وحدة الدراسات التركية
بعد اتفاق أطراف المعارضة التركية على ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو للانتخابات الرئاسية المقررة في 14 مايو/أيار، تحدث رئيس حزب المستقبل أحمد داوود أوغلو في لقاءٍ صحافي عن تبريره لدعم شخصية تقود حزباً علمانياً صلباً، فقال إن «كمال كليجدار أوغلو، يقوم بهدم وإسقاط كل ما يبدو على أنه من المحرمات في حزب الشعب الجمهوري.
«كمال بيه»، وهو الاسم الانتخابي الشائع لكليجدار لدى أنصاره وداعميه، يضع هذا التوصيف في قلب حملته الانتخابية؛ كزعيمٍ يخوض في «المساحات المحظورة» المعروفة تاريخياً في مسيرة حزبه منذ تأسيسه عام 1923 بقيادة مصطفى كمال. وهو يروج عن نفسه، ضمناً، بقيادة مسارٍ جديد في التغيير ضمن رؤيةٍ تريد في نهاية المطاف ليس فقط الوصول إلى السلطة، بل استبدال نواة الحكم من اليمين الذي حكم معظم أعوام ما بعد انقلاب 1980 وحتى اليوم، إلى «يسار الدولة».
و«يسار الدولة» ليس هو نفسه يسار المجتمع – ومن المهم هذا التمييز في فضاء اليسار السياسي – إذ أن توسيع قاعدة الحكم اليساري، في حال فوز كليجدار أوغلو، يتوقف على قدرته في إدماج فئاتٍ سياسية جديدة في النظام السياسي الجديد، وفرص نجاحه تتساوى مع احتمالات فشله.
وللمفارقة، فإن اتساع شعبية كليجدار أوغلو مرهون بمسألةٍ حساسة للغاية تاريخياً داخل حزب الشعب الجمهوري، وهو أن يكف عن تمثيل مبادئ حزب الشعب الجمهوري المعروفة. فهذا الجسم السياسي الأقدم في تركيا يعاني من جمودٍ في حجم كتلته الانتخابية، وهي بين 23 إلى 27% خلال الأعوام العشرين الماضية. طيلة هذه المدة، لم يقم حزب الشعب الجمهوري بأي «فتوحاتٍ انتخابية» جديدة، ما عدا فوزه ببلديتي أنقرة وإسطنبول، ويعود الفضل فيهما إلى توحد أحزاب المعارضة التركية، وبالتحديد حزب الشعوب الديمقراطي، لدعم مرشحي الشعب الجمهوري في خطوةٍ كانت تهدف إلى كسر سلسلة الانتصارات المتصلة لحزب العدالة والتنمية منذ 2002 حيث كادت الحياة السياسية تموت تحت وطأة «مسلسل الانتصارات» للعدالة والتنمية.
بمقدار تحرر حزب الشعب الجمهوري من الفضاء السياسي القديم (التأسيسي) للحزب، سيكسب مساحاتٍ سياسية جديدة. فأزمة الحزب، منذ إقرار قانون التعددية الحزبية عام 1946، تكمن في عجزه عن الخروج من وضعية «حزب الأقلية السياسية» باعتبار أن اليمين التركي منذ عام 1950 وحتى حقبة «العدالة والتنمية» الحالية شكل الأغلبية في الأصوات وتداول الحكم. وطيلة العقدين الماضيين، لم يقم حزب الشعب الجمهوري بشيءٍ سوى الحفاظ على موقعه ك«قائدٍ للمعارضة». وما كان لهذا الجمود أن يصبح ورطة سياسية من دون عقلية الاتحاد والترقي التي سادت في حقبة قيادة دينيز بايكال للحزب (من 1992 إلى 2010) إذ سار بايكال على نهجٍ مبتكر النسخة السائدة من «الكمالية» عصمت إينونو في القيام بوظيفة حارس النظام من موقع المعارضة. وكانت جلّ طروحات بايكال منذ 2002 هو اتهام حزب العدالة والتنمية بالتقرب من «الإرهابيين»، ويقصد بذلك فترة عرفت بإسم الانفتاح على القضية الكردية قادها أردوغان تحت عنوان الانفتاح الديمقراطي. وكان حزب الحركة القومية أقرب حلفاء الشعب الجمهوري لعرقلة مساعي أردوغان في السير بهذا الانفتاح نحو مسار جاد. فميراث الجريمة السياسية المنظمة تضرب عميقاً في ذهنية الحزبين، خاصةً الحركة القومية الأقرب إلى «غرفة الجمهورية السوداء».
الجانب الذي رفضه مصطفى كمال في الاتحاد والترقي تمحور حول ما إذا كانت تركيا التي أعلنها جمهورية عام 1923 وطناً نهائياً أم دولة مرحلية لتوحيد الشعوب التركية من الأناضول إلى آسيا الوسطى.
ولطالما كانت الجريمة المنظّمة تكويناً أساسياً في منظومة الجمهورية، ليس فقط منذ التأسيس عام 1923، إنما منذ دخول كوادر الاتحاد والترقي إلى السجون في الفترة بين 1900 – 1908. فحين خرج العديد من هؤلاء من السجون، اكتسبوا أداتين للعنف، الأولى ما تعلموه خلال السجون المكتظة بالمجرمين في أولوية العنف للنجاة، والثانية اصطحبوا معهم العديد من المجرمين من السجون إلى العمل التنظيمي. في فترة مصفطى كمال ومن جاء بعده، تم إسناد جزء من واجبات حماية الدولة إلى مجموعات ٍغير رسمية هدفها تطبيق رؤية الجمهورية. وكان هؤلاء أداة الرقابة الأكثر قسوة على المجتمع الكردي، خاصةً في المدن الكبيرة غير الكردية.
على خلاف ما هو شائع، لم يستوعب حزب الشعب الجمهوري، تحت قيادة مصطفى كمال، كل الإرث الدموي لجمعية الاتحاد والترقي، أو طروحات مفكّريها، أمثال ضياء كوك ألب. فقد كان الحزب، في جانبٍ منه، حركةً مضادة للاتحاد والترقي. وهذا الجانب يتمحور حول مساحة تركيا، وليس أسلوب إدارتها. فالاتحاديون تطلعوا على الدوام لاستعادة ما اعتبروه ممتلكات تركيا المحددة بخط هدنة 1918. حسم مصطفى كمال مبكراً الجدل حول مساحة تركيا وحدودها، وقبل بخريطة تركيا كما أقرتها#معاهدة لوزان# عام 1923 وعدّ البلد الذي خرج بموجب المعاهدة وطناً نهائياً للأتراك.
في خطابٍ ألقاه نهاية عام 1921، قال مصطفى كمال، منتقداً دعاة كل من الإتحاد الاسلامي والطورانية: «أيها السادة، نحن لسنا من الرجال الذين الذين يلهثون وراء الأوهام الكبيرة ويحتالون على عمل الأشياء التي لا يمكننا أن نفعلها في الواقع.. وبدلاً من ملاحقة الأفكار التي لم نكن ولم نستطع أن ندركها، وبالتالي يزداد عدد أعدائنا، دعونا نعود إلى حدودنا الطبيعية والمشروعة. علينا أن نعرف حدودنا» (برنارد لويس – تاريخ تركيا الحديث – ص 424).
الجانب الذي رفضه مصطفى كمال في الاتحاد والترقي يتمحور حول ما إذا كانت تركيا التي أعلنها جمهورية عام 1923 وطناً نهائياً أم دولة مرحلية لتوحيد الشعوب التركية من الأناضول إلى آسيا الوسطى. فقطع مصطفى كمال الصلة مع الطورانية، في هذه النقطة، من أجل المحافظة على دعم الاتحاد السوفييتي له، لكنه استمر في برامج الهندسة الاجتماعية عبر استكمال برنامج تهجير الكرد من شمال كردستان الذي تم اعتماده من قبل الاتحاد والترقي بعد استكمال الإبادة ضد الأرمن.
لذلك، من مبادئ حزب الشعب الجمهوري الحفاظ على تركيا كما حددتها لوزان، وليس توسيع حدودها. وإذا ما قارنا الطروحات السائدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وما يجري اليوم، فإن الحزب الأكبر الذي يمثل ذهنية الاتحاد والترقي في الوقت الحالي هو حزب العدالة والتنمية. وبينما اختص حزب الشعب الجمهوري بتبرير الجريمة المنظمة داخل حدود تركيا، من انتفاضة الشيخ سعيد عام 1925 إلى ثورة ديرسم عام 1937، والتحريض على أي انفتاح سياسي على القضية الكردية، فإن «العدالة والتنمية» أخرج ذهنية الجريمة من داخل حدود تركيا وقاد حملة احتلال مناطق واسعة في سوريا والعراق، معظمها من الأراضي الكردية، وفعل في عفرين وسري كانيه وغيرها من المناطق المحتلة ما كانت تفعله «دولة حزب الشعب الجمهوري» في شمال كردستان خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
يحتدم الصراع في تركيا. والانتخابات المقبلة هي الفيصل بين رؤيتين لهما امتدادٌ في التاريخ بين من يريد «تركيا اللوزانية» ومن يريد توسيعها على جماجم الكرد داخل وخارج تركيا ليحصل على النسخة الطورانية من حدود الميثاق الملي.[1]