لازكين يعقوب*
أعلنت القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية في 23 -03- 2019، هزيمة #تنظيم داعش# بعد الاستيلاء على آخر موقع للجماعة في قرية الباغوز على الحدود السورية العراقية. خُلدت هذه المدينة لاحقاً من قبل أتباع التنظيم باعتبارها المكان الأخير الذي هُزموا فيه. أمل كثيرون أن تؤدي هزيمة التنظيم إلى استعادة الأمن والاستقرار ومتابعة الحياة بشكل طبيعي كما كانت عليه قبل ظهوره . لكن ذلك لم يتحقق، إذ لا تزال الجماعة المتطرفة نشطة في عدد من المناطق. وعلى الرغم من أن الجماعة لم تعد موجودة جغرافياً كما كانت قبل، إلا أنها لا تزال تحظى من الناحية الإيديولوجية بالتعاطف والدعم في العديد من المناطق التي كانت تسيطر عليها. لفهم السبب، يجب معرفة كيف ظهر «داعش» قبل أعوام في العراق وتطور خلال الأزمة السورية التي بدأت في 2011.
من الزرقاوي للبغدادي
على الرغم من أن ل«داعش» جذوراً في العراق منذ عام 2006، إلا أنه لم يحظ باهتمام عالمي حتى أبريل/نيسان 2013، إذ يعود أصله إلى الجماعات الجهادية الموجودة في التسعينات بقيادة الإسلامي الأردني أبو مصعب الزرقاوي الذي برز في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في 2003 وأطلق فيما بعد ما أسماه «القاعدة في العراق» مع مبايعته أسامة بن لادن. في عام 2004، ألقى الجيش الأميركي القبض على الرجل الذي سيقود «داعش» لاحقاً: أبو بكر البغدادي، في مدينة الفلوجة العراقية واُعتقل في معسكر بوكا، حيث تم سجنه مع المعتقلين الآخرين الذين قاتلوا الولايات المتحدة. في 2006، قُتل الزرقاوي في غارة جوية أميركية وخلفَه أبو أيوب المصري. في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، أنشأت بعض الفصائل الجهادية «الدولة الإسلامية في العراق»، وعين أبو بكر البغدادي رئيس الهيئة الشرعية، في حين تم تكليف أبو عمر البغدادي قيادة الجماعة. في 2010، بعد مقتل المصري وأبو عمر في قصف جوي أميركي، تولى أبو بكر قيادة الاستخبارات في التنظيم. بعد ذلك بعامين، تولى أبو بكر قيادة «داعش» الذي سيطر على مساحات كبيرة من حلب في شمال سوريا، حتى ديالى في شمال العراق.
البدايات في سوريا
مع نهاية عام 2010 وبداية 2011، اندلعت في عدد من الدول العربية انتفاضات شعبية، سلمية إلى حد كبير، ضد الأنظمة الحاكمة، وأطلق عليها ما يسمى بثورات الربيع العربي، ما أدى إلى اضطرابات وعدم استقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كان لسوريا نصيبٌ من هذا الاضطراب، وأصبح البلد الذي أُطلق عليه ذات مرة «مملكة الصمت» أرضاً خصبة للمتطرفين الإسلاميين، في وقت أدى تفاقم الوضع والنزعة المناطقية والطائفية في الصراع السوري إلى ظهور عدد من الجماعات الإسلامية، بما في ذلك «داعش».
لم يكن صعود «داعش» في العراق وسوريا صدفة. في أواخر 2011، أرسل البغدادي، وكان لا يزال في العراق، مجموعةً من المقاتلين إلى سوريا لتشكيل جماعة جهادية، وسرعان ما سيطرت جبهة النصرة على بعض المناطق وتحالفت مع بعض السوريين في تلك المناطق التي سعت إلى تغيير النظام.
أعلن أبو بكر البغدادي في بيان صوتي تم بثه في 9-04- 2013 نيته توسيع «الدولة الإسلامية» بشكل رسمي إلى «الشام»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن جبهة النصرة امتدادٌ لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق». لذلك، تمت إعادة تسمية المجموعتين ودمجهما في كيان واحد أطلق عليه «الدولة الإسلامية في العراق والشام». ومع ذلك، رفض أبو محمد الجولاني، المنتسب إلى «الدولة الإسلامية في العراق» والمرسل إلى سوريا مع عدد من زملائه في مهمة سرية في عام 2011، مبايعة البغدادي. تجدر الإشارة إلى أن الجولاني يرأس حالياً هيئة تحرير الشام، وهي جماعة شبيهة بتنظيم داعش تسيطر على إدلب بالتنسيق مع تركيا وتلعب دور «عصا التأديب» ضد الفصائل الأخرى المدعومة من تركيا أيضاً.
توحيد استثنائي
على الرغم من أنه كان هناك أكثر من ألف مجموعة وفصيل منفصل معارض لنظام الأسد في جميع أنحاء سوريا، متنوعين من حيث الحجم والانتشار والقدرة والموارد، إلا أنه وبشكل استثنائي سرعان ما كان لدى «داعش» القدرة على فرض مبادئه وحكمه على العديد من هذه الفصائل المسلحة المعارضة واكتساحها تحت راية الخوف السوداء. إلى جانب الإرهاب، استثمر «داعش» بنجاح في العديد من المناطق القبلية المعزولة، والتي ظلت سيطرتها محل نزاع بين الفصائل المعارضة للأسد. ومن هنا، برز «داعش» باعتباره القوة الأكثر سيطرةً ونفوذاً.
بمرور الوقت، أعلن الكرد في شمال سوريا عن ثلاثة أقاليم مستقلة غير متجاورة، وهي عفرين والجزيرة وكوباني، كإدارة ذاتية. والجدير بالذكر أن ظهور هذا الكيان أقلق النظام التركي الذي عمل على تسليح الإسلاميين الذين يمتلكون نفس النظرة تجاه الكرد. بحلول 2016، تم تحويل هذه المناطق الصغيرة إلى منطقة كبيرة متعددة الأعراق تضم الكرد والعرب والآشوريين والأرمن والشركس، إلى جانب الأقليات الدينية والعرقية الأخرى. لم يحصل هذا بسهولة وإنما بعد أعوام من القتال والتضحية، إذ واجهت وحدات حماية الشعب وحشية «داعش» ودفعت أكثر من عشرة آلاف شهيد مقابل هزيمته.
من الرقة الى الموصل
في أماكن أخرى من الرقة، تصاعد التوتر بين جبهة النصرة و«داعش» ووصل إلى مواجهات عنيفة على الأرض. في 14 -01- 2014، أعلن «داعش» أنه سيطر بشكل كامل على مدينة الرقة. اعتُبر الاستيلاء على الرقة، إضافةً إلى موقعها الاستراتيجي على نهر الفرات عند مفترق طرق يؤدي إلى الحسكة ومنبج والطبقة وكوباني ودير الزور وحلب، حقبةً جديدة مظلمة وقاتمة للمدينة السورية التي تعد معقلاً للقبائل بنسبة كبيرة.
بينما ظلت الرقة العاصمة الفعلية ل«داعش»، كان الاستيلاء على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، أمراً أساسياً لبقاء التنظيم وتوسعه. في أواخر يونيو/حزيران 2014، وبعد الاستيلاء على تلعفر والموصل، أعلن التنظيم خلافته على جانبي سوريا والعراق.
سرعان ما ظهرت الوحشية لدى التنظيم، خاصةً ضد الطلاب العراقيين في معسكر سبايكر والجنود السوريين في مقر الفرقة 17 واللواء 93. ارتكب «داعش» جرائم لا يمكن للإنسان تخيلها، بما في ذلك قطع الرؤوس الجماعية والإعدامات التي ينفذها الأطفال وحرق الناس أحياء في أقفاص حديدية. استفاد «داعش» من كميات الأسلحة الكبيرة التي تم الاستيلاء عليها من القواعد والمخازن العسكرية العراقية، والتي ساعدته على التسلل عبر مساحات شاسعة من سوريا والعراق واختراق الحدود بين الدولتين.
دعا أبو بكر البغدادي جميع المسلمين إلى مبايعة الخلافة المعلنة ضمن خطبة دينية ألقاها في مسجد النوري بالموصل. بإعلان الخلافة، تفوق «داعش» على جميع الجماعات ذات الميول الإسلامية الأخرى في سوريا. ليس ذلك فحسب، بل تم الإعلان عن الجهاد الإجباري أيضاً ضد أعداء «الدولة الإسلامية»، ووضع جميع المرتدين المسلمين و«الكفار» العلويين والشيعة والإيزيديين في مرمى «داعش».
تحالف أميركي-كردي لمواجهة «داعش»
كانت إعادة تنصيب «الخلافة» كنظام حكم إسلامي استراتيجية مخططٌ لها. ومن المستغرب أنه بعد إلغاء الخلافة الأخيرة من قبل مصطفى كمال في 1924 وإنشاء الجمهورية التركية ذات التوجه العلماني، ظهرت تركيا مرة أخرى بقيادة رجب طيب أردوغان كدولة لها غايات وتطلعات توسعية، ووضعت يديها بيد تنظيم إرهابي وحشي لمواجهة الكرد.
تجمع الجهاديون من جميع أنحاء العالم في سوريا للعيش في ظل الخلافة الدينية التي لطالما حلموا بها، حيث كان «داعش» القوة الأكثر مصداقية بنظرهم، بينما ظلت جبهة النصرة سورية الهوية إلى حد كبير، في حين أصبح «داعش» جماعةً تضم جنسيات وقوميات مختلفة عبرت من تركيا بمساعدة الاستخبارات التركية.
استطاع «داعش» ضمن حملته «التوسيع والبقاء» أن يسيطر على مناطق واسعة في وقت قصير ومن دون مقاومة من خلال بث الرعب بمجازره. على سبيل المثال قتل التنظيم ما يقرب من 700 شخص من قبيلة الشعيطات العربية السورية في شرق دير الزور للسيطرة على مناطقها.
في 03-08- 2014، توغلت الجماعة بعد ذلك في معقل الإيزيديين شنكال (سنجار) في محافظة نينوى شمال غربي العراق، حيث قتلت مئات الأشخاص واختطفت عدداً كبيراً من الناس. وكان يمكن للتنظيم أن يقتل أكثر من 40 ألفاً من الإزيديين الذين فروا إلى جبل سنجار (جياي شنكال)، لولا أن تم إنقاذهم من قبل مقاتلي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، الذين تدفقوا لمواجهة «داعش».
استمر التنظيم بوحشيته. ففي الشهر التالي، شن هجوماً للسيطرة على مدينة كوباني الكردية على الضفة الشرقية لنهر الفرات في روجآفا. وبعد أيام، دعا الناطق بإسم الجماعة أبو محمد العدناني جميع مؤيديها وأتباعها إلى قتل الغربيين وحلفائهم مدنيين وعسكريين في جميع أنحاء العالم. كان التهديد رداً على الضربات الجوية التي أمر بها الرئيس الأميركي باراك أوباما ضد المجموعة في سنجار والتي بدأت في 7 أغسطس/آب. وسرعان ما أرسل التنظيم رسائل واضحة للانتقام من خلال قطع رؤوس المصورين الصحافيين الأميركيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف.
بالعودة إلى كوباني، وبحلول أكتوبر/تشرين الأول، استولى التنظيم على ما يقرب من 350 قرية. ومع ذلك، سرعان ما انقلبت المعادلة بفضل الأعمال البطولية الكردية التي حشدت الدعم الشعبي من جميع أنحاء العالم. بعد أشهر من القتال العنيف، بحلول يناير/كانون الثاني 2015، وبدعم جوي من الولايات المتحدة، بدأت القوات الكردية في تحرير المدينة. كان هجوم التنظيم على كوباني واستعادة الكرد ل«ستالينغراد الكرد» نقطة تحول ليس فقط في القتال ضد الجماعة المتطرفة، ولكن أيضاً في الصراع السوري.
في أعقاب معركة كوباني، تم تشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لهزيمة التنظيم بعد أن أدركت أن لديها الآن شريكاً قادراً على محاربته (الكرد). في أكتوبر/تشرين الأول 2015، تم الإعلان عن تحالف متعدد الأعراق والأديان تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية. وشكلت وحدات حماية الشعب وحدات حماية المرأة المكون الأساسي، كما جلبت قوات سوريا الديمقراطية العرب والسريان والآشوريين والأرمن إلى جانب المقاتلين الشيشان والتركمان والشركس. لا يزال هجوم تنظيم داعش على مدينة كوباني الكردية غامضاً. فيما كشف قادة بارزون محتجزون من التنظيم أن قرار مهاجمة كوباني اتخذ عشوائياً، تكهن كثيرون أنه كان بأمر من تركيا. ومن المحتمل أن يكون أردوغان أعطى أولويةً أكبر لوقف ما اعتبره كردستان الغربية الناشئة (روجآفا) من إسقاط الأسد.
انهيار الخلافة
في ذروة قوته وتوسعه (أواخر 2014 وأوائل 2015)، سيطر التنظيم على حوالى 60 في المئة من سوريا و 40 في المئة من العراق، ما جعلها قوةً لا يستهان بها قادرة على حشد ما يقرب من 40 ألف مقاتل أجنبي (معظمهم من خلال الطريق الجهادي التركي السريع عبر إسطنبول إلى غازي عنتاب)، من أكثر من 130 دولة من جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، بحلول 2017، كان التنظيم في حالة تدهور. وفي ديسمبر/كانون الأول، فقد التنظيم 95٪ من أراضيه، بما في ذلك أكبر مدينتين: الموصل والرقة. في نهاية 2018، حُشر التنظيم في مناطق متفرقة بدير الزور. وبحلول مارس/آذار 2019، أنهت معركة الباغوز شرقي دير الزور ما يسمى ب«الدولة الإسلامية»، لكن ذلك لم يكن النهاية. انتشر العديد من المقاتلين في عمق الصحراء، وتوجه آخرون نحو فصائل المعارضة المدعومة من تركيا ضمن «الجيش الوطني السوري» في الشمال السوري (جرابلس والباب وأعزاز وسيري كانيه وكيري سبي) وشمال غرب سوريا (عفرين).
وأبرز دليل على كيفية قيام الاحتلال التركي بتحويل العديد من مقاتلي التنظيم السابقين إلى مرتزقةٍ بتسمياتٍ أخرى، جريمة القتل التي وقعت في 20 الشهر الجاري لعائلةٍ كردية في قرية بعفرين بسبب إشعال أفرادها نار الاحتفال بعيد نوروز، وذلك على يد أعضاء من «أحرار الشرقية» المدعومة تركياً.
يعتبر فصيل «أحرار الشرقية» حركة إرهابية دموية تعمل في المنطقة منذ عام 2019، ويعرف بحقده وكراهيته تجاه الكرد. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، قتل مقاتلون من نفس المجموعة السياسية الكردية هفرين خلف على طريق حلب-الحسكة السريع. كانت خلف تعمل كرئيسٍ لحزب المستقبل في سوريا في ذلك الوقت، وتم جرها من سيارتها وتعرضت للتعذيب قبل أن يتم قتلها.
كان صمت «داعش» ملفتاً في عامي 2019 و2020 بعد هزيمته من قبل قوات سوريا الديمقراطية لأن العديد من عناصره استبدلوا مظلته بأخرى للانضمام إلى الفصائل المدعومة من تركيا في شمال غرب سوريا. ولكن تميز عامي 2021 و2022 بعودة ظهور أنشطة التنظيم.
في يناير/كانون الثاني 2021 ، قُتلت الرئيس المشارك لمجلس تل الشاير في الحسكة سعدة الهرماس ونائبتها هند الخضير بطريقة مروعة على يد الخلايا النائمة التابعة للتنظيم في ريف الحسكة الجنوبي، وتم قطع رأسيهما في دليل على أنه لا يزال يمتلك القدرة والرغبة في التوسع والقتل بوحشية من جديد.
على غرار ما سبق، بعد عام بالضبط، هاجمت خلايا نائمة (شجعها التهديد بغزو تركي لإنقاذها) سجن غويران المحصن جيداً والواقع في مدينة الحسكة، حيث يحتجز مقاتلو الجماعة من قبل قوات سوريا الديمقراطية. على الرغم من أنه تم إخماد الهجوم بعد معارك دامية استلزمت مشاركة التحالف بقيادة الولايات المتحدة، إلا أنه كان مؤشراً واضحاً على أن للتنظيم القدرة على العودة من جديد.
علاوة على ذلك، كانت الصور التي انتشرت لاحقاً من السجن لعمليات قطع الرؤوس دليلاً على أن عقلية أتباع التنظيم لم تتغير ويمكن أن تنشط إذا لم يتم هزيمتها بالكامل. داخل السجن وخلال المعارك التي تلت ذلك، قُتل 121 مقاتلاً من قوات سوريا الديمقراطية والمدنيين. في نهاية 2022 شنت الخلايا النائمة هجوماً آخر في مركزها السابق الرقة. وتشن قوات سوريا الديمقراطية، بدعم من التحالف الدولي، حملات يومية أو أسبوعية ضد خلايا التنظيم النائمة في جميع أنحاء روجآفا وجنوب شرق سوريا. ومع ذلك، لا تزال المجموعة قابلة لمعاودة النشاط في أي لحظة.
إيديولوجيا سلفية
لا يعود الفضل في توسع التنظيم السريع إلى الأسلحة المتطورة للغاية التي استولى عليها من قواعد الجيش العراقي أو إلى الدعم الذي تلقته من نظام أردوغان في تركيا فحسب، بل من كونه وكيلاً ضد الكرد. قام «داعش» ببناء مؤسساته الخاصة التي تعود إلى العصور الوسطى والتي عفا عليها الزمن لتشكيل كل جانب من جوانب الحياة داخل المناطق التي يسيطر عليها. وزرع الخوف الذي فرضه النظام والهدوء في المناطق التي حكمها، والتي كانت تسودها الفوضى سابقاً.
إضافة إلى ذلك، سيطر التنظيم على موارد نفطية هائلة في سوريا والعراق، ما جعل خلافته من أغنى التنظيمات في العصر الحديث. لعبت المعابر الحدودية والماشية في المناطق القبلية ومنتجات الحبوب من شرق سوريا دوراً كبيراً في منح التنظيم قوةً اقتصادية، وهو ما ساهم في تمويل وتقوية بنيته ومنح الموارد اللازمة لإقناع أتباعه بأنهم بصدد الانضمام إلى الجنة التي تضم كل شيء على حد زعمهم.
بالإضافة إلى ذلك، وضع فقهاء التنظيم مناهجهم التعليمية من أجل السيطرة على الأجيال المقبلة من خلال كتب مدرسية خاصة تغرس إيديولوجيته في عقول «أشبال الخلافة» كما يطلق عليهم، ممن سيصبحون مقاتلين وقادةً في التنظيم مستقبلاً. كان هناك هدفان أساسيان ضمن هذه المناهج التي وضعت، الأول: تحويل الإسلام إلى ظاهرة جهادية، والثاني: تحويل السلفية إلى داعشية.
في الأراضي التي سيطر عليها «داعش»، كان إظهار أي استقلالية للفكر أو قول كلمة لا فعلاً يؤدي للقتل. حدث ذلك في قضية القتل الجماعي لقبيلة الشعيطات العربية في شرق دير الزور، عندما أصدر قاضي التنظيم أبو عبد الله الكويتي فتوى ضد الشعيطات. أجازت الفتوى قتلهم وأخذ ممتلكاتهم بالقوة لأنهم كانوا «مضلين وعاصين» لخلافة «داعش».
من الناحية الإيديولوجية، تبنى التنظيم أيضاً وجهة نظر أكثر تطرفاً مقارنةً بالجماعات الجهادية الأخرى.
في 2014، وقبل هجمات الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين، التقى فقهاء الشريعة من التنظيم ودرسوا كيفية التعامل مع الإيزيديين. وخلصت القضية إلى أنه بما أنهم لم يعتنقوا الإسلام قط، يجب قتلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وأموالهم. طبقت التنظيم وجهة نظر دينية مماثلة لتبرير قتل أفراد الأقلية العلوية في سوريا و(التي يطلقون عليها اسم نصيرية) والشيعة في العراق.
نساء «داعش» الأجنبيات
لا يزال هناك جانبٌ آخر سيطر من خلاله «داعش» على المجتمع وعلى عقول الناس، وهو المتعلق بالنساء. ُنظر إلى النساء داخل التنظيم على أنهن يمتلكن مهمةً «سامية» في المنزل تتمثل في الإنجاب وتربية «أشبال الخلافة». كان هذا صحيحاً بالنسبة إلى النساء السوريات والعراقيات (الأنصار) اللواتي لازمن المنزل. لكن هناك فارقٌ بسيط، وهو أن نساء «داعش» الأجنبيات حصلن على مناصب في المجالات المدنية والعسكرية. فعندما كانت الجماعة في أوجها، تم تخصيص هيكل نسائي من الحسبة لتنظيم الجوانب الأنثوية للخلافة. ومن الغريب أيضاً، وخلافاً لجميع الجماعات الجهادية الأخرى، أن التنظيم وظف نساءً في الخطوط الأمامية، وتحديداً عندما كان في حالة تراجع وخسر قوته في 2018 و2019.
يمكن أن يُنظر إلى هذا الدور النسائي على أنه يأسٌ وسط هزيمة متوقعة، إذ تبين أنها أكثر من مجرد استراتيجية بعد انهيار الخلافة عام 2019. و في الملحق بمخيم الهول، تسيطر نساء الخلافة على بقية سكان المخيم ويتحكمن به بوحشية. لا يخلق هذا الأمر حدياً أمنياً لقوات سوريا الديمقراطية التي تحرس المخيم فحسب، بل أنه يبقي «الخلافة» على قيد الحياة أيضاً.
الكرد ليسوا وحدهم المعنيين
في أعقاب تفكك التنظيم في الباغوز، لجأ مقاتلوه إلى تكتيكات الكر والفر، وتحصنوا في الصحراء السورية الوعرة الواسعة والتي تمتد من الرقة وحماة حمص ودير الزور حتى السويداء في الجنوب. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال المنطقة الحدودية السورية العراقية أرضاً خصبة لمقاتلي التنظيم، الذي لا يزال يحظى بالدعم في العديد من المناطق المعزولة في كل من سوريا والعراق.
كما يُحتجز أسرى التنظيم الذكور في عدد من مراكز الاعتقال في جميع أنحاء روجآفا (شمال وشرق سوريا) التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية، فيما يتم احتجاز عائلات التنظيم بمن فيهم الأطفال والنساء في سجن مخيم الهول على بعد 45 كيلومترا شرقي الحسكة.
تشير الدراسات الأخيرة إلى أن «داعش» لا يزال لديه القدرة على شن هجمات أينما ومتى أراد. ومما لا شك فيه أيضاً أن الإيديولوجية التي غرسها في أدمغة أتباعه تؤثر بهم حتى الآن، خاصةً أن العديد منهم ينظرون إلى إيديولوجيتهم المتطرفة على أنها السبيل الوحيد لمواجهة شيعة العراق (الذين يعتبرونهم خصماً لهم). على الرغم من أن الدولة التي بناها «داعش» لم تعد موجودة، إلا أن إيديولوجيتها موجودة. والعديد من الفصائل الجهادية في المناطق التي تحتلها تركيا هم في الغالب مجموعات من التنظيم، مع تغيير الاسم فقط، وإن بدت لحاهم أقصر.
قدم الكرد تضحيات كبيرة في الدفاع أولاً عن مناطقهم وثانياً لتحرير الآخرين من وحشية وظلم «داعش». اليوم، تؤكد وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة إلى أنهم حاربوا «داعش» نيابةً عن العالم بأسره، وأنه ينبغي على العالم الاعتراف بما قاموا به وتقديره.
بالإضافة إلى ذلك، تطلب الإدارة الذاتية مزيداً من المساعدة من المجتمع الدولي لاحتجاز مجرمي الحرب من التنظيم. كما لا ينبغي أن تكون مسؤولية الإدارة الذاتية إيواء عشرات الآلاف من «داعش» والتابعين له إلى أجل غير معروف، فقط لأن الدول الغربية تخشى إيواء مواطنيها من التنظيم في سجونها.
ناشد مسؤولو الإدارة الذاتية مراراً وتكراراً المجتمع الدولي إما إعادة مقاتلي «داعش» الأجانب إلى بلدانهم الأصلية أو إنشاء محاكم خاصة في روجآفا لمحاكمة مرتكبي الجرائم. حتى الآن، تمت إعادة الأطفال فقط إلى أوطانهم، في حين يبدو أن نداءات ودعوات سلطات الإدارة الذاتية لإجراء محاكمات وقعت على آذان صماء.
كاتب وباحث كردي مهتم بتاريخ مزوبوتاميا وخاصة الشأنين الكردي والايزيدي في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وبعدها.[1]