حسين جمو
كرّس #يشار كمال# ، الروائي الكردي الأكثر شهرة عالمياً في الأدب التركي المعاصر، جلّ حياته في سرد حكاية المجتمعات المهمّشة. و من خلال أبطال الحكايات يحلل مسألة اختلال التنمية بين كردستان والأناضول، بأسلوب روائي بسيط السرد، عميق المعنى. روايات يشار كمال تأخذ القارئ إلى زوايا عديدة. بالنسبة للقراء غير المطّلعين على الخفايا الأمنية لأوضاع كردستان في ظل “الجمهورية”، تزخر روايات كمال بالعمق الإنساني لمعاناة الطبقات الفقيرة والمهمّشة. قد يبدو ذو التزام طبقي اشتراكي تجاه هذه الفئات التي تصارع في مناطق تخلت عنها الدولة، و قد يبدو تخلي الدولة عن هذه المناطق عجزاً وسوء إدارة. حدث وأن تناول الكثير من الكتاب في قراءاتهم لبعض أعمال يشار كمال من زاوية قصصية بديعة، و حجبت معها خلفية كافة أعماله، إنها أرضية اللوحة التشكيلية: تراجيديا اختلال التنمية بين الجبل والسهل. الجبل الذي استخدمه كمال في معظم رواياته دلالة على كردستان. لم يكن ممكناً مرور رواية تحمل اسم كردستان فاستعاض عنها بالجبل، و سكان كردستان بالجبليين. تحايل واضح على القانون المختل، و هذا القانون عاجز عن محاسبة الكاتب على كلمة “الجبل”، لكن في عين الوقت، القانون نفسه راضٍ عن هذا التحايل!
“شجرة الرمّان” هي واحدة من أدق السرديات لمعادلة التلاعب بالتنمية. لا يتهم كمال الدولة مباشرة مثلما لا يروي حكايته مباشرة أيضاً. يرسم شخصياته عبر مامد و حسك و يوسف و عاشق علي و مامد الصغير، و تدور الوقائع على أرضية محكمة هي الهندسة الاجتماعية عبر التنمية. كَتَب يشار رواية شجرة الرمان عام 1951 وأضاع المخطوطة إلى أن عثر عليها أحد أفراد عائلته في صندوق والدة يشار. كانت الصناديق القديمة خشبية ومحكمة الإغلاق، عادة تضع فيها الجدات والأمهات أغلى ما يربطهن بهذه الحياة. كانت رواية شجرة الرمّان في ذاك الصندوق. الرواية نشرت عام 1982 وترجمت إلى الكردية في 1998 والنسخة العربية ترجمها سامي الحاج عام 2021 وصدرت عن دار تموز.
تدور أحداث الرواية في منطقة تشووكوروفا، وهو الاسم التركي لسهل كيليكيا بين أضنة وميرسين وأوصمانيا. زمن الأحداث قريب من زمن كتابة الرواية، سياسياً يمكن تحديدها بنهاية حقبة حكم الحزب الواحد وتسلم الحزب الديمقراطي السلطة عام 1950. عائلة كردية هجرت موطنها في كردستان وسكنت في قرية نائية في سهل كيليكيا. فقدت عائلة “مامد” موسمها الزراعي مبكراً وبقيت بدون أي مورد يساعدهم على الصمود حتى العام التالي. يقرر مامد الاتجاه إلى تشوكوروفا ومزارعها المزدهرة و العمل هناك. المدة الزمنية للرواية ثلاثة شهور قضاها هؤلاء الأصدقاء في رحلة سيراً على الأقدام بين قرى وبلدات تشوكوروفا. قائد المجموعة مامد، و على عادة القرى حين ينساقون وراء المغامرين أوقات اليأس، تبعته مجموعة من الأصدقاء بمن فيهم “يوسف” الشخص الذي استمات وهو يحاول إقناعهم بخطأ خيار التوجه إلى المدينة مستنداً إلى تجربته الطويلة في العمل هناك. لكن الإجابة كانت أقوى من محاولاته: “الموت أهون من الفقر”. فتبعهم يوسف المريض أيضاً و هو في عز مرضه، بدا خلال الرحلة الأكثر دراية بالفشل الذي ينتظرهم، لكنه تبعهم رغم ذلك، و كان أفضل ما ابتكره يشار كمال حول شخصية يوسف أنه لم يقم بتفسير سبب لحاق يوسف بالمجموعة.
تقنياً فإن بطل سردية يشار كمال في شجرة الرمان هو مامد، أما البطل الفعلي هو المجتمع، فهي رواية من النوع الذي يرتكز على ما يحيط بالفرد وليس الفرد نفسه. على هذا المنوال، القسم الأكبر من أحداث الرواية تدور على الطريق بين قرية مامد وتشوكوروفا. الطريق هو البطل، والمجتمع هو من يظهرون أمام هذه المجموعة في المزارع والحقول والقرى. مرضى و فقراء و مشردون و آغوات و متأزمون نفسياً وأغنياء انقلبوا فقراء وجثث و ملاريا و سل و بعوض يلسع بلا رحمة. أما أداة التغيير الاجتماعي فهي الجرارات:
“بعد مجيء التركتورات تغير البشر تماماً، وأصبحوا محل عجب.. باتوا لا يتطلعون إلى وجه المرء. هذه المكائن التي كانوا لا يعرفون ماذا يمكن أن تقدم لهم، أصبحت لهم كأوثان معبودة”.
الصدمة الأولى التي واجهها مامد أن شقيقته التي بقي يتحدث عنها بالخير طيلة الطريق، قد تجاهلته ولم تستقبله في مزرعة زوجها الآغا. كانت الأخت تعيش في عالم جديد، إنه عالم الآلة ، عالم يتأسس على دعائم جديدة هي الجرارات والحصادات والشاحنات. لقد أغرمت الأخت بالجرارات وباتت مهووسة بها. يتداول من تبقى من العمال سرديات عجيبة عن وقوع أخت مامد في الحب الأسود مع الآلات الجديدة. باتت تقضي جل وقتها في تنظيف عجلات الجرارات، كما طردت كافة العمال من المزرعة حيث لم تعد هناك من حاجة إليهم. في واحدة من الحوارات بين مامد ورفاقه و رجل كان يعمل في حقل مع عائلته، بدا أن وضع مجموعة مامد أفضل من وضع الرجل الذي ناولهم الماء. فقد قرر الآغا إدخال الآلات أيضاً وكان الرجل يعيش أيامه الأخيرة كفلاح لأول مرة منذ 30 عاماً.
في لحظة حوارية بارعة يوجز يشار كمال سردية البسطاء عن المسؤولية الدولية بخصوص وضعهم: “آه من هذا الكافر الأمريكي، آه من هذا المهندس المارشال.. هذا ظلم”. في هذه الجملة حمولة سياسية للمشهد العام. فثورة الجرارات في تركيا كانت نتيجة من نتائج مشروع مارشال الأمريكي لإعادة بناء أوروبا. حقيقة ربما بكّر مشروع مارشال في إدخال الآلة لكن مسار التقدم حتمي في النهاية و كانت الجرارات ستصل مع أو بدون مارشال. ما حدث أن سرعة تعميم الجرارات و الحصادات أنهت علاقات زراعية مديدة حافظت على نفسها طيلة قرون ومن من دون أن يكون هناك ما يستطيع هؤلاء القيام به كمهنة بديلة. في هذه اللحظة من التحول الاجتماعي الاقتصادي الحاد، قالت الدولة “لا شأن لي بكم”.
تتحول الرحلة في الجزء الأخير، من البحث عن عمل إلى البحث عن شجرة الرمّان المباركة، شجرة الشيوخ والأولياء كما وصفتها لمامد ورفاقه عجوز كردية تقيم في قرية من قرى تشوكوروفا. اقتنع أعضاء المجموعة أن خلاصهم يتوقف على شجرة الرمّان وانطلقوا في رحلة جديدة للبحث عن الشجرة و حل كل مشاكلهم دفعة واحدة! يقول القرويون إن شجرة الرمّان المباركة قد جاءت من مكة. لقد تبعت الشجرة علي بن أبي طالب إلى تشوكوروفا، وحين علم بلحاق الشجرة به، طلب منها أن تنغرس على تلة مجاورة وتكون عوناً للفقراء والمرضى. بعد سلسلة أحدث تراجيدية على الطريق، وصلت المجموعة إلى موقع الشجرة، فوجدوا الجذع فقط. لقد تغير العالم و تغيرت شجرة الرمّان أيضاً. من تجرأ على قطع هذه الشجرة؟ إنه العالم الجديد الذي قلب كيان العالم القديم في بعض سنين.
إن سيرة التنمية الحضرية المختلة في شمالي كردستان تنطبق أيضاً، بالآليات و الأسباب، الموضوعية والممنهجة، على الامتدادات الكردستانية الأخرى في العراق وسوريا وإيران. في عهد الأنظمة العراقية المتعاقبة لم تكن هناك مدينة كردية قادرة على توفير فرص العمل، ولو بشكل جزئي، عدا التوظيف في دوائر الدولة. الأمر نفسه ينطبق على منهجية الحكومات السورية المتعاقبة التي حرمت المنطقة الشرقية برمّتها، في امتداديها الكردي والعربي، من وسائل ربط السكان بالمكان. و عليه، فإن الحكومات القائمة على التخطيط الدقيق، على غرار تركيا، استخدمت الظروف الموضوعية كقناة إضافية، إلى جانب التهجير المباشر، للتحكم بنسبة الكثافة السكانية في كردستان وإبقاء هذه المنطقة ذات خاصية طاردة للديمغرافيا إلى المدن الكبرى غربي الأناضول. على أنّ هذه العملية جرت – وما تزال – بشكل ناعم، وعلى الأغلب يتم ربط التفاوت في التنمية بالظروف الاجتماعية ومستوى التعليم. في “شجرة الرمّان” طرح يشار كمال الظاهرة بعين اجتماعية متوغلة في أبعادها، كونه كان أحد هؤلاء ممن تلاعبت بهم التنمية. حين نعيد تفكيك رواية “شجرة الرمان” إلى تحليل سياسي واجتماعي، سنصل إلى وكر مخفي هو الدولة تدار فيه اللعبة بشكل غير عفوي.
لا تقتصر ظاهر تحريك الكتل السكانية من خلال التلاعب بآليات التنمية، على قومية محددة، إذ أنها سياسة محددة الهدف و هي تخفيف الكثافة السكانية في كردستان، لكن التأثيرات الجانبية لمثل هذا التوجه تجرف معها قطاعات واسعة من السكان غير الكرد، في حالة تركيا، تشمل خصوصاً العرب والأقوام التركية الحدودية. يمكن المحاججة بالتأكيد أنّ اختلال التنمية الريفية والحضرية ظاهرة عالمية ، وأحياناً تكون معكوسة، أي استخدام التنمية بهدف جذب السكان إلى منطقة معينة وكسر طابعها القومي ديمغرافياً، كما في حالة كل من كتالونيا و الباسك في إسبانيا. في حالة دولة مثل سوريا، يمكن أن تكون وجهة النظر التي ترى اختلال التنمية ناتجة عن فشل إداري للدولة، محل نقاش. يحدث أن تكون الدولة عاجزة عن تقديم إدارة فعالة فيحدث اختلال في الأطراف وتركز للثروة والتنمية في مركز أو مركزيين حضريين. و يمكن محاولة تجربة هذه المقاربة، أي عجز الدولة، على تركيا أيضاً. غير أنه لدى دراسة النواحي الإدارية الأخرى، في التعليم والصحة والنقل والعمران، تظهر الدولة ككيان شامل مسيطر بشكل كلي على وجهة التقدم والتراجع في البلاد.
في بعض الحالات يمكن للدولة اللجوء فقط إلى آلية تمييز سلبية ، وهي عدم القيام بأي شيء، و التظاهر أن هذه هي إمكانياتها. ليس من السهل العثور على هذا السلوك في الدول بالوقائع و الحجج المقنعة، رغم شيوع هذا الأسلوب في التخلي عن منطقة ما و تقاعد الدولة هناك عن القيام بوظائفها التي ستفيد في استقرار المجتمعات المحلية وعدم اضطرار الفئات العمرية الشابة فيها إلى الهجرة. هنا تقوم الدولة بمهمة ترك الطبيعة حرة في القيام بالهندسة السكانية.
لكن، ما هي مصلحة الدولة، ذات القومية الأحادية المتطرفة، في توفير الاستقرار لمجتمعات محلية تشكل عصب الثقافة الكردية؟
يمكن الإستطراد للإجابة عن هذا السؤال وفق الرؤية الموضحة في السطور السابقة، كما يمكن العثورة على طريقة أخرى لسرد حكاية “الاختلال الممنهج للتنمية”، وهو اختلال قاسٍ لا يرحم حتى في حال كان موضوعياً بالفعل بدون دفع من الدولة. و قد كان القيادي في حزب الشعوب الديمقراطي، سري ثريا أوندر، بليغاً في التوصيف حين قال في معرض حديثه عن الحرب التي شنها الجيش التركي على المدن الكردية بين 2015 – 2016 إن قانون التنمية لا يرحم.
مرحلة الخمسينيات التهمت قسماً كبيراً من الفلاحين و أعادتهم إلى العالم كعمال أجرة يتوسلون العمل أمام أبواب المزارع والمصانع. إن هذا الاختلال الاجتماعي، بما تضمنه من تفكيك العلاقات الزراعية التاريخية، خلق فراغاً ليس بريئاً، هذا الفراغ كان شاملاً و مدمّراً ، و من أبرز مظاهر هذا الفراغ اختفاء الحراك الثوري في كردستان على مدار 40 عاماً (حتى عام 1978). فقد كان المجتمع الكردي قد فقد توازنه خلال حقبة دخول الآلة والتصنيع و استسلم للدولة بدون أن يجد السبيل لإعادة تجميع عناصر انطلاقة جديدة ضد سياستين متناقضتين – عن دراية وقصد- اتبعتهما الدولة، وهي سياسة التخلي عن كردستان (في التنمية) وسياسة احتلال كردستان (في الأمن والسياسة)، وهو جانب متشابك مع “شجرة الرمّان” أيضاً، سنفرد له حلقة ثانية.[1]