محله القانون رقم (10) لسنة 2005 ، إضافةً إلى أدراج المحكمة المذكورة ضمن المادة (48) من قانون إدارة الدولة الإنتقالي ، وإذا ما حاول البعض التشكيك بعدم شرعية القانون الإنتقالي .. ولكن لا أحد يستطيع تجاهل إرادة الشعب العراقي الحرة وتغييب أصوات أثني عشر مليون ناخب صَاَدقَ بكلمة { نعم } على الدستور الدائم لعام / 2005 والذي بمقتضاه إكسب المحكمة الجنائية العليا وتشريعها النافذ وأحكامها طابعاً شرعياً ودستورياً أصيلاً لا يمكن التغاضي عنه بأي حال من الأحوال نظراً لتثبيت المادة (134) في الدستور والتي تنص ما يلي : - ( تستمر المحكمة الجنائية العراقية العليا بأعمالها بوصفها هيئة قضائية مستقلة ، بالنظر في جرائم النظام الدكتاتوري البائد ورموزه ، ولمجلس النواب إلغاؤها بقانون ، بعد إكماها أعمالها ) وعليه أصبحت جزءً لا يتجزأ من القانون الأسمى والأعلى والمُلزم في كافة أنحاء العراق بدون إستثناء بموجب المادة (13) من الدستور وهذا ما أكدته المادة (1) من قانون المحكمة إضافةً إلى تمتعها بالإستقلالية التامة عن مجلس القضاء الأعلى ، والتي لا يمكن للسلطة التشريعية حلها إلا بعد إنجازها لمهامها ، كما لا يجوز للسلطة التنفيذية التدخل في شؤونها بمقتضى المادتين (87) و (88) من الدستور ، ولهذا السبب الموضوعي من غير الوارد مطلقاً تخفيف العقوبات والأحكام والعفو عنها كلياً أو جزئياً ، وإذا تحجج البعض بصلاحية رئيس الجمهورية أو مجلس الرئاسة كمنفذ عبر المادة (73/الفقرة أولاً) من الدستور والتي تضمنت قيام رئيس الجمهورية بإصدار العفو الخاص بتوصيةٍ من رئيس مجلس الوزراء بإستثناء ما يتعلق بالحق الخاص والمحكومين بإرتكاب الجرائم الدولية والإرهاب والفساد المالي والإداري، فتفسير ذلك واضح وهو العفو عن جرائم خاصة وعلى نطاق محدود جداً ووفقاً لضوابط قانونية دقيقة يحدده نوع وطبيعة وظرف الجرم المرتكب حسب أحكام قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 المعدل وقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل وغيرهما من التشريعات العقابية وعلى مستوى دعاوى وقضايا الجنايات العامة ، وهذا بالتأكيد لا يمكن مقارنته بجرائم الأبادة الجماعية التي لا تسقط بالتقادم وطبقاً الإتفاقية الدولية الخاصة بها والصادرة في09-12- -1948 والمصادق عليها من قبل الحكومة العراقية في20-01 -1959 ، وبالرجوع إلى المادة (73/الفقرة ثامناً) من صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية هي : - ( المصادقة على أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المختصة ) فهذا النص جاء كمبدأ دستوري مُطبق في معظم دول العالم ويتمثل في قيام رئيس الدولة بالتوقيع على أحكام الإعدام بمرسوم جمهوري وفقاً الفقرة ( سابعاً ) من نفس المادة دون أن تكون له صلاحية نقضه أو تعطيله أو وقفه ، وبالتالي فحكم إصدار العفو الخاص وتخفيف العقوبات الجزائية تخضع لمحددات مشدّدة أوضحتها الفقرة ( أولاً ) من المادة المذكورة ، علاوةً على أن الأمر يتطلب رفع توصية من رئيس مجلس الوزراء لكونه يتحمل مع الحكومة أعباء السلطة التنفيذية ومسؤوليتها والمحاسبة عنها أمام مجلس النواب أما منصب رئاسة الجمهورية فهو للتعبير عن رمز الوحدة الوطنية وسيادة البلاد وإستقلالها وضمان تطبيق الدستور نتيجةً لإقرار النظام البرلماني في العراق الجديد ، وبواقع هذا النظام القائم على أساس الفصل بين السلطات ، لا يمكن عرقلة تنفيذ قرارات القضاء والتي إكتسبت الدرجة القطعية بعد سير المحاكمة والتحقيق وإجراءات الإستئناف والتمييز والطعن بشكل أصولي وفي ظل توفر الضمانات الأساسية لدفاع عن المتهم ، وإلا يعد ذلك تجاوزاً على حقوق السلطة القضائية المستقلة وتدخلاً سافراً في شؤون العدالة الناجزة والإلتفاف عليهاخلال نصوص دستورية وجدت أصلاً من أجل تحقيق الإنسجام والترابط بين سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وهنا لا بد من الأشارة إلى أن المادة (27/الفقرة ثانياً) من قانون المحكمة التي نصت ما يلي : - ( لا يجوز لأي جهة كنت بما في ذلك رئيس الجمهورية إعفاء أو تخفيف العقوبات الصادرة من هذه المحكمة وتكون واجبة التنفيذ بمرور 30 ثلاثين يوماً من تأريخ إكتساب الحكم أو القرار درجة البتات ) كما أن المادة (15) القانون ذاته قد حددت المسؤولية الجنائية الشخصية ومنعت من شمول المتهمين بجرائم النظام البائد بأي عفو ومهما كانت صفتهم الوظيفية أو الرسمية ، وسواء صدر المرسوم الجمهوري بالمصادقة أو لم يصدر فلا بد من تنفيذ الحكم بعكس المحاكم الأخرى التي ينطبق عليها نصوص المواد من (285 ولغاية 293) المتعلقة بتنفيذ عقوبة الإعدام من قانون أصول المحاكمات الجزائية ، كما أن المحكمة الجنائية مسؤولة عن إنزال القصاص العادل بشأن جرائم لم يتناولها التشريع الجزائي العراقي سابقاً وعلى مدى تأريخه وهي جرائم الأبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وإنتهاكات القوانين العراقية ومن هنا جاءت خصوصية هذه المحكمة إذ تتولى محاكمة نظامٍ بائدٍ بإكماله عن فظائع خطيرة وإنتهاكات جسيمة والتي أختص بإرتكابها دون غيره عبر أدواته من أزلامه ومرتزقته المتورطين والملطخة أياديهم بدماء الشعب العراقي ، ونتيجةً لذلك تعد المحكمة هيئة قضائية مستقلة وليست محكمة خاصة أو إستثنائية التي حظر الدستور تشكيلها بموجب المادة (95) ، حيث وفرت العدالة للجلادين وهم لم يمنحوها لضحاياهم وتشهد عليهم محاكمهم الصورية الكارتونية كمحكمة الثورة والهيئة الخاصة وحاكمية المخابرات والجهاز الخاص وأمن الدولة السيئة الصيت والتي زجت بالأف المواطنين الأبرياء دون توجيه تهمة قانونية أو إجراء تحقيق أصولي أو محاكمة عادلة أو حضور محامي ، وهذا من المعلوم أن رئيس النظام البائد قد تم إعدامه دون الحاجة إلى مصادقته بمرسوم جمهوري ، والمفروض أنه قد أحدث سبقاً وعرفاً قانونياً ولم تبدي المحكمة الإتحادية العليا في حينها أي إعتراض بصدد ذلك مع أنها المسؤولة عن الرقابة الدستورية على التشريعات والإجراءات وفق أحكام المواد (92) و (93) و (94) من الدستور وعلى الوجه المبين في أمر تشكيل المحكمة المذكورة رقم (30) لسنة 2005 ونظامها الداخلي رقم (1) لسنة 2005 ، كما أن الجدير بالملاحظة أن قانون المحكمة الجنائية العراقية العراقية قد صدر عن مجلس الرئاسة بالإجماع بمقتضى القرار الجمهوري المرقم (10) والمؤرخ في 9/10/2005 ، ولم يعترض عليه أي عضو في مجلس الرئاسة خلال المدة المقررة دستورياً لنقض التشريعات بما فيهم فخامة رئيس الجمهورية وأحدالسادة نوابه الحاليين وحسب ما هو منشور في جريدة الوقائع العراقية الرسمية ذي العدد (4006) والمؤرخ في18-10- /2005 .
هذا مع العلم أن المحاكمة قد راعت المعايير والأعراف والمبادئ الواردة في في المواثيق والإتفاقيات الدولية وخاصةً ما يتعلق بإقامة العدل وحماية الإشخاص الخاضعين للإحتجاز أو السجن وضمان عدم تعرضهم للتعذيب أو للمعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية وهي كما يلي : -
• أولاً : - إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ، إعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3452 (د-30) المؤرخ في 9 كانون الأول / 1975 .
• ثانياً : - القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء ، أوصي بإعتمادها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنُعقد في جنيف عام 1955 وأقرها المجلس الإقتصادي والإجتماعي بقراريه 663 جيم (د-24) المؤرخ في 31 تموز / 1957 و 2076 (د-62) المؤرخ في 13 أيار / 1977.
• ثالثاً : - مدونة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين ، إعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 34/169 المؤرخ في 17 كانون الأول / 1979 .
• رابعاً : - مبادئ آداب مهنة الطب المتصلة بدور الموظفين الصحيين ، ولا سيما الأطباء ، في حماية المسجونين والمحتجزين من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية ، إعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 37/194 المؤرخ في 18 كانون الأول / 1982.
• خامساً : - ضمانات تكفل حماية حقوق الذين يواجهون عقوبة الإعدام ، إعتمدها المجلس الإقتصادي والإجتماعي بقراره 1984/50 المؤرخ في 25 أيار / 1984 .
• سادساً : - إعلان بشأن المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استعمال السلطة ، إعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/34 المؤرخ في 29 تشرين الثاني / 1985.
• سابعاً : - مبادئ أساسية بشأن إستقلال السلطة القضائية ، إعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنُعقد في ميلانو من 26 آب إلى 6 أيلول / 1985 ، كما إعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/32 المؤرخ في 29 تشرين الثاني / 1985 و 40/146 المؤرخ في 13 كانون الأول / 1985 .
• ثامناً : - إتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ، إعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والإنضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 39/46 المؤرخ في 10 كانون الأول / 1984 ، تاريخ بدء النفاذ : 26 حزيران / 1987 ، وفقا لأحكام المادة 27 (1) .
• تاسعاً : - مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن ، إعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 43/173 المؤرخ في 9 كانون الأول / 1988 .
• عاشراً : - مبادئ أساسية بشأن دور المحامين ، إعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنُعقد في هافانا من 27 آب إلى 7 أيلول / 1990 .
• حادي عشر : - مبادئ توجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة ، إعتمدها مؤتمر الأمم لمتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنُعقد في هافانا من 27 آب إلى 7 أيلول / 1990.
• ثاني عشر : - المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء ، إعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 45/111 المؤرخ في 14 كانون الأول / 1990 .
• ثالث عشر : - معاهدة نموذجية بشأن نقل الإجراءات في المسائل الجنائية ، إعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 45/118 المؤرخ في 14 كانون الأول / 1990 .
• رابع عشر : - إعلان فيينا بشأن الجريمة والعدالة مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين ، صدر عن مؤتمر الأم المتحدة العاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنُعقد في فينا من 10 إلى 17 نيسان / 2000 .
* باحث قانوني متخصص.[1]