الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بوّابة الحل لأزمة سوريا والمنطقة
كيفارا شيخ نور
تشهد منطقة الشرق الأوسط صراعاً بين مشاريع جيوسياسية عالمية كبرى، مثلما حدث منذ ما يقارب ال 100 عام، ويقوم الصراع على محاولات تكريس الهيمنة والسيطرة ونشر الفكر السلطوي الدولتي، في حين يقوم بعضها الآخر على النِدّية والتكامل والمنفعة المتبادلة.
إن مشروع الأمة الديمقراطية الذي أطلقه القائد عبد الله أوجلان، يمتلك إمكانيات هائلة لمشروع سلام، ضد الأنظمة القومية في المنطقة. ولذلك فإن الرد التاريخي المضاد من شعوب المنطقة على مشاريع التفتيت والفوضى الخلاقة، يتمثل في السير باتجاه وحدة مصالح شعوب الشرق الأوسط واتحادها عبر إنشاء إدارات ذاتية.
وعبر هذه الإدارات الذاتية تصبح سيادة شعوب المنطقة هو الأساس، بمن فيهم الكرد والعرب والفرس والترك، وتطبيقه على الأرض له علاقة بتفاهم واتحاد العرب والكرد والترك والفرس والقوميات الأخرى المتآخية عبر التاريخ. والتي يجب أن تصل إلى مستوى أعلى من التآخي في الدفاع عن حقوق بعضها البعض، فمصير شعوب المنطقة باتت الآن بيدها، ولن يتحقق حل قضاياها العالقة إلا عبر التكامل.
فالشرق الأوسط وسوريا، يمرّ بأزمة كبيرة وعميقة، ومع ذلك يمكن أن يتحول هذا الاستعصاء إلى مركز للحل. وهذا الشيء يمكن أن يتحقق عبر نموذج الحل الديمقراطي والإدارة الذاتية، الذي قال عنها القائد عبد الله أوجلان بأنها التعبير عن حالة الانتظام في الكون، وعن حالة الهروب من الفوضى.
ولذلك، وعلى مدى السنوات الماضية، قاتلت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية ضد مرتزقة داعش وهزمتها، ولعل الكثير راهن على انهيار هذه الإدارة – كما حصل مع القوات الأفغانية مؤخراً - وذلك بعد قرار واشنطن سحب قواتها من مناطقهم، إلا أن ما حصل فاق التوقعات، فتكرّست أكثر فأكثر وأصبحت مثالاً يحتذى به لدى السوريين من أقصاه إلى أقصاه، كما أنها قاتلت ثقافياً عبر الحفاظ على ثقافات شعوب المنطقة الغائرة في التاريخ.
أوجلان وفلسفة الممارسة العملية
استطاع القائد أوجلان من سجنه في جزيرة إمرالي، تحقيق ما لم يستطع كبار القادة تحقيقه، وذلك عبر ربط الفكر النظري بالعمل، وكانت أولى نتائجها مبدأ الأمة الديمقراطية، وتشكيل إدارة ذاتية في شمال وشرق سوريا التي تحمي هذا المبدأ، فالقائد هنا أصبح ما يمكن أن نسمّيه الفيلسوف الديمقراطي، لأنه آمن بأن شخصيته ليست محددة بذاته كفرد، وإنما هي علاقة اجتماعية إيجابية للتغيير.
يقول الفيلسوف الماركسي انطونيو غرامشي، في كتابه دفاتر السجن: إن إرشاد كتلة كبيرة من البشر إلى التفكير بطريقة متّسقة في العالم الحقيقي الراهن، هو حدث فلسفي أهم بكثير وأكثر أصالة من اكتشاف فيلسوف عبقري لحقيقة، تبقى ملكاً لمجموعات صغيرة من المثقفين.
الإدارة الذاتية ضرورة
منذ نشوء الإدارة الذاتية عام 2014 وهي تتعرض لهجمات تركية متواصلة من جهة، وكذلك لتعنّت حكومة دمشق الراغبة بإنهاء وجود هذه الإدارة، واستعادة السيطرة على كامل البلاد من جهة ثانية.
إلا أن نفوذ هذه الإدارة في سوريا بعد اندلاع النزاع في العام 2011 ازداد، وتمكنت من تأسيس قوات عسكرية وأمنية وسياسية.
اختلفت تسميات ما حصل في آذار 2011 في سوريا، منهم من سمّاها ثورة، ومنهم من سمّاها انتفاضة، ومنهم من سمّاها مؤامرة، والتي انطلقت بشعارات تطالب بالحرية والديمقراطية، سرعان ما تحولت إلى صراع مسلّح على السلطة، بالاعتماد على القوى الإقليمية والدولية، ولكن ما حصل في شمال وشرق سوريا كان مغايراً تماماً، وكان بمثابة الأمل الذي خرج من صندوق باندورا، حيث خرجت جميع مكونات هذه المنطقة جنباً إلى جنب، برؤية مغايرة لرؤية طرفي الأزمة السورية (الحكومة والمعارضة).
فشتّان ما بين ذهنية ساعية إلى الحل والمعتمد على شعب المنطقة وإدارة أموره بنفسه ولنفسه، والتي تمثّل إرادة كل سوري، وما بين ذهنية الطرفين – الحكومة والمعارضة - والتي لا تزال مستمرة، رغم مرور عقد على بداية الأزمة السورية، طبعاً ليس من داعٍ المقارنة الآن بين الذهنيتين، لأن الأمور واضحة وجليّة للعيان.
ماذا تريد الدولة القومية في تركيا وسوريا؟
هذا المولود والذي هو في مراحله الأولى، والذي خرج من رحم المعاناة والأمل بغدٍ أفضل، اختار خطّه الثالث وفضّل الحل السياسي الذي بات ليس أمراً واقعاً فحسب، بل أصبح بمثابة دائرة جذب لدى السوريين وغير السوريين. امتلكت هذه الإدارة إرادة الحل الحقيقي، والتي اعتمدت على مكونات الشعب السوري. اعتمدت على احترام جميع المكونات عبر التنسيق فيما بينها.
إلا أن هذه الأمر لم يرقْ للدولة القومية التركية والسورية، وبدأت تقوم بالتضييق عليها عسكرياً واقتصادياً، عبر اتهام هذه الإدارة بالسعي الى الانفصال، إلا أن القاصي والداني يعرف ويدرك أن هذه الإدارة هي قوة سورية عريضة جادة تسعى إلى الحل والسلام، ستحول سوريا إلى بلد فاعل دولي.
ولطالما شجّعت هذه الإدارة على مواصلة الحوار مع حكومة دمشق من جهة، ومع ما يسمى بالمعارضة السورية من جهة أخرى. إلا أن المفاوضات لاقت الرفض من قبل حكومة دمشق، الساعية إلى إعادة البلاد الى ما قبل عام 2011، فحكومة دمشق تريد استسلاماً من دون شروط.
الإدارة الذاتية ضد الفوضى الخلاقة
كان المخطط أن يزداد صراع المذاهب والقوميات في سوريا، وذلك عبر الدور التركي القذر الذي مارسه وربيبه داعش، فلم توفر أنقرة وسيلة إلا واتبعتها لتحقيق أهدافها في تفتيت واستباحة البلاد، وذلك عبر الاحتلال المباشر لعفرين وسريه كانيه وكري سبي وجرابلس والباب وإعزاز، وكذلك عبر تسليح وتمويل مرتزقة داعش وأخواتها، وسياسة تدمير البلاد وحرقها من الداخل، عبر افتعال وتأجيج نزاعات داخلية بين مكونات الشعوب، وكذلك عبر حصار المنطقة وخنقها اقتصادياً، ناهيك عن فرض تعليم اللغة التركية وسياسات التغيير الديمغرافي والتعامل بالليرة التركية في المناطق التي احتلتها.
ولكن الإدارة الذاتية، وعبر فهمها للسياق الحقيقي والطبيعي للتاريخ البشري، أدركت ومنذ بدايات الأزمة السورية، أن شعوب هذه المنطقة شعوب متآخية، والأساس في علاقاتها هو التاريخ المشترك والتكامل. في حين أن الطارئ التركي كانت مهمته التباعد والتفكك، المُنافي لخطّ السير الموضوعي باتجاه الاندماج والتكامل والتوحد.
ففكر الأمة الديمقراطية عبر تطبيق الادارة الذاتية، هو حقيقة من حقائق الشرق الأوسط الديمقراطي، وهي عبارة عن التقاء اللغات والثقافات والأديان وتأثير إحداها على الآخر.[1]