#رياض جاسم محمد فيلي#
مثلما نستذكر بكل غبطة عميقة وفرحة غامرة ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 المجيدة ومنجزاتها الخالدة ، تذرف العيون أنهاراً من الدموع وبحوراً من الدماء بكاءً ونحيباً وحسرة لوأد هذه الثورة العظيمة على يد أنقلاب البعث القومجي الفاشي في الثامن من شباط الأسود عام 1963 والذي جاء بقطار أمريكي حسب أعترافات قادته المؤجورين في ظل صفقة مقايضة مريبة مشبوهة تفوح منها رائحة مؤامرة دولية محبوكة ومتعددة الأطراف بالرغم من تضارب مصالحها وأختلاف أتجاهاتها وأيديوجياتها ولكن جميعها كانت متفقة على هدف واحد هو إسقاط الحكومة الوطنية وضرب الإرادة الحرة للشعب العراقي الناهض في الصميم ، لتنقل البلاد بعدها إلى حقبة سوداوية مظلمة بكوارثها ومحنها وفتنها من تاريخ العراق المعاصر ... من حكم الحضارة المدنية المتفتحة إلى تسلط البداوة القبلية المغلقة بأبشع صورها المقيتة ... مرسخةً لثقافة العنف والتعصب والإقصاء والتهميش ... داعمةً لمفاهيم الإرهاب والإضطهاد والتعذيب والإنتهاك وتطبيقها على أرض الواقع في مشانق النادي الإولمبي وفرق الإعدامات الفورية الإرتجالية دون محاكمة أو إجراء تحقيق عادل في ظل تغييب سلطة القضاء وسيادة القانون وضد إشخاص أبرياء ليست لهم أية صلة بحاكم أو حتى بمحكوم ، وجريمة الشرفاء المعدومين فقط لكونهم مواطنين عراقيين فهو بحق قتل جماعي على أساس الهوية مفتتحاً لبداية العصر الدموي بأزلام الحرس اللاقومي ، حيث جرت عمليات تصفية جسدية سريعة وإرتكبت جرائم إبادة جماعية منظمة عن سبق أصرار وترصد في ذلك اليوم الشباطي المشؤوم الذي لم يراعي حتى حرمة رمضان كشهر حرام ... فأين هو من الدين حتى يتلبس برداءته ؟؟ فلقد ملئت الشوارع والأزقة بإلآف الجثث والضحايا وحشرت السجون الرهيبة حشراً بخيرة أبناء الوطن ، وبقيت مقاومة بطولية بشجاعتها النادرة وبأسها الجريء وإيمانها القوي صامدة بوجه الأنقلابيين والمتأمرين وتصارع عصاباتهم الغاشمة وتحرق دباباتها بزجاجيات البنزين وأسلحة بسيطة متواضعة في منطقة (( عكد الأكراد )) التي صمدت لمدة أسبوع كامل بلياليه ضد الظلام والظلاميين ولتدفع ثمنها الباهض أكثر من خمسمائة شهيد من أبناء المنطقة ومعظمهم من الكرد الفيلية وبفضل تصديهم البطولي الذي أذهل البعثيين وأذناب عفلق ، ليساق بعدها من بقى على قيد الحياة إلى غياهب المعتقلات ودهاليزها وعلى رأسها قصر النهاية بأقبيته وسراديبه إيذاناً ببدء عصر الأنفالات السيئة الصيت ، وظلت مقاومة الكرد الفيلية راسخة في أذهنة البعثيين وقلوبهم المريضة ، ولتصبح إساساً معتمداً لإضطهاد هذه الشريحة المظلومة في فترات لاحقة كتسفيرات عام 1970 والتهجير الداخلي في عام 1975 وأخيراً التسفيرات العظمى في عام 1980 وما صاحبته من مصادرة عامة لأموال المهجرين وممتلكاتهم وتغييب أبنائهم وإسقاط الحنسية العراقية عنهم علاوة على الكثير من المآسي والمحن ، ولكن قصر مدة حكم البعثيين في عصرهم الأول لم يمهلهم طويلاً ، أذ لم يستمر لأكثر من تسعة شهور وبالتالي لم يكتب لهم القيام بالكثير من الجرائم سوى مجازر كردستان أثناء تولي الزعيم المقبور صديق مصطفى قيادة العمليات العسكرية للمنطقة آنذاك ، إضافة إلى قمع حركة حسن سريع بكل قسوة وبطش وفي محاكمات صورية فورية وعاجلة ورافقتها محاولة شرسة لتصفية الآف من الضباط الوطنيين المعتقلين منذ أنقلاب شباط في سجن رقم (1) ونقلهم من معسكر الرشيد إلى منفى نقرة السلمان بواسطة قطار الموت عبر حشرهم في عربات ( فاركون ) مغلقة وفي يوم تموزي لاهث الحرارة لقتلهم عطشاً ولولا تدخل الإرادة الآلية لهلك الجميع ويرجع الفضل إلى سائق القطار عباس المفرجي ووجود عدد من الأطباء بين المعتقلين أمثال الدكتور رافد أديب وآخرين لا نذكر أسمائهم عذراً لتكون بحق إنتفاضة السماوة الصامتة كما ورد في كتاب البيرية المسلحة وحركة حسن سريع لمؤلفه المرحوم الدكتور علي كريم سعيد ، ومن المفارقات قيام حركة القوميين العرب بمحاولة أنقلابية واسعة النطاق أفتضح أمرها قبل ساعات قلائل من تنفيذها في أواخر شهر آيار / عام 1963 وتم أطلاق سراح كافة أركان المحاولة المذكورة دون أن يلحق بهم أي أذى أو تطالهم محاكمة !! المهم وبعد كل الأحداث الدامية بفواجعها ونكباتها المريعة بدءت أجنحة الحزب الفاشي المتنافسة تتصارع فيما بينها على سدة الحكم والأنفراد به لتكون نهاية المطاف في أنقلاب داخلي في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني عام 1963 حيث قام عبد السلام عارف بعد أنفراده بمقاليد الأمور بإصدار الكتاب الأسود عن الجرائم البعثية النازية ، فهذه هي بداية تسلط البعث بإرتكاب أنتهاكات صارخة وفضيعة ضد حقوق الإنسان لم يشهدها العراق سابقاً على مدى تاريخه الحديث وفي ظل الحكومات المتعاقبة ليصبح بجدارة متناهية هولاكو العصر بغزوه المغولي التتري الأهوج ، فهي جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية لا يمكن أن تسقط بالتقادم مهما طال الزمن أم قصر وفقاً لأحكام الإتفاقيات والإعراف الدولية ولكن مع الآسف الشديد تم إصدار العفو العام والشامل عن تلك الجرائم بموجب قانون المحكمة الجنائية العراقية رقم (1) لسنة 2003 الملغى وقانونها الحالي رقم (10) لسنة 2005 أذ نصت المادة ( أولاً / الفقرة ثانياً ) في كلا التشريعين المذكورين على سريان أحكام القانون على الجرائم المرتكبة للفترة الممتدة من تاريخ 17/7/1968 ولغاية تاريخ 01-05 -2003 وحصرها بهذه المدة فقط ولا يشمل ما قبلها ، ورغم ما نصت عليه أحكام المواد (11 و 12 و 14) من القانونين أعلاه بشأن ما يتعلق بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وإنتهاكات القوانين العراقية على التوالي وتوفر أدلة وأثباتات وأعترافات موثقة ومدونة من قبل مرتكبيها أنفسهم حول كيفية أقترافهم لتلك المجازر والمذابح الشنعاء وعلى رأسها البيان رقم (13) سيء الصيت ، وفوق كل ذلك يجري الحديث في الشارع اليوم عن مصالحة وطنية !! فكيف تكون هناك مصالحة وطنية مجدية ومستوفية لكل الحلول ما لم يتم فتح جميع الملفات حتى نسطيع بدء صفحة جديدة أساسها الثقة والأحترام المتبادل بين مكونات الشعب العراقي ، ويتطلب ذلك الأعتراف أو الأقرار بمسؤولية الذنب وطلب العفو والمغفرة والسماح أمام الملاء وتقديم الأعتذار إلى العراقيين كافة ومواجهة الأمر بشجاعة وضمير وجداني فائق من سبات عميق ونائم منذ ربع قرن على أقل تقدير كما فعل ذلك العديد من قادة جنوب أفريقيا بعد أنتهاء نظام الفصل العنصري أو زعماء وجنرالات الأنظمة العسكرية والتسلطية في تشيلي والأرجنتين وغيرها في العديد من دول العالم على سبيل المثال ، وخاصة أن البعض ممن أشتركوا في مؤامرة شباط الأسود رغم كبر سنهم وعلى أعتاب الموت ودار الآخرة لازال يتفاخر بيده الملطخة بدماء الأبرياء ويظهر على شاشات التلفزة والفضائيات يمجد العفلقية الفاشستية النازية ، والأدهى من ذلك كله ما نص عيه الدستور العراقي لعام 2005 وتحديداً المادة (7) عندما حظرت نشاط البعث الصدامي وبالتالي فعبارة صدامي جعلت من بعث ما قبل صدام ليس سفاحاً دموياً وهذا مغاير تماماً للحقيقة والواقع بالمرة ، فبعث شباط الأسود عام 1963 أرتكب كل الجرائم السالفة الذكر ولم يكن صدام موجوداً فيه أصلاً ، فهذه العقيدة الإجرامية مترسخة في فكر البعث بوجود صدام من عدمه ، ولايزال الكرد الفيليين يدفعون الثمن لحد الآن ، كأنفجار الصدرية المآساوي في 03-02-2007 مخلفاً مئات الشهداء والجرحى والأضرار المادية علاوة على تفجير سبقه بأشهر وبثلاث سيارات مفخخة ... فإلى متى تدفع هذه الشريحة المنكوبة في كل العهود والأنظمة ضريبة الدم ويبقوا أول المتضررين والمضحين وأخر المستفيدين والمنتفعين ؟؟
* كاتب مختص بحقوق الإنسان.[1]