#ياسر المندلاوي#
إن الدين كمنظومة أفكار، مارس تأثيرا متباينا غلى جميع الظواهر الإجتماعية، بما في ذلك الحركات والإنتفاضات التحررية. ففي الوقت الذي كان فيه ممكنا توظيف الأفكار الدينية لتحشيد وتعبئة قوى جماهيرية واسعة من أجل التحرر الوطني، كان بالإمكان توظيف هذه الأفكار بإتجاهات معاكسة للعملية التحررية. وهذا ما كان يحصل دائما وسيظل كذلك ما بقيت هذه المنظومة من الأفكار ذات فاعلية في تأطير تصورات أقسام واسعة من السكان. وإزاء هذا التأثير المتباين تولدت نظرة ثنائية إلى دور رجال الدين والفكر الديني في الحركات التحررية، قوامها منح الدعم والتأييد لمشاركة الرموز والتيارات الدينية في النضال الوطني إلى جانب النضال وبضراوة ضد رجال الدين الرجعيين الذين يحاولون ربط الحركة التحررية بالأهداف الطبقية للقوى الرجعية والتخلف. وفي سبيل تأشير دور العامل الديني في الحركات الكردية، لابد من تبني نفس هذه النظرة الثنائية، وذلك إنسجاما مع واقع هذه الحركات التي غالبا ما تجاذبتها العوامل المتناقضة والمصالح الطبقية المتعارضة، التي إنعكست بهذا الشكل أو ذاك في تحديد دور مختلف العوامل الباعثة على التأثير في الحركات الكردية، ولاسيما العامل الديني. ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا ما ذكرنا بأن ظهور الطريقة الصوفية النقشبندية في السليمانية عام 1811 على يد مولانا خالد، كان في جوهره إنعكاسا ملائما وقتذاك عن هذه التعارضات الطبقية رغم محدوديتها. وهذا يفسر لنا مساندة الفئات الإجتماعية الناشئة لهذه الطريقة في صراعها مع السلطة السياسية والدينية في إمارة بابان، والتي كانت تمثل مصالح الأمراء الإقطاعيين وملاكي الأرض، الذين وجدوا في الطريقة الصوفية القادرية أداة ملائمة لضمان مصالحهم وإدامة سيطرتهم الطبقية. إن حرص أصحاب النقشبندية وشيوخها على عدم إظهار هذه الحقيقة لا يغير من الواقع الذي (كان ولايزال لسوء حظ هؤلاء يدل على وجود جوانب أخرى غير التوجه الروحي إلى الله في كل تجمع نقشبندي، شأنها شأن كل التجمعات الصوفية الأخرى)15. وأبلغ دليل على ما نذهب إليه هو إبتعاد (البازاريون) عن مولانا خالد حال إنكفائه في الإتجاه (الإصلاحي) وعدم تمكنه من إستثمار المبادئ التصوفية للطريقة النقشبندية بالشكل الذي يعكس وبملموسية واضحة مصالح الفئلت الجديدة، التي دخلت الطريقة بدوافع واقعية تتجاوز الأطر الدينية الصرفة. لقد وجدت هذه المصالح تعبيرها لاحقا في عدد كبير من الحركات والإنتفاضات الموجهة ضد السيطرة العثمانية المتنامية، وضد كل سيطرة أجنبية بشكل عام. وفي أسباب هذا التجاوز للأطر الدينية التصوفية هناك عدة عوامل ساهمت بدرجات متفاوتة في وأد أي إصطفاف تنظيمي أو حركي يرتدي الزي الديني المجرد. ومن هذه العوامل:
أولا: فشل الطرق التصوفية في إستيعاب الحركة البدائية المناهضة للإقطاع المحلي، بسبب إحتكار الإقطاعيين ورؤساء العشائر للرئاسة الدينية، وإستثمار الوجاهة الناتجة عنها لتعزيز سيطرتهم الأقطاعية والعشائرية.
ثانيا: تصدي القيادات الإقطاعية والعشائرية التي تهيمن على الرئاسة الدينية، لمهمة المواجهة المسلحة مع قوات السلطات العثمانية والقاجارية المسلمتين، وإعتماد الرابطة العشائرية القوية في جمع المسلحين والأعوان بدلا من إعتماد الرابطة الدينية، وذلك بسبب ميل الرئيس العشائري إلى فرض هيمنته المطلقة دون الإكتراث بأي قانون وإن كان ذا طبيعة دينية. إن الرئاسة الدينية في هذه الحالة لا تتعدى أهميتها كونها أداة لجعل مركزه أقوى وأرسخ.
ثالثا: ميل الأكراد إلى ترجمة الرموز الدينية المجردة إلى وقائع ملموسة والإبتعاد، نتيجة ذلك طبعا، عن الإيمان المجرد بالمفاهيم الإسلامية، والبحث عن تجسيد لها في شخص الرؤساء الدينيين الذين هم رؤساء عشائر.
إن قيادة الرؤساء الدينيين لأهم الحركات الكردية لم تكن بسبب المركز الديني، وإنما بسبب المكانة العشائرية، وقلما نجد في كردستان رئيسا دينيا قاد حركة مسلحة من دون أن يتمتع بنفوذ عشائري قوي، بينما بالإمكان ذكر العديد من الزعماء الأكراد الذين تزعموا الإنتفاضات المسلحة مع إنهم لا يشغلون أي مكانة دينية متميزة ومنهم: محمد باشا الملقب ب (ميري راوندوز) ومن بعده بدرخان باشا الذي إنتفض عام 1842 وأقام وحدة أقليمية تضم كل المنطقة الواقعة بين بحيرتي وان وأورميا شمالا، والموصل وراوندوز جنوبا. ونتيجة للحضور القوي للعلاقات العشائرية والقبلية، فإن حركات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلى حد ما بعض الحركات في بداية القرن العشرين، إصطبغت بصبغة عشائرية وليست دينية. وهنا لا نريد أن نلغي دور رجال الدين في هذه الحركات، إذ كان هذا الدور فاعلا وملموسا في بعضها، ولكنه، في الوقت نفسه، كان محكوما بالبنية العشائرية. فالشيخ الديني لا يتزعم الحركة بصفته الدينية، وإنما بصفته العشائرية، كونه رئيسا لعشيرة قوية. وكذلك الأمر بالنسبة للمؤيدين-المريدين والدراويش والصوفية، فهم يشاركون في هذه الحركات كونهم أفرادا في العشيرة، إذ أن سلطة العشيرة أقوى من أية سلطة أخرى، بما في ذلك السلطة الدينية. ويبقى أن نشير إلى مسألة أخرى تتعلق بشخصية العديد من الزعماء الأكراد الذين ينحدرون من أسر ذات مكانة دينية مرموقة، مثل محمود البرزنجي، والشيخ أحمد البارزاني وملا مصطفى البارزاني وآخرين غيرهم، وهذه المسألة تنحصر في توارث هؤلاء للمنزلة الدينية عن الآباء والأجداد. وهي منزلة ممنوحة وليست مكتسبة عن طريق التقوى والعبادة، وعليه إن المكانة الدينية التي يتمتعون بها لا تعكس بدرجة كافية مستوى تدينهم، ناهيك عن إفتقار البعض منهم إلى أدنى مستلزمات الرئاسة الدينية16. وهذا يدعونا إلى القول بأن تزعم الشيخ الديني، الذي هو رئيس عشائري ايضا، لأية حركة كردية، يجب أن لا يوقعنا في المبالغة وخلق تصورات غير واقعية عن الأسباب الحقيقية لإندفاع هؤلاء في التحركات الكردية، وإسنادها بغير وجه حق إلى الأسباب الدينية....يتبع[1]