حسين جمو
من مفارقات التاريخ الإسلامي المدوّن في العصر العباسي أن معظم الباحثين، و كذلك قراء التاريخ، يتعاملون مع النصوص والروايات كوثائق تشكل أساس رواية التاريخ، و هي في النهاية رواية من وجهة نظر واحدة؛ تتفرع مذهبياً إلى روايتين بخصوص التفاصيل لتسودا السرد؛ السنية والشيعية. وكلاهما تشكّلتا في عهود متأخرة، قرابة قرنين، عن زمن الحوادث المؤرخة في بدايات الاندفاعة العسكرية العربية تجاه مناطق سيطرة بيزنطة و إيران الساسانية في العملية التي يطلق عليها في التاريخ الإسلامي “الفتوحات”. و في النتيجة فإن الروايات، مع ما فيها من سرديات تشوبها النواقص والشكوك والطعون والاختلاق، تظهر معضلة ما زالت عصيّة على الحل، و هي عدم توفر مواد المقارنة للأحداث من وجهات نظر جيران العرب، الإيرانيين و البيزنطيين؛ وذلك يعود إلى قلة ما تعرفه الشعوب المتجاورة عن بعضها البعض. فكل مجلدات التاريخ المخصصة للإسلام المبكر، المدونة باللغة العربية، ما زالت أحادية وغير قابلة للمقارنة مع روايات بيزنطية أو فارسية عن الفترة نفسها. و الغالب أن السبب لا يعود إلى ما يشاع عن تعرض هذا التاريخ للإخفاء من قبل العرب، وإن كان ذلك فرضية لا يمكن استبعادها، ومحاولات لا يمكن إنكارها، إنما الأكثر هو جهل مدوني التاريخ خلال الفترة المبكرة، في المعسكر المقابل للعرب، عن العرب وأحوالهم وما يريدون فعلاً خلال المعارك الأولى المدونة بالعربية حول “الفتوحات الأولى”.
ولأنه تاريخ مدون في اتجاه واحد، نرى مثلاً اختفاء روايات تاريخية أقدم من الإسلام كانت على بعض الألسن، لكنها اختفت لأنها مدونة بغرابة لا يقبلها عقل من كان أقرب إلى الحدث. على سبيل المثال، حين التقى ابن خلدون بسلطان والمغول والتتار، تيمورلنك، فإن الأخير كما عرف عنه، كان محباً للجدل في تفاصيل الأمور، فدار حوار أورده ابن خلدون في كتابه “العبر في ديوان المبتدأ والخبر” في القسم الذي طبع مستقلاً باسم “رحلة ابن خلدون”. وقد أراد الأخير أن يستأمن على نفسه في لقائه تيمورلنك، فتحدث عن أن حركة النجوم تنبأت بظهور تيمور، و هو قول له ما يسنده في تاريخ نبوءات الفلك وليس اختلاقاً من ابن خلدون. ثم بدأ ابن خلدون بتعظيم العرب والترك بين الأمم، و خصّ الترك بأمور عظيمة معتقداً أن تيمور سيُسرّ بكلامه لأنه من الشعوب التركية. فقال ابن خلدون يقصد الترك: “ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى ، أو قيصر ، أو الإسكندر ، أو بختنصّر”. و يبدو أن هذا الكلام لم يسرّ تيمور، ذلك أن ابن خلدون يجهل أن ملوك المغول والتتار وأمراء الترك من السلاجقة ومن جاء بعدهم، يتبعون سنة ملوك إيران في التاريخ، ويحاولون أن يكونوا بعظمتهم، وحين يغزون أرضاً فارسية فلكي يكونوا ملوكاً كما كان الملوك في الشاهنامة. لذلك، لم يُصِب ابن خلدون في مديحه للترك وتصغيره لملوك إيران. إن الأمر الذي استوقف تيمورلنك بداية هو ما يمكن اعتباره جزءاً من الرواية الآسيوية المفقودة للتاريخ. فقد تعجّب تيمور من حشر ابن خلدون اسم بختنصر (نبوخذ نصر الثاني) بين كبار ملوك الأرض، فجادله على ذلك و رفض اعتبار بختنصر ملكاً مستقلاً، مستنداً في ذلك على كتب المغول. وهذه إشارة نادرة إلى الرواية الآسيوية عن المنطقة، و هذه رواية اختفت و لم يبق لها من أثر يذكر. فوفق قراءات تيمورلنك، فإن بختنصر من أبناء الملك منوجهر بن فريدون، و هو من الأسرة البيشدادية في التاريخ الأسطوري لإيران. و قال تيمورلنك ما فاجأ ابن خلدون حين جاء ذكر منوجهر: ” فقال : ومنوجهر له علينا ولادة من قبل الأمّهات”. ثم طلب من ابن خلدون ترجيح أحد الاحتمالين، هل بختنصر ملك من ملوك إيران كان يحكم بابل أم هو من النبط البابليين؟ فرجح ابن خلدون الرأي الثاني و تحاجج برأي الطبري في ذلك. ولم يقبل تيمورلنك هذه الحجة، وخاطب ابن خلدون بالقول: “وما علينا من الطبري؟ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم ، ونناظرك”. و لم تتم المناظرة، أو ربما لم يذكرها ابن خلدون. على أن هذا الحوار يكشف عن كيف يمكن أن تنتصر رواية تاريخية على أخرى. فلو أن الروائيين الأوائل للتاريخ الإسلامي حين بدأوا بنقل تاريخ الأمم المجاورة قبل الإسلام، قد اعتمدوا رواية أن بختنصر ملك إيراني يحكم بابل، كان سيكون مثيراً للجدل حتى اليوم، و يثير أبحاثاً مضادة للرواية الرسمية، بغض النظر عن الصحيح. وفي التاريخ هناك رواية صحيحة، وفق قواعد التثبت من الأخبار، لكن الصحيحة لا تعني الحقيقة.
الرواية السريانية
هناك بعض الأوراق الناجية في التاريخ تفيد في إجراء مقارنات صغيرة لبعض الحوادث حول قصة ظهور الإسلام. فقد دوّن مؤرخون ورجال دين سريان بعض الأحداث، نقلاً عما عاينوه وسمعوه وشاهدوه. وقدم الباحثان تيسير خلف و حسام عيتاني محاولتين مهمتين في تتبع قصة الفتوحات في الروايات السريانية والبيزنطية. فنشر تيسير خلف كتابه “الرواية السريانية للفتوحات الإسلامية” و حسام عيتاني “الفتوحات العربية في روايات المغلوبين”. ويتقارب منهج الكاتبين في رصد ما دوّنته المصادر السريانية، بالنسبة للأول، والمصادر السريانية والبيزنطية والأرمنية لدى الثاني. و بينما نجد في كتاب عيتاني محاولة لتقديم رواية مسيحية اعتماداً على المصادر الأساسية المحفوظة أو المنقولة عن المصادر، لبناء رواية تاريخية من وجهة نظر المغلوبين، فإن تيسير خلف حاول استكمال ما ينقص الرواية الإسلامية ويسد بها ثغرات ويصوب بها مبالغات استناداً إلى تدوينات سريانية. و ليس الحديث هنا للمقارنة بين الكتابين، إنما القصد أنه في المحصلة، أنه حتى الرواية السريانية، والبيزنطية، تبدو رواية مراقب خارجي لا يعرف سوى القليل عن التمدد العسكري الذي يقوده قوم عرفوا بعدة أسماء في المصادر المسيحية غير السريانية: السراسنة والإسماعيليون والهاجريون والمهاجرون والطائيون (للمزيد حول السراسنة ينظر: حسام عيتاني – الفتوحات العربية في روايات المغلوبين). إنّ تتبع الروايات البيزنطية يظهر حركة اندفاع من السراسنة تجاه بلادهم، لكن ليس من الواضح، أو لا يمكن الجزم أن هناك دعوة إيمانية (الإسلام) كانت محور هذه الحملات العسكرية. و يمكن النظر بريبة وشك إلى الروايات الكنسية في معظمها في تلك الفترة، خصوصاً الكنيسة التي كان يتبعها السريان، فقد تم تصوير هزائم بيزنطة أمام العرب كعقاب إلهي حتمي على الانحراف الديني البيزنطي والاضطهاد الذي تتعرض له الكنائس السريانية والشرقية في العموم، حتى يمكن القول إن الروايات الكنسية عموماً كانت تنتظر حلول هذا العقاب، بل و تتلهف ليتحقق ذلك حيث أن التدوين السرياني عموماً كتب في ذلك العصر تحت تأثير ألم كبير من بيزنطة. و الأمر الملفت أنه لا يمكن استبعاد دور رجال الدين من السريان في التبشير بالدين الجديد عبر نبوءات غزت عقول القادة والعوام بقرب حلول لعنة إلهية على بيزنطة على أيدي السراسنة – العرب. حتى أن هذه النبوءات لعبت دوراً في كسر عزيمة قادة عسكريين في الجيش البيزنطي خلال المعارك الأولى ضد من عرفوا لاحقاً ب”المسلمين” في الروايات المسيحية. إن أجواء “الفتوحات الإسلامية” في الروايات السريانية والبيزنطية هي مزيج من عقاب إلهي و سوء إدارة عسكرية بيزنطية للمعارك أمام غارات بدوية كانت قد اعتادت عليها بيزنطة على نحو محدود حيث تكون غارات سريعة وغير خطيرة على المدن ذات الأسوار. لذلك، رغم أن الروايات العربية قد بنت سردية شاعرية في البطولة لقصة الإسلام والفتوحات، فإن ما لدينا من مصادر رومانية وسريانية لا تكفي لنقضها أو بناء سردية مضادة للرواية العباسية. في الوقت نفسه، فإن الرواية العباسية تبدو هشة للغاية لدى إسقاطها على الشواهد المادية الآركيولوجية.
إيران..فراغ التدوين
وإذا كانت تتوفر مصادر غير متكاملة لدى مؤرخين ورجال دين معاصرين للفتوحات على الجانب البيزنطي، فإنه على الجانب الإيراني لا توجد حتى سردية جزئية يمكن لها أن تنقض واقعة واحدة من الوقائع المدونة في الرواية العباسية بخصوص سقوط الإمبراطورية الساسانية. فالجانب الإيراني من الفتوحات ساحة خالية من أية رواية مضادة، أو حتى من زاوية موازية. وهذا مثير للغرابة حيث أن الكنيسة النسطورية كانت متقدمة، واللغة السريانية كانت لغة الكنيسة في بلاد إيران حيث كانت النصرانية، على مذاهبها، تعد الديانة الثانية، بعد الزرادشتية، أو الثالثة بعد الزرادشتية والمانوية؛ رغم ذلك ليست هناك أي سجلات تاريخية كنسية باقية عما جرى من وقائع حول سقوط إيران. و ما يتوفر من روايات هو ما سجله السريان والبيزنطيون عن الوقائع التي شهدتها بلاد إيران، و تبدو مشوشة و منقولة عن شائعات كانت متداولة ومصادرها مجهولة. و مع ذروة العصر العباسي باتت الرواية الرسمية الإسلامية تؤثر على المصادر السريانية والبيزنطية.
إنّ السطور السابقة تمهيد لفرضية تحليلية لا تستند إلى وثائق ولا روايات مضادة، إنما إلى أداة قياس عقلية وهي “المعقولية” أو قابلية حدث ما للتحقق بالنظر إلى الإمكانيات المطلوبة لتحقيقها. و أداة القياس الأولى لقاعدة المعقولية هو التشكيك في حدوث الفتوحات بهذا الشكل المطروح، على الجبهة الإيرانية، على وجه الخصوص. فكيف لجيش لم يتجاوز أقصى حشد له 120 ألف محارب في معركة، وفق أكبر التقديرات في الرواية العباسية، أن تحتل وتدير أكثر من 60 مدينة كبيرة في بلاد إيران وأذربيجان والجبال والسند وما وراء النهر، في غضون سنوات قليلة؟ قد يكون بالإمكان تجاوز هذا السؤال المضاد في الحالة البيزنطية حيث كانت بلاد الشام ذات بيئة اجتماعية على اتصال بالعرب المسلمين، وكانت هناك نقمة سريانية كبيرة على بيزنطة، وانقسام كنسي يرقى لحرب أهلية دينية. اما في إيران الساسانية، من المدائن إلى وسط آسيا، فكان هناك انهياراً سياسياً لدى النخبة الحاكمة و تفككاً للسلالة الساسانية، لكن لم تكن هناك بيئة دينية تنتظر قدوم العرب. وإذا قمنا بإسقاط ظروف المسيحيين السريان والنساطرة في بيزنطة بما يشبهها في إيران، فإن المعادلة لا تنتج التأثير نفسه، حيث أن التركز البشري المسيحي واسع لكنه مؤطر جغرافياً في السواد و بابل و شمال شهرزور. و المعقولية لا تكفي لتقديم رواية مضادة أو تصحيحية لأنها لا تستند إلى شواهد، إنما إلى التفسير المادي وهو استحالة إدارة هذه المساحة الشاسعة من البلاد خلال فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز ال30 عاماً حتى ذروة مرحلة الفتوحات المبكرة. و من قياس المعقولية يمكن طرح مسار آخر للأحداث، و هو أن الدعوة إلى الإسلام كانت لاحقة على الفتوحات وليست مرافقة لها، أو سابقة عليها، كما تزعم بعض الروايات عن رسائل أرسلها النبي إلى الملوك في عصره. و في السردية الإسلامية ما يرجح ذلك. و حتى في السردية الإسلامية هناك روايات متناقضة عن الآلية التنفيذية التي اتبعها “الفاتحون” لنشر الإسلام.
التاريخ والجغرافيا
على أن تطور الجغرافيا في العصر العباسي قدم عناصر جديدة تكميلية لرسم صورة أكثر وضوحاً عن مدى توغل الإسلام كدين في البلاد الجديدة غير العربية، وهو ما سنوضحه في سطور قادمة. فحتى القرن العاشر ينقل عدد من الجغرافيين المسلمين أحوال بلاد إيران ومحطيها، و ترد شهادات حول ولايات ومدن ونواحي كاملة في إيران ما زالت الغلبة فيها للزرادشتية، و ما زالت هناك بيوت نار زرادشتية للعبادة في أنحاء فارس وبلاد مادي وأذربيجان وخراسان حتى منتصف العصر العباسي. و هنا يمكن إجراء مقارنة تصحيحية بين الرواية التاريخية للفتوحات، مثل فتوح الشام للواقدي و فتوح البلدان للبلاذري، وبين الرواية الجغرافية التي بدأت في التبلور خلال القرن العاشر الميلادي. وليس كل الجغرافيات مستقلة عن الرواية التاريخية، بل على العكس، معظمها يقدم سيرة تاريخية للمدن، حين يكون هناك تفصيل، بناء على المدونات المكرسة لبناء قصة دينية للتوسع العربي المبكر. رغم ذلك، هناك ما يمكن العثور عليه:
فقد زار الجغرافي والمؤرخ ابن خرداذبه، المتوفي سنة 912 م، منطقة وسط آسيا، والمفترض أنه انتهى من وضع كتابه “المسالك والممالك” سنة 864م. وعلى الطريق بين فرغانة وهضبة التيبت دوّن مشاهداته : “فيهم مجوس يعبدون النار وفيهم زنادقة والملك فى مدينة عظيمة لها اثنا عشر باباً من حديد واهلها زنادقة” (ج1 – ص 31). ومعلوم أن الزنادقة كانت في البداية وصفاً للمزدكية بعد تعريبها قبل أن تصبح ذات بعد تحقيري بعد الانتفاضات التي نظمها المعتنقون للمزدكية ومذاهبها.
و في موضع آخر، تحدث ابن خرداذبه عن المجوسية بشكل أظهرها أوسع انتشاراً من السابق. فكتب عن الثغر المقابل للترك في أقصى خراسان: ” ومعظم الترك فى الثغر الذي بخراسان ويسمّى نوشجان وهو وراء سمرقند فى المشرق بنحو ستين فرسخاً نحو الشاش وفرغانة وهو أوائل مسالح الخرلخيّة الى حدّ كيماك ومن هذا الثغر إلى مدينة التغزغز مسيرة خمسة وأربعين يوماً فى برارىّ فيها عيون وكلأ عشرون يوما ثم قرى كبار خمسة وعشرون يوما وأكثر أهل تلك القرى مجوس ومنهم زنادقة” (طبعة دار صادر – ج1 – ص 262).
أما ابن حوقل، فقد انتهى من كتابه “صورة الأرض” سنة 977م. و يتضمن كتابه شذرات نادرة عن الوضع الديني للبلاد الداخلة في حكم الإسلام. فيذكر حين الحديث عن فارس طبيعتها وتنوعها الزراعي والعمراني وكذلك لمحة عن السكان، وفيها ذكر “زموم الأكراد” الخمسة، متبعاً منهج الاصطخري الذي عرف خمسة زموم كردية في فارس، فيما صنّف ابن خرداذبه (المتوفي سنة 912 م) أربعة زموم. وكانت داخلة في ولاية فارس حيث كانت تضم مناطق أوسع من الحدود الإثنية للفرس. و لعل ابن حوقل هو المؤرخ الأكثر نباهة للعقائد القديمة الباقية حيث جرت العادة أن يتجاهل المؤرخون المقربون من السلطة أي إشارة لعدم توغل الدين الإسلامي بين سكان البلاد المفتوحة، فيذكر مثلاً: “وأمّا بيوت نيرانها فإنّه لا تخلو ناحية ولا مدينة بفارس إلّا القليل من بيوت النيران، والمجوس أكثر أهل الملل بها، ولهم من هذه البيوت بيوت يفضّلونها فى التعظيم” ثم ذكر عشرة بيوت نار مشهورة (صورة الأرض – فصل فارس). وعلى الأقل هناك بيت نار واحد باسم قبيلة كردية كبرى من الزموم الخمسة، و هو بيت كاريان. و يعود ابن حوقل مرة أخرى للحديث عن مذاهب وأديان فارس فيقول: “ليس المجوس بدار أكثر منهم بفارس لأنّ بها كانت دار مملكتهم وأديانهم وكتبهم وبيوت نيرانهم يتوارثون ذلك فى أيديهم الى وقتنا هذا”.
إن ملاحظة ابن حوقل مدهشة في مدى صمود هذه المناطق على الدين القديم (الزرادشتية) بعد مرور نحو ثلاثة قرون على الانهيار المفترض للدولة الساسانية. ونجد بيوتاً للنار في ذلك الوقت في أذربيجان، حيث كانت موطناً تاريخياً لشعوب إيرانية عديدة، وأقدم ذكر للكرد خلال التوسع الإسلامي المبكر جاء خلال “فتوحات أذربيجان”.
كانت المقاومة الدينية ضد اعتناق الإسلام صامدة إلى أبواب الألفية الأولى. و حقيقة كان المؤرخون يتغاضون عن عقائد الشعوب المتمردة على الحكم العباسي، و هذا ما يترك فجوة حول طبيعة العقائد الصامدة أمام الدين الجديد الإسلام. ومن المرجح أن الاحتكاك العربي الكردي ازداد مع مرور الزمن، فقد كانت المناطق المأهولة بالكرد من أهم معاقل الخوارج والحركات المتمردة خلال العصر العباسي، بل إنه حتى حركة العيارين والشطار، التي سادت بغداد نحو قرن من الزمن، قد بدأت من إقليم الجبال و هو لورستان الحالية.
إسلام الكرد
حتى العام 900 م، و هذا التاريخ مجازي للإشارة إلى القرن العاشر الميلادي، لم يكن هناك ما يدل على غلبة الإسلام على الكرد من حيث الاعتناق. وبقي الوضع على هذا النحو حتى مطلع القرن الحادي عشر. أي إذا حددنا إطاراً زمنياً، فإنه منذ انتقال الحكم إلى العرب في بلاد إيران والجبال، نحو 650 م وحتى عام 900م، كانت معظم البلاد الإيرانية ما زالت على دياناتها القديمة، بطوائفها العديدة، وأبرزها الزرادشتية التي عرفها العرب ب”المجوسية”. ومن المعروف أن الزرادشتية لم تكن الدين السائد بين الكرد، بل تفرعات إصلاحية عن الزرادشتية، مثل المانوية والمزدكية وأديان على صلة بالديانات الشمسانية، ومن المزدكية وتفرعاتها يعتقد أن اليارسانية والإيزيدية انبثقت عنها قبل توغل العناصر الإسلامية التصوفية فيهما. و في مقابل الديانات الشمسية في بلاد ميديا، كانت الديانات القمرية منتشرة في بلاد بابل، هذا إلى جانب النصرانية على المذهب النسطوري. وكانت المسيحية تعد الدين الثالث في الترتيب والانتشار في البلاد الإيرانية قبل الإسلام، خاصة في القسم الغربي من بلاد ميديا والجزيرة حيث التجاور الكردي – السرياني – الأرمني.
من الصعب تفسير سبب تجاهل المؤرخين للنواحي الاجتماعية والدينية والطبقية في الأراضي المفتوحة إلا إذا كان ذا بعد أيديولوجي، وهذا الاحتمال لا يمكن استبعاده بسهولة نظراً إلى أن المنهج السائد في الكتابة التاريخية، في مختلف مراحل صعود وتلاشي الدول والإمارات الإسلامية، كان حذراً من السلطة، كما أن غالبية المؤلفات تمت بناء على طلب من ملوك وأمراء من أصحاب السلطة والسطوة. و قبل التعمق أكثر في الوضع الذي كان عليه الكرد خلال الحقبة العباسية، وضمنها الأيوبية، و المذاهب الكردية المتفرعة عن العقائد القديمة، فإن الخلاصة حول فرضية استحالة اقتحام العرب عسكرياً لأكثر من 60 مدينة كبيرة في بلاد إيران خلال سنوات متقاربة زمنياً، أن هناك جزء غير مروي من هذا التاريخ، و هناك مساران لتناول المسألة: إما الاستسلام للمدوّن، أو تطوير المقاربة للفتوحات من كونها “فتوحات”، و هي أقرب لأن تكون كذلك حتى خط جغرافي يقف عند نهر دجلة، إلى وضعها في سياق آخر بعد عبور دجلة، و هو انتقال الحكم للعرب، تدريجياً، و الأرجح بالتوافق مع شريحة من النخبة الإيرانية الزرادشتية، و ذلك بسبب انهيار الدولة الساسانية وما نتج عن ذلك من انهيار اجتماعي وحرب أهلية.
و فكرة الحد الجغرافي من نهر دجلة توقف عندها هشام جعيط في مبحثه حول مدينة الكوفة، بالاعتماد على خلاصة الروايات الإسلامية، لكنه لم يطور مقاربته الخاصة حول تجاوز النهر، ذلك أنه لم يبحث عن تفسير خارج الرواية السائدة. وربما لو حاول ذلك كان سيقدم إضافة وباباً للتفكير، والتفسير، والتمايز، عن حدود الدعوة الإسلامية و حدود حكم المسلمين.
الزرادشتية والمزدكية
رغم أن الزرادشتية ديانة لا تعتبر سماوية، في التصنيف الإسلامي، فإن معتنيقيها عوملوا معاملة أهل الكتاب بعد حيرة عبر عنها الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب في قوله: “ما أدري ما أصنع بالمجوس، وليسوا بأهل كتاب”.
ليس هناك أي رواية تشير إلى أن معتنقي المزدكية أيضاً كانوا على نفس القياس، أي معاملتهم معاملة أهل الكتاب. غير أن وقائع لاحقة تشير بشكل جلي إلى صدع زرادشتي – مزدكي انتقل إلى الدولة العباسية. فكافة الانتفاضات ضد السلطة العباسية في ديار الكرد، خاصة منطقة ميديا التاريخية في أذربيجان و غرب إيران، كانت ذات جذور مزدكية، بينما الجيوش المضادة لهذه الانتفاضات، و المتحركة باسم الخليفة العباسي، فحسب عدة حوادث من هذا النوع رواها مؤرخون، كانت بقيادة زعامات من ذوي التراث الزرادشتي وبعضهم كان متهماً أنه ما زال على المجوسية، مثل طاهر بن الحسين والأفشين. واسم الأفشين هو لقب زرادشتي إيراني يتسمى به كل من يحكم بلاد أشروسنة وسط آسيا، وهذا التقليد كان قائماً حتى عهد المعتصم حين استخدم الآفشين ضد بابك الخرمي المزدكي. بمعنى، أنه حتى مطلع القرن العاشر الميلادي، كان القادة ذوي المنبت الزرادشتي في الشعوب الإيرانية، هم الفائزون في معادلة السلطة الإسلامية. وعموماً الفترة العباسية كانت فترة سيادة الزرادشتيين السابقين في إيران، لاستفادتهم القصوى من الإسلام. ومن الصعب التساهل في الحكم أن المزدكية كانت بين الكرد و الزرادشتية بين الفرس، إذْ أنه كما سبق وذكر في السطور أعلاه، فإن الكرد في إقليم فارس كانوا، في العموم، أقرب للزرادشتية في العصر العباسي وهناك بيت نار باسم قبيلة كاريان الكردية. والانتشار الكردي في إقليم فارس كان كبيراً، و استولوا على فارس في ذروة الفترة العباسية. لذا، فإن تصنيف الكرد على المزدكية، والفرس على الزرادشتية، ليس صائباً كحكم قطعي، إنما يمكن تخصيص المزدكية في المراكز الميدية القديمة من همذان إلى أذربيجان وهكاري، فهو انتشار جغرافي يتواجد فيه الكرد بكثافة، و جغرافية الزرادشتية أيضاً تتواجد فيها قبائل كردية كبرى في إقليم فارس، من دون أن يكونوا غالبية ممثلي الزرادشتية، بل الأرجح أنهم شكلوا أقلّية في مقابل الشعوب الإيرانية الممتدة حتى حدود الصين. (سنأتي على انتفاضات كردية ذات مضمون مزدكية في حلقات قادمة).
كما في معظم البناء التاريخي، لا توجد أسانيد كافية في التاريخ حول قصة إسلام شعوب إيران، حيث أن فرضية إسلام القسم الأكبر منهم طواعية ضمن التنافس الإقليمي بين قادة المنطقة على ميراث إيران، مطروحة أيضاً، و بعد سلسلة من الهزائم التي تعرض لها الكرد في هذا السياق، حين دعموا انتفاضات المزدكية المتتالية حتى نهايات القرن العاشر الميلادي، و تسلط القادة الفرس المدعومون بالقوة العسكرية التركية، فإنه، على نحو مفاجئ، ظهر الكرد على مسرح التاريخ نهاية القرن العاشر الميلادي، وقد أصبحوا مسلمين في غالبيتهم، و هي فرضية ناقشها أرشاك بولاديان في أطروحته “الأكراد في حقبة الخلافة العباسية” و خرج بنتيجة هي صحيحة من حيث النتيجة لكنها غير مدعومة بوثائق وروايات، و هي أن الكرد تحولوا إلى الإسلام جماعياً بدءاً من القرن العاشر الميلادي، وهذا التحول الجماعي نحو الإسلام بدأ من الطبقة الإقطاعية الأميرية قبل جموع الناس.[1]