شورش درويش
في الإجابة عن سؤال إمكانية أن تصبح محادثات التطبيع بين أنقرة ودمشق مقدّمة لإنهاء الاحتلال والتزام تركيا بحدودها الدولية، يبرز التاريخ كشاهدٍ على النزوع التوسعي التركي وصعوبة إجلاء الأتراك عن الأراضي السورية، وبالتالي التقليل من حجم التفاؤل في هذا الخصوص. فالنزعة التوسّعية، وهي نزعة مؤسِسة لإيديولوجية الدولة ونُخبها الحاكمة وموردها المهم في خطب ودّ الناخب القومي التركي، عامل دفعٍ للحكومات المتعاقبة للتفكير في ما وراء الحدود.
بهذا المعنى، تبقى تركيا دولة من دون خريطة، أو لنقل إنها دولة ذات خريطتين، واحدة مثبّتة ومحدّدة في الأمم المتحدة وأخرى متخيّلة وتوسّعية.
إلى حدٍّ بعيد، تعاني تركيا منذ تأسيس جمهوريتها جرحاً غائراً. فهي لم تكن تقتنع، وما زالت، بحدودها الحالية، وتشعر نتيجة أفول دولتها العثمانية بحقّها في أراضي الآخرين. ويمكن في هذا السياق فهم استماتة الجمهورية التركية الحصول على ولاية الموصل وانتزاعها من يد العراق المستعمَر بريطانياً والتي انتهت برضوخها للأمر الواقع ولقرار عصبة الأمم عام 1925 الذي حسم عائدية الولاية للعراق. الأمر ذاته تكرر مع كل الجوار التركي لاسيما الجزر اليونانية وعمليات التبادل السكاني بين اليونان وتركيا، واحتلال شمال قبرص 1974 وتكريس تقسيمها ورفض الدعوات لتوحيد الجزيرة، فضلاً عن مطالبتها المستمرة الوصاية على تتار القرم واعتبار شبه جزيرة القرم أرضاً تركية.
بطبيعة الحال، لسنا معنيين في هذا المقال، بجزئيه، التأكيد على مقولة أن «التاريخ يعيد نفسه»، بقدر ما سنحاول التأكيد على أننا لم نبارح التاريخ مذ رسمت الحدود وأعيد تشكيلها مراراً بين سوريا وتركيا. ذلك أن ما يتحكّم في تضاعيف المشهد في شمال سوريا هو طبيعة وإيديولوجية الدولة التركية التوسعية في الإقليم منذ عام 1920 مروراً بأحداث عام 1957 ووصولاً لعام 2016 وليس انتهاءً بوقتنا الراهن.
الاسكندرونة في عين العاصفة
كانت حصّة سوريا من مضاعفات سياسات التوسّع التركية أشدّ وقعاً منها على جوارها، إذ شعرت تركيا بإمكانية تعديل الحدود المتشكلّة في أعقاب اتفاقية سيفر (1920). ولتبدأ إثر ذاك اتفاقية أنقرة الأولى «اتفاقية فرانكلين- بويون» (1921)، والتي انتهت إلى ترسيم الحدود بعد سلخ أجزاء من ألوية حلب الشمالية وإلحاقها بتركيا. فجاءت معاهدة الصلح في#لوزان# (1923) مؤكّدةً على الترسيمات السابقة من دون أي تعديلٍ على الخرائط. لكن تلك المعاهدة التي لم تحسم مصير لواء الاسكندرونة نشأ عنها مشاكل متواصلة دامت 18 عاماً، وانتهت في نهاية المطاف إلى سلب اللواء السوريّ ذي الغالبية العربية.
الترسيم الثاني للحدود جاء إثر توقيع اتفاقية أنقرة الثانية عام 1926 وهو الذي أعاد ترسيم الحدود بالشكل الذي غدت فيه نصيبين وأجزاء من جزيرة بوطان عائدة لتركيا بعد أن كانت مناطق حرجة ومكان تنازع حدودي بين فرنسا وتركيا، إذ لم يكن مصير المناطق الكردستانية استقرّ في مخيال الدول العظمى وقتذاك.
وبالعودة إلى سيرة لواء اسكندرونة، حضرت كل أشكال سياسة التتريك للقضاء على التنوّع الإثني والطائفي فيها تمهيداً لسلبه بعد أن رفضت أنقرة صدق النوايا السورية تجاه مستقبل أتراك اللواء وهو ما عبّر عنه سعد الله الجابري خلال زيارته تركيا ولقائه وزير العدل ووكيل وزارة الخارجية سراج أوغلو، وكذا تصريح هاشم الأتاسي للصحافة التركية أن الأتراك في اللواء «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». لكن ما أثار سخط الأتراك لحظتئذ كان تصريح الأتاسي أن «لواء الاسكندرونة هو جزء من سوريا». وزاد من غضب الأتراك أن الوفد السوري لم يكن مستعداً للتفاوض في شأن اللواء. فالوفد العائد من جنيف مر بتركيا ولم يكن في الأصل قادماً لأجل التفاوض.
كما دعت أنقرة إلى مقاطعة الأتراك انتخابات المجلس السوري العام في 1936. وبعد ذلك بعام، تقدّمت تركيا بمشروع كونفدراسيون يجمع سوريا ولبنان والاسكندرونة على أن يكون لكل دويلة حكومتها الخاصة وسيادتها «غير المقيّدة». وأما الضغوط العسكرية والتلويح بالتصعيد في مواجهة فرنسا والسوريين، تجلّى في سفر مصطفى كمال أتاتورك إلى حيث ترابط القوات التركية على حدود اللواء، الأمر الذي فُسّر بأنه استعداد أنقرة اللجوء للوسائل العسكرية والعنف حال فشل التفاوض مع الجانب الفرنسي. سوى أن تصلّب فرنسا وقتها دفع الأتراك للتخلّي عن فكرة ممارسة الضغط العسكري، فقفل أتاتورك عائداً إلى أنقرة إثر فشل هذا المنحى التصعيدي. وفي العام نفسه، سيصبح للإسكندرونة وضعٌ قانوني جديد واستقلال داخلي تام وستوكل مسؤولية حماية اللواء من الأخطار الخارجية إلى فرنسا وتركيا. وأتى كل ذلك بموجب قرار مجلس عصبة الأمم لعام 1937، الأمر الذي أبهج الأتراك وأغضب العرب والسوريين. فالمركز القانوني لسكان اللواء أصبحت تتناهبه عائديتان. من جهة كان السكان سوريين. ومن جهة أخرى كانوا مواطنين اسكندرونيين، أي كانوا أقرب لحائزي جنسيتين.
تقسيم السكان مدخلاً للاستيلاء
دعمت تركيا الحركة الانفصالية في اللواء عبر سياساتٍ ترمي إلى تكريس الهوية التركية فيها والتلاعب بالتاريخ على نحوٍ عابث من خلال إطلاق تسمية هاتاي على اللواء نسبة إلى الهاتائيين (الحثيين) والزعم تالياً أن الأتراك هم أسلاف الحثيين وأن نسبة الاسكندرونة للاسكندر المقدوني إنما هو محض خطأ تاريخي.
وأرسى التدخل التركي في الاسكندرونة تقسيم السكان إلى اتجاهاتٍ وأحزاب وجماعات متعارضة. حتى أن الأتراك أنفسهم باتوا منقسمين. فعلى النحو الذي يورده مجيد كدوري في كتابه التفصيلي «قضية الاسكندرونة»، انقسم الأتراك أنفسهم إلى مجددين ومحافظين ومحايدين. فكان المجددون مأخوذين بالحركة الكمالية، ويحظون بدعم الحكومة التركية وإسنادٍ من جمعية «هاتاي» في تركيا، ومثّلوا الأغلبية التركية المؤيدة لضم اللواء لتركيا، واتخذوا من لبس القبعة رمزاً لهم. وكانت القبعة هنا تعبيراً عن الامتثال لقانون القبعة الذي صدر عن مجلس الأمة التركي عام 1925 والذي رمى إلى منع ارتداء الطربوش والعمامة. ولأجل ذلك، وزّعت القبعات على سكان اللواء. تمثّل هذا الاتجاه ب«خلق بارتسي» أو «حزب خلق» وصحيفته «يني غون» أو «اليوم الجديد».
بدورهم، كان المحافظون، وهم أقليةٌ تركية، يسعون إلى إبقاء اللواء تحت الحكم الفرنسي. ولأجل ذلك، اختار المحافظون ارتداء الطربوش رمزاً مناهضاً للكماليين. فيما اختارت الفئة المحايدة الثالثة من الأتراك ارتداء القبعة الفرنسية «بيريه». إلى ذلك، كان عرب الاسكندرونة، رفقة الأرمن والكرد والشركس، داعمين عروبة اللواء وعائديته لسوريا من خلال نشاط «عصبة العمل القومي». فكانت صحيفة «العروبة» المعادل الفعلي للدعاية التركية التي بثّتها «اليوم الجديد». ولأجل الحرب الرمزية، اختار هذا التيار ارتداء السيدارة العراقيّة. ومثّل الاتجاه وقتها زكي الأرسوزي ابن مدينة أرسوز والذي ستقوم تركيا بطرده لاحقاً مع من طردوا من العرب خارج اللواء.
عزز قرار عصبة الأمم بإجراء انتخابات مجلس اللواء في 1937 التقسيم بين السكان، إذ قسّمت لجنة التنظيم والمراقبة المعيّنة من مجلس العصبة السكان، فسجّل الناخبون أسماءهم في إحدى الطوائف السبعة: «الطائفة التركية، الطائفة العلوية، الطائفة العربية، الطائفة الأرمنية، طائفة الروم الأرثوذوكس، الطائفة الكردية، طوائف أخرى». وكان اعتماد لفظ «الطائفة- المجتمعات» المستخدم آنذاك رغبةً في تذرير الكتلة السكانية العربية وتقسيمها إلى عربية وعلوية تغليباً للحضور التركي.
بدا أن تركيا استمالت اللجنة ومارست ضغوطها عليها، إذ منح القانون المولودين الأتراك في اللواء، والذين باتوا من سكان تركيا واكتسبوا جنسيتها، حق الاقتراع. ولم تكتفِ تركيا بتقسيم السكان، بل دعت العرب خلال التسجيل للاستتراك من خلال الجمعيات التي تبدو ظاهرياً غير سياسية وأهمها نادي «كنج سبور» و«المعهد الموسيقي لنشر الثقافة التركية».
كما سجّلت تركيا اعتراضاتها الكثيرة على قانون الانتخابات وعمل اللجنة وعملية التسجيل، وحالت دون تسجيل العرب في القوائم الانتخابية وضغطت لايقاف عملية التسجيل، في وقتٍ أبدت سوريا، كما عبّر جميل مردم بك، رغبتها عدم التأثير على لجنة الانتخابات، اقتناعاً بنزاهتها وحيادها.
السياسة الدولية في صالح الأتراك
لطالما خدم تموضع تركيا بين حجري الرحى، الحلفاء ودول المحور، في الحرب العالمية الثانية، سياستها التوسعية. فالدولة التي غامرت على نحوٍ مبهم بعملية الانضمام إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، قرّرت ألّا تكرر الخطأ مرة أخرى. وشكّل حيادها مدخلاً للضغط على الثنائي، فرنسا وبريطانيا. ولئن كانت هاتان الدولتان تسعيان إلى الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، جرت الرياح في صالح سفنها صيف 1938، إذ قررت فرنسا النزول عند رغبات تركيا وعيّنت الكولونيل كوليه قائداً للقوات العسكرية في الاسكندرونة الذي مالأها، على عكس خلفه كارو، فأقدم على إسناد الوظائف للموظفين الأتراك بعد إقصاء العرب. وبالمثل أسند قيادة الدرك ومديرية الشرطة ورؤساء المخافر إلى الأتراك. وليطال التضييق الحركة السياسية العربية، حل عصبة العمل القومي وأغلق نادي العروبة وصحيفة «العروبة»، ونفى شباب العرب وسجن آخرين، الأمر الذي دفع لجنة الانتخابات لترك مهامها ومغادرة اللواء.
أفضى استمرار المفاوضات بين فرنسا وتركيا إلى إشراك الأخيرة بمهمة حفظ الأمن الداخلي ومراقبة سير الانتخابات وضمان حصولها على أكثرية أصوات مجلس اللواء، وهي مسائل كفيلة بأن يدرك السوريون أن اللواء بات قاب قوسين من ضمّه لتركيا. ولأجل ذلك، وافق السوريون، بمساعٍ ووساطة عراقية، على تقسيم اللواء وتبادل السكان العرب والأتراك ومنح سوريا منطقة حرة في ميناء الاسكندرون. لكن على الرغم من ذلك، أبرمت تركيا وفرنسا معاهدةً في الرابع من يوليو/تموز 1938 نصّت على إشراك تركيا بعملية الإشراف على الانتخابات، وبما يمكّنها من نيل الأكثرية.
وفي وقتٍ سابق، زحف الجيش التركي في 25 يوليو/تموز 1937 واحتل مدن اسكندرونة وبيلان وقره خان، فيما رابط الفرنسيون في أنطاكيا والأوردي، في حين بقيت مدن أخرى خارج سيطرة الأتراك كأرسوز والسويدية والريحانية. وداخل هذا الجو المحموم، فاز الأتراك في انتخابات المجلس ب22 مقعداً مقابل 18 للعرب، وتم تأليف أول حكومة في اللواء عام 1938 ترأسها طيفور سوكمن الذي وجّه الشكر لأتاتورك وتركيا، وليتم إثر ذاك تغيير اسم اللواء ليصار إلى تبنّي اسم جمهورية هاتاي، بعد ذاك حددت هاتاي علمها الذي كان مطابقاً لعلم تركيا بفارق أن النجمة البيضاء ضمّت نجمةً حمراء بداخلها. ولعل لعبة الأعلام المتطابقة تحيلنا إلى علم القبارصة الأتراك وعلم تركمان العراق.
مرة أخرى وعبر المفاوضات، وصل الأتراك والفرنسيين إلى عقد معاهدة أخرى في 23 يونيو/حزيران 1939 ضم بموجبها اللواء لتركيا، ليصبح الولاية التركية 63 وقتذاك (حالياً 81 ولاية).
صورة الماضي في مرآة الحاضر
تحوّلت سيرة احتلال اللواء وسلبه تدرجيّاً إلى سيرة ثانويّة، أو باتت في عداد المحفوظات والبكائيات ليس إلأّ. فبقي اللواء مرسوماً في الخرائط المدرسية ضمن الخريطة السورية، قبل أن يلاحظ سوريون اختفاء اللواء من كتب الجغرافية المدرسي. وبطبيعة الحال بعد انخراط تركيا في مشروع إسقاط النظام واحتلال أجزاء أخرى من سوريا، تراجعت الحكومة السورية عن تنازلاتها الرمزية التي تنامت فترة تطبيع العلاقات السورية التركية (2002-2010). ففي جلسة أمام مجلس الشعب السوري عام 2017، صرح وزير التربية هزوان الوز أن استبعاد لواء اسكندرون من خريطة سوريا كان «خطأ»، ووعد بأن تتم محاسبة المسؤول عنه. وبطبيعة الحال، كان المسؤول الذي لا يمكن محاسبته هو النظام الذي حسب أن إرضاء الأتراك غاية ممكنة.
قصارى القول: لم يحدث سلب اللواء فجأةً، بل خضع لعملياتٍ متدرّجة وبأنفاسٍ طويلة ومناوراتٍ سياسية ومعاهداتٍ مع فرنسا بوصفها الدولة المنتدبة والضامنة لسيادة البلد المحتل، إضافةً إلى مماطلاتٍ مع الجانب السوري وتغييرات على الأرض واجتثاث العنصر العربي وعمليات نقلٍ سكاني وطردٍ وإحلال، فضلاً عن ضغوطٍ عسكرية على الحدود، تلاه تدخّلٌ عسكري فعليّ، وتغييرات مفصلية للجهازين الأمني والإداري في اللواء. فهل يذكّر كل ما تمّ سرده آنفاً بمحنة المناطق المحتلّة في عفرين وشمال حلب ورأس العين/سرى كانيه وتل أبيض والقلق الذي قد يطاول مصيرها؟ ثم هل تتماثل الخطوات التركية وسياسات القوى الدولية في الوقت الراهن بما حصل في الاسكندرونة؟ وهل يمكن للفروقات بين حالة المناطق المحتلة حالياً وحالة الاسكندرونة أن تشكّل عاملاً يخفّف من حدّة التشاؤم إزاء مصير المناطق المحتلة في وقتنا الراهن، من ذلك ضعف أو انعدام تواجد العنصر التركي أو من ينتمون للأرومة التركية واختلاف الوضع الدولي وانتهاء حقبة ضم الأراضي بالقوة واحتلالها؟
ثمة صعوبة في إخراج الأتراك من سوريا بالوسائل السياسيّة كما بالوسائل العسكرية، في ظل انقسام السوريين وتدخّل تركيا في تجذير هذا الانقسام، ولعب تركيا الحرّ على حبال تعارض المصالح الدولية وابتزازها، وتموضعها بين صداقة الروس والتحالف مع الأمريكان تحت مظلّة حلف الناتو، وانعدام أي صيغةٍ لما يمكن تسميته «الأمن القومي العربي».[1]