#ياسر المندلاوي#
إن فشل القيادات العشائرية-الدينية، ورجال الدين الآخرين في منح الحركات الكردية صبغة دينية لا يعني غياب الآثار الناجمة عن مشاركة هؤلاء في هذه الحركة أو تلك، وإنما العكس تماما، إذ بالإمكان تتبع هذه الآثار في العديد من الحركات الكردية، فمثلا، كان من عوامل فشل حركة (محمد باشا الراوندزي) عام 1835م ، إلى جانب عوامل أخرى (التعصب الممقوت والإفراط في الإعتماد على علماء الدين الجاهلين بالشؤون والظروف السياسية). ويذهب (كندال) إلى أبعد من ذلك ويسند فشل حركة (محمد باشا) إلى نداء وجهه أحد رجال الدين ويدعى (ملا خاطي) إلى المنتفضين يدعوهم فيه إلى عدم محاربة جيوش الخليفة وتكفير من يقوم بذلك...مما أدى إلى تخلي المقاتلين عن زعيمهم وإضطر في النهاية إلى الإستسلام). وهذا الرأي لا يمكن قبوله بدون تحفظات جدية تستمد مشروعيتها من الأوضاع السائدة في المجتمع الكردي أنذاك، ومن السطوة الهائلة التي يتمتع بها الزعيم الكردي الذي يتربع على عرش الزعامة، ناهيك عن إندماج السلطة السياسية والدينية وتكريس هذه السلطة لخدمة الإقطاعيين وكبار ملاكي الأرض. إن هذا الإندماج يجد تفسيره في أن رجل الدين لا يصل إلى مركز الزعامة الدينية ما لم يحتل مركزا مرموقا في العشيرة. ولهذا فإن (الملا لا يصل إلى مركز الزعامة لأنه في الواقع ليس جزءاً أصيلا من مجتمع القرية). وكذا الحال بالنسبة للدراويش (الذين يمارسون حياة بسيطة للغاية ويحاولون تطبيق التعاليم الدينية تطبيقا صارما، لا يحتلون مراكز مرموقة في مجتمع القرية. ولعل ذلك يعود إلى تأثير العامل الجغرافي في تشكيل النزعة الدينية في المجتمعات الفقيرة المعزولة) وعليه لا يمكن القبول بسهولة بمبدأ أولوية السلطة الدينية على سلطة العشيرة بالنسبة للكردي، وإنما العكس تماما.
ومن الحركات الكردية التي شهدت مشاركة واسعة لرجال الدين، يمكن ذكر حركة الشيخ (عبيد الله الشمديناني) عام 1880م. وهذه المشاركة الواسعة من قبل هؤلاء دفعت (محمد أمين زكي) إلى تشبيه هذه الحركة بحركة الشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الأسرة الصفوية في إيران، معتمدا البيان التالي: أ- كانت هذه الحركة مثل حركة الشاه إسماعيل تستمد نفوذها وقوتها من الخلاف المذهبي والنزعة الدينية. ب- الدعاة والقائمون بالأمر في كلا الحركتين كانوا من الأتباع والمريدين من الدراويش والفقهاء. ج- غاية كل من الدعوتين ترمي إلى تأسيس حكومة مستقلة. د- العامل الأكبر في الحركة الأولى كان دهاء الشاه وجرأته النادرة، وفي الحركة الثانية كان مزايا الشيخ (عبيد الله) الفائقة. إن الذي يهمنا في بيان (محمد أمين زكي) هو تشديده على دور الخلاف المذهبي والنزعة الدينية في حركة الشيخ عبيد الله، وهو قول لا تسنده الوقائع بشكل كاف، لأنه لو صح وجود مثل هذا الخلاف بين المنتفضين الأكراد وهم من المذهب السني والدولة الإيرانية وهي على المذهب الشيعي، فإن لا خلاف مذهبي بين الأكراد والدولة العثمانية، حيث وجه الزعيم الكردي كل جهوده بعد فشل حركته في إيران، إلى تحرير شعبه من النير العثماني المسلم، بالإعتماد على مساعدة روسيا غير المسلمة أو حيادها . ولا يهمنا هنا عدم إستجابة روسيا لجهود الشيخ عبيد الله بقدر ما يهمنا توجهات الشيخ لتحرير شعبه إنطلاقا من فكرة تحرير كردستان من النير الأجنبي وإقامة دولة كردية مستقلة من دون الإكتراث إلى توافق أو عدم توافق مذهب وديانة المحتل مع مذهب الشيخ وديانته... ينبغي أن نشير إلى إنتهاء حركة الشيخ عبيد الله في تشرين أول عام 1882م عندما أرسل الباب العالي وحدات عسكرية كي تعتقل الشيخ، وتم نفيه إلى مكة إثر ذلك، حيث مات في منفاه مسدلا الستار على عصر الحركات العشائرية في القرن التاسع عشر، وإبتدأت مرحلة أخرى شهدت جملة من الحركات والإنتفاضات في ظل ظروف تبلور الحركة الكردية التحررية كحركة قومية، وإتضاح ملامحها في بداية القرن العشرين. وهذه الحركات لم تكن هي الأخرى بعيدة عن تأثيرات رجال الدين، سواء في قيادتها أو في المشاركة الواسعة في خوض غمارها. غير أن سعة إنتشار الفكرة القومية بين السكان وغلبة الطموح الوطني التحرري ووسمها للحركة الكردية بشكا عام بطابعها القومي التحرري، فوتت الفرصة على الآراء التي تريد حصر عوامل النهوض التحرري الكردي بالعوامل العشائرية والدينية، بالإستناد إلى ظاهرة إستمرار القيادات العشائرية-الدينية في هيمنتها على الحركة الكردية، خاصة حركات الشيخ محمود البرزنجي وحركة الشيخ سعيد وحركات البارزانيين وأخيرا حركة أيلول 1961. ونحن لا نريد أن نتناول الأسباب التفصيلية لقيام هذه الحركات، ونكتفي بالإشارة فقط إلى الجوانب التي تكشف زيف الإدعاء عن الدور الأساسي والهام للعامل الديني في هذه الحركات. وبقدر تعلق الأمر بحركات الشيخ محمود البرزنجي، نرى الجاسوسة البريطانية (المس بيل)، وهي التي بذلت قصارى جهدها لتثبيت هذا الإدعاء في كتابها المعنون ب(فصول من تأريخ العراق القريب)، نراها تضطر إلى الإعتراف ببعض الحقائق التي تدحض وجهة النظر القائلة بأن إشتداد الشعور القومي كان نتيجة لخوف الأكراد- ولأسباب دينية طبعا- من (أن تعمد الدول الغربية إلى إخضاعها لنير الأرمن الممقوتين) أو (وجود شعور عدائي قوي تجاه عودة الآشوريين والأرمن يغذيه نوع من الدعاية إلى الوحدة الإسلامية المبثوثة في تبريز)... و (الخوف من عودة المسيحيين الذي كانت تغذيه الدعاية التركية الجانحة إلى صبغه بصبغة الوحدة الإسلامية)...الخ. إذ أن (بيل) نفسها وفي معرض حديثها عن الشيخ محمود تشير إلى أن (الشيخ محمود لم يكن مستعدا أن يتقبل منا قيامنا بتحديد سلطته كما كان شأنه مع الأتراك من قبل...وأي عمل يستهدف الصالح العام لا يمكن أن يتم ما لم يمكن إرجاع الجني الذي أطلق سراحه في السليمانية إلى القارورة من جديد). واضح ما تقصده بالصالح العام، المصالح البريطانية التي لا يمكن تحقيقها من دون القضاء على الشيخ وحركته من أجل إستقلال كردستان، ومن الواضح أيضا إن موقف الشيخ محمود المعادي للإنكليز لم يكن يوما لإختلاف الدين، فهو كان في موقفه منهم (كما شأنه من الأتراك من قبل) حسب تعبير (بيل)، ولا أظن إن هناك من يدعي وجود إختلاف ديني بين الأتراك والأكراد. وفي مكان آخر تقول ما يلي: (ففي كردستان الشمالية كان كل من سيمكو الشكاكي والسيد طه الشمديناني، إبن أخت عبد القادر، وخصمه الألد يحسد الشيخ محمود على نفوذه، وقد صرح قبل ثورته إنه أصبح قويا أكثر مما ينبغي، وحينما وقعت الحركة تصادف أن كان السيد طه في بغداد للمداولة مع وكيل الحاكم الملكي العام، فأعرب عن إنفضاضه التام عن الشيخ محمود، ورجع في 25 مايس عن طريق راوندوز إلى نيري موطنه في شمدينان بعد أن تعهد ببذل نفوذه ضد الثائر). وهنا نلاحظ إن (بيل) لا تذكر أية كلمة عن الأسباب الدينية التي دفعت هؤلاء، وهم من عوائل دينية مرموقة للوقوف إلى جانب بريطانيا ضد الشيخ محمود من دون أن يشفع له إنتسابه (لرجل دين كردي مقدس ذي سمعة كبيرة، هو كاكة أحمد الذي يرقد مدفونا في ضريح في السليمانية، كثيرا ما كان يقصده الزوار الأكراد في السابق). ولكن من إين لها أن تذكر مثل هذه الأسباب وهي غير موجودة أصلا؟....يتبع[1]