#ياسر المندلاوي#
إن المعطيات التي ذكرناها في الحلقة الرابعة من هذه الدراسة تقودنا إلى إستنتاج واحد لا غير، مفاده: إن إندلاع الحركات الكردية في تلك الفترة ومن ضمنها حركات الشيخ محمود لم يك لأسباب دينية فقط، وإنما لمزيج من الأسباب، بقف في مقدمتها طموح الأكراد في ممارسة حقوقهم القومية وإقامة دولة كردية. وهذا ما عكسته كل الفعاليات الكردية آنذاك بدون إستثناء، ولم تسعف بريطانيا عدم إهمالها (لحاجات الناس الدينية، إذ إتخذت الترتيبات المطلوبة لترميم المساجد الكبيرة على حساب الحكومة، وقدمت منحة ليتمكن الناس من تنظيم شؤونهم الدينية وممارسة طقوسهم وعباداتهم)28، مثلما لم تسعف من قبل شراكة الدين لغير البريطانيين، أتراكا كانو أم إيرانيين.
إن هذا الطموح هو الذي قاد الأكراد إلى منح التأييد لحركة الشيخ محمود، والإعتراف بزعامته لهم، والمس بيل تذكر هذه الحقيقة ولكن بطريقتها الخاصة. إنها تقول إستنادا إلى تقرير الميجر صون عن منطقة السليمانية لسنة 1919 ما يلي: ( كان الأكراد على درجة من التلهف للهدوء والسلم وعلى درجة من الفاقه والحرمان بحيث كانوا مستعدين للتوقيع على أية وثيقة كانت أو إعطاء أي قول كان من أجل الحصول على الطمأنينة والطعام. وبمثل هذا وقعت قبيلة بعد أخرى من القبائل التي كانت لا تعرف الشيخ محمود إلا قليلا أو التي كانت أحسن ما تعرفه عنه كونه سليلا غير كفوء لجد صالح، على الطلب التأريخي بالإنضمام إلى الدولة الجديدة التي يرأسها الشيخ محمود).
إن الطموح الوطني والقومي كان السبب الأساسي أيضا لإندلاع حركة الشيخ سعيد عام 1925. وكانت لفكرة إقامة كردستان المستقلة الدور الحاسم في قيامها، وتبني حركة الشيخ سعيد لشعار إقامة كردستان مستقلة في ظل الحماية التركية وإعادة حكم السلطان لا ينفي هذه الحقيقة. وهذا الشعار يعكس - وهذا أمر مؤكد – نفوذ القيادة الدينية على الحركة وطموحها إلى الإرتباط بالخلافة العثمانية بعد إحيائها، إلا أن ذلك لا يسمح لنا بالإستنتاج بأن الدافع الذي يقف وراء إندلاع الحركة كان دينيا، خاصة إذا ما أدركنا بأن الأقوام غير المسلمة كانت مشتركة في هذه الحركة. وبهذا الخصوص كتبت جريدة (حاكمتي مللي): ( ليس الآشوريون وحدهم، وإنما الأرمن أيضا هم الذين إنضموا إلى المنتفضين بهدف تشكيل أرمينيا المستقلة المتحدة مع كردستان)30. ومن الأهمية الإشارة إلى أن وضوح الأهداف القومية لحركة الشيخ سعيد دفع رئيس محكمة الإستقلال إلى الإعتراف بذلك في كلمته الختامية الموجهة إلى المتهمين المحكومين بالإعدام وبالأعمال الشاقة المؤبدة، قائلا لهم: ( من منكم تذرع بسوء الجهاز الإداري للحكومة كحجة للقيام بالإنتفاضة، وآخرون دافعوا عن الخلافة، ولكن كلكم كنتم متفقين في مسألة واحدة وهي كردستان مستقلة)31. أما مراسل جريدة (الوقت) في ديار بكر فينقل لنا عن كلمة النائب العام الدفاعية ما يلي: (إن أسباب ومصدر الثورة الأخيرة التي جرت في الولايات الشرقية من وطننا تركيا الحبيبة لا تتميزبشيء عن مثيلاتها التي حدثت في بوسي وغيرو وتفوفين في الماضي غير البعيد. إن المثل والأهداف المنبثقة عن الثورة الكردية هي تلك المثل والأهداف التي أدت إلى إنفصال سورية وفلسطين).
وبخصوص حركات البارزانيين، نستطيع تسجيل بعض الوقائع عن قيام حركة الشيخ عبد السلام عام 1908، وحركة الشيخ أحمد 1931-1932، ولكن قبل ذلك لابد من كلمة عن شيوخ البارزانيين، حيث إنهم ينحدرون من نسل الشيخ تاج الدين، وكان عالما على درجة كبيرة من المكانة. ومن أحفاده الشيخ عبد السلام الأول، وأخويه عبد الرحمن وعبد الرحيم. وحسب المس بيل فإن الشيخ عبد السلام الأول هو الذي أخذ الطريقة النقشبندية من الشيخ مولانا خالد، بينما يذكر وليام إيغلتن الإبن ( إنه في مفتتح القرن التاسع عشر عمد السيد طه والد الشيخ عبيد الله النهري الشمديناني إلى تسليم الطريقة (الخلافة) النقشبندية إلى رجل دين تقي وصالح يعيش في قرية بارزان، وبهذا ربطه بواحدة من أعظم المجموعات الصوفية في العالم الإسلامي. شيخ بارزان الأول هذا كان يدعى (تاج الدين) إنه لم يدع الإنحدار من عترة النبي(ص) مثل شيخه الأكبر)34. وأيا كانت الحقيقة، فإن الواضح من النصين السابقين إن النفوذ الديني لشيوخ بارزان لا يتجاوز عهد الشيخ تاج الدين، فهم حديثوالعهد بهذه النعمة، ولا أعتقد إن هناك ما يشير إلى دور النفوذ الديني في تحقيق سيطرتهم على القبائل الأخرى. إن إنضمام قبائل الشيروانيين والمزوريين وغيرهم إلى عشيرة البارزاني لا يمكن النظر إليه بمعزل عن طبيعة القبيلة الكردية، التي تنتمي إلى نموذج الإشتراك في الموضع، فالقبيلة الكردية (عبارة عن مجموعات .. لا ترتبط ببعضها برابطة النسب وتخضع عسكريا لسلطة مركزية). وهي تتخذ إسم الموضع الذي تشغله، ويتعاهد أفرادها على العيش بوئام وضمن منطقتهم، وعلى الدفاع المشترك ضد أي إعتداء.
إن البارزانيين، في بداية القرن التاسع عشر، أصبحوا قوة لا يستهان بها، وإشتهروا بالبأس وشدة المراس. وهذا منح الشيخ عبد السلام القدرة على أن يتقدم ببعض المطاليب، وأن يعترض على محاولات فرض الضرائب على ممتلكات قبيلته، الأمر الذي تم تفسيره من جانب السلطات التركية على إنه تحد لنفوذها. وصادف بعد فترة لجوء صفوت بك، القائمقام العسكري في إستانبول، إلى الشيخ عبد السلام طالبا منه الحماية من السلطات التركية، وبما إنه كان من أصدقاء الشيخ ويقدر له مكانته الدينية، فقبله الشيخ في حمايته. وعندما طلب سليمان نظيف باشا والي الموصل آنذاك تسليم صفوت بك في الحال والحضور إلى الموصل، رفض الشيخ طلبه، وهو ما أدى إلى شن حملة عسكرية ضد الشيخ، إضطر الأخير بنتيجتها الرحيل إلى إيران وحل ضيفا على السيد طه صديق الشمديناني في قرية نيري. وفيما بعد ألقي القبض عليه بمكيدة وتم تنفيذ حكم الإعدام به في منتصف ليلة 14 كانون الأول 1914 فخلفه شقيقه الشيخ أحمد الذي سمح لأتباعه (بأن يعلنوا حلول روح الله فيه دون إقامة وزن لمباديء الدين القويمة، منتشيا بإخلاص أتباعه المطلق)36. وبرغم إنهيار إدعاء الشيخ إلا أن نفوذه إستمر. وفي عام 1931 أتهم الشيخ أحمد بإعتناق المسيحية من قبل أعدائه، الذين أعلنوا الجهاد على البارزانيين بإسم الدين. وكان الشيخ رشيد لولان، وهو أيضا من شيوخ الطريقة النقشبندية، هو الذي أعلن الجهاد، ولكنه إنهزم على يد البارزانيين، فإندفع الجيش العراقي للقضاء على الحركة، فأصيب الجيش هو الآخر بهزيمة. وفي عام 1932 شنت حملة ثانية نحو بارزان كان الفشل من نصيبها أيضا، وأخيرا وبعد تدخل القوة الجوية العراقية تمكن الجيش من السيطرة على الوضع وقبض على الشيخ أحمد في تركيا وسلم إلى العراق في عام 1935. ونترك للتفاصيل التي ذكرناها، وهي مملة لغير المعنيين، مهمة إستنطاق الواقع عن حقيقة دور العامل الديني في حركة الشيخ عبد السلام ومن بعده حركة الشيخ أحمد. إن هذه التفاصيل قمينة بتقديم إستنتاجات على درجة كبيرة من الوضوح للقاريء اللبيب، تجعلنا نعزف عن تقديمها له على طبق من ورق، إيمانا منا بنباهته في زمن عزت نباهة أولئك الذين يتمشدقون بالنباهة...يتبع[1]