#ياسر المندلاوي#
شهدت المناطق الكردية منذ القرن التاسع عشر، عدداً غير قليل من الحركات المناوئة للسيطرة الأجنبية، تحت تأثير الطموح الوطني ومن أجل التحرر والإنعتاق القومي. ولا شك إن مضمون وطبيعة حركات القرن التاسع عشر لا يتطابق كليا مع مثيلاتها التي قامت في نهاية ذلك القرن وبداية القرن العشرين وما تلاها من عقود. وهي الفترة التي شهدت تبلور الأهداف القومية إرتباطا بنشوء الطبقات الحديثة في المجتمع الكردي، وإغتناء الطابع القومي للحركات الكردية وتعمق محتواها الإجتماعي، على الرغم من الإستمرارية التي تمتعت بها القيادات التقليدية (عشائرية ودينية) في هيمنتها على مركز القرار لفترة طويلة بسبب ضعف البرجوازية وتخلف المجتمع الكردي شبه الإقطاعي.
إن هذا الإقرار المبكر بالطابع التحرري للحركات الكردية لا ينفي بطبيعة الحال، الإقرار بالحقيقة الأكثر نصوعا والمتجسدة في أن مشاركة بعض فئات وشرائح المجتمع الكردي (الإقطاعيون، كبار ملاك الأرض، الرؤساء العشائريون والدينيون) في هذه الحركات لم تكن دائما بدافع الطموح الوطني، أو بوحي من الفكرة القومية، وإنما لمزيج من الدوافع العشائرية والدينية والشخصية. الأمر الذي يضعنا وجها لوجه أمام مهمة إستقراء الوقائع للإستدلال على حجم فاعلية وتأثير مختلف الدوافع على المسيرة التحررية للشعب الكردي. وهذا ما نأمل أن نوفق إليه فيما يتعلق الأمر بموضوع على قدر كبير من الأهمية، نظرا لإرتباط أهم الحركات الكردية بإسم أولئك الرؤساء الذين يجمعون بين السلطتين العشائرية والدينية (حسبنا أن نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى حركة الشيخ عبيد الله الشمدينان 1880، وحركات الشيخ محمود البرزنجي، وإنتفاضة الشيخ سعيد عام 1925 وحركات البارزانيين) مما دفع عدداً غير قليل ممن كتبوا عن أحداث المنطقة الكردية، إلى حصر أسبابها بالعوامل الدينية والعشائرية، وفي أحسن الأحوال، منح هذه العوامل الدور الحاسم في إثارة تلك الأحداث.
من المعلوم تماما إن مساهمة رؤساء العشائر ورجال الدين في الحركة التحررية لم تك يوما خاصية مميزة تختص بها الحركات الكردية، ولاسيما في ظل غياب البرجوازية أو ضعفها كطبقة قائدة للحركات التحررية ذات المضامين والأهداف القومية. فالحركات التحررية في عموم المنطقة شهدت مشاركات مهمة وفاعلة لهؤلاء، أشار إليها الباحث (فالح عبد الجبار) في سياق دراسته للفكر الديني المعاصر: ((وبالطبع ينبغي ألا يغرب عن البال إن الثورات التحررية في منطقتنا لم تتحقق كلها بقيادة برجوازية صرفة، بل لعب شيوخ العشائر وكبار ملاك الأرض والأغوات الإقطاعيين، هنا وهناك، أدوارا كبيرة، متفاوتة في السعة بالطبع، مما أمعن في تشديد طابعها الديني من الوجهة الأيديولوجية))1. وليس خافيا على أحد إن العديد من الحركات التحررية في المنطقة واجهت السيطرة الأجنبية في البداية بشعارات إسلامية قبل أن تتبنى الشعارات القومية. وقد جاء في وثائق الكومنترن (المؤتمر الرابع - 25 كانون الثاني 1922) بهذا الخصوص: (إن الحركة القومية في البلدان الإسلامية تجد في البدء أيديولوجيتها في الشعارات السياسية الدينية لحركة الجامعة الإسلامية...ولكن مع إتساع نضال حركة التحرر الوطني تتراجع الشعارات السياسية الدينية..أمام المطالب السياسية الملموسة)2. ومن هنا فإن نفوذ رجال الدين والفكر الديني في هذه الحركات لا يعكس أي مظهر من مظاهر التعصب الديني أو المذهبي وإنما (يجد تفسيره في غياب أو ضعف تكوين البرجوازية الوطنية) 3.
إن تجليات هذه الظاهرة العامة نسبيا، كانت تتحدد دوما بخصائص الوضع الملموس، الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. ولهذا فهي لم تكن على درجة واحدة من العمق والشمول عند جميع الحركات التحررية الوطنية، إذ حملت كل منها خصائص مجتمعها في عكس هذه الظاهرة. وكانت الحركات الكردية في هذا المجال الأكثر تميزا عن سواها، إن على مستوى النفوذ الهائل والمباشر للشيوخ الدينيين، أو على مستوى تبني بعض الحركات الكردية للشعارات الإسلامية، ناهيك عن إستثمار هذه الشعارات- أحيانا كثيرة- من قبل القيادات العشائرية والدينية لتحقيق بعض المكاسب الخاصة على حساب الحركة التحررية. ولغرض الوقوف على أسباب ذلك، لابد من تشخيص علاقة الأكراد بالدين الإسلامي ومدى تشربهم بمبادئه. وكذلك النظر إلى العوامل التي ساهمت في بناء معتقداتهم الدينية بشكا عام....يتبع[1]