باسم فرنسيس صحافي
يحتفي الأكراد حول العالم بعيد#نوروز# في واحدة من أهم مناسباتهم القومية، وسط تقاليد وطقوس تراثية بهيجة تتزامن مع احتفالات مماثلة تحييها شعوب وقوميات وإثنيات مختلفة في أجزاء من القارة الآسيوية، فما هي خصوصية الطقوس والتقاليد التي لا يزال يحتفظ بها الأكراد؟ ولماذا تختلف قراءتهم للميثولوجيا والتاريخ عن بقية الشعوب التي تشاركهم هذا الاحتفال؟
ينتشر الشعب الكردي في معظمه بين بلدان العراق وإيران وتركيا وسوريا، ويعتبر نوروز أو النيروز والنوريز، وهو اسم مركب ومعناه اليوم الجديد، عيداً قومياً يحمل معاني ودلالات رمزية، وهو بمثابة رأس السنة وفق التقويم الشمسي الذي بلغ اليوم 2635 عاماً، كما يعرف أيضاً برأس السنة الفارسية ويتوافق مع يوم الاعتدال الربيعي، أي 21 من مارس (آذار) في التقويم الميلادي، كما يعتبر أحد أقدس الأيام في التقويم الزرادشتي القديم.
أسطورة أم تاريخ؟
الأكراد ليسوا الشعب الوحيد الذي يحتفل بهذه المناسبة، إذ يشاركهم عدد من الأقوام والشعوب القاطنة في منطقة الشرق الأوسط وكذلك في آسيا الوسطى والصغرى، وأبرزها الشعوب الآرية مثل الفرس إلى جانب الأذريين والبشتون، وكذلك شعوب في منطقة القوقاز والقرم وصولاً إلى مناطق شمال غربي شبه القارة الهندية، لكن هناك اختلافاً بين هذه الشعوب في تفسير أصل المناسبة وفقاً لاعتقادات وسرديات دينية وقومية على رغم التشابه حول ما تحمله من معاني وطقوس مشتركة، كونها تمثل بدء دورة حياة جديدة وتحقيق الحرية والانتصار على الظلم.
ويختلف الباحثون والمؤرخون حول الحقائق التاريخية في أصل القصة وحيثياتها، ففي الموروث الشعبي وفي الأدبيات الكردية تمثل شخصية البطل كاوه الحداد الأسطورية المحور الرئيس في معاني هذا العيد، وتنسب له واقعة الثورة على الظلم، عندما انتفض ضد السلطان المستبد ضحاك أو آزادهاك وزوهاك بالكردية، ثم أوقد ناراً هائلة تعبيراً عن إعلان الانتصار.
لكن أوساطاً أدبية ترفض صحة هذه القصة كونها مستقاة من ملحمة الشاهنامة للشاعر الفارسي الفردوسي، وترجع المناسبة لواقعة تحالف الميديين الكرد بقيادة كي إخسار مع الكلدانيين ضد ظلم الإمبراطورية الآشورية التي نجحوا في إسقاطها ليتحقق عهد جديد من الحرية، في حين ترجعه مصادر أخرى إلى عصر الحضارة السومرية، استناداً إلى توافق بداية تاريخ تقويمها مع التقويم الكردي مع التشابه الكبير في الطقوس، واستدلالاً بشواهد أثرية على وجود السومريين في المناطق الكردية.
ولأهمية هذا العيد الذي يحتفل به نحو 300 مليون شخص حول العالم، أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) في قائمتها للتراث الثقافي غير المادي بوصفه يمثل قيمة عالمية للإنسانية، كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قراراً في 2010 باعتبار يوم ال 21 من مارس يوم نوروز الدولي للسلام.
ويقدم موقع يونيسكو تعريفاً لهذا العيد بوصفه تقليداً تاريخياً يعود لأصله إلى نحو القرن السادس قبل الميلاد معلناً بداية سنة جديدة، وحلول الربيع وولادة الطبيعة من جديد، ويتمثل في مجموعة من الطقوس والأعياد القديمة في عدد من البلدان الواقعة بمحاذاة طرق الحرير.
تتنوع الطقوس الاحتفالية باختلاف عادات وتقاليد الشعوب المعنية، وقد اندثرت بعضها مع مرور الوقت لكنه يحمل مكانة خاصة لدى الأكراد من الجوانب السياسية والاجتماعية، فهو مناسبة للتذكير بحلم استقلال شعب يرى أنه كان ضحية لاتفاقات الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى عندما قسمته إلى أربع دول ضمن خطة إعادة رسم الحدود في المنطقة على إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية.
ويرى الأكراد أنهم أكبر شعب في الشرق الأوسط يتخطى تعداده 30 مليون نسمة ويعيش على أرضه التاريخية من دون دولة.
ونتيجة لنزعتهم الاستقلالية في وطن موحد خاضوا مع الحكومات المركزية في الدول الأربع نزاعات مسلحة، وغالباً ما كانت تتهمهم تلك الحكومات بتهديد وحدة أراضيها، وتبدأ مظاهر طقوس الاحتفال في ليلة ال 20 من مارس، ويمثل إيقاد النيران والمشاعل على قمم الجبال والمرتفعات والساحات العامة من أبرز تلك الطقوس، فهي تجسيد لقصة المنتصر كاوا الحداد على الظلم، ويحتفل بعض الأكراد أيضاً كما الإيرانيين قبل حلول العيد بما يعرف ب جوار شنبه سور أي الأربعاء الأحمر، إذ يشعلون النار ويقومون بالقفز من فوقها، وفي السنوات الأخيرة أصبح قضاء عقرة التابع لمحافظة دهوك محط الأنظار، إذ تنظم سلطات إقليم كردستان العراق شبه المستقل عن بغداد مهرجاناً سنوياً يصعد فيه المئات من الشبان في المساء إلى الجبل المطل على البلدة التاريخية، حاملين مشاعل وأعلاماً كردية في جو احتفالي بهيج.
في أحضان الطبيعة
أما في مراكز المدن فإن المواطنين يتجمهرون في الحدائق والساحات لإلقاء الخطب قبل إيقاد شعلة النار، ثم يبدأ المشاركون بالرقص في حلقات بشرية تتشابك فيها الأيدي على أنغام الأغاني الكردية الإيقاعية، وتقام أيضاً أنشطة ثقافية ورياضية متنوعة.
ومع حلول صباح العيد تبدأ العائلات بالتوجه نحو البرية والمناطق الجبلية الخضراء ذات الطبيعة الخلابة التي تتسم بها المناطق الكردية، مصطحبين معهم الأطعمة وكل ما يلزم لقضاء يوم حافل، ويمكث بعضهم إلى ساعات متأخرة من الليل.
ما إن تختار كل عائلة أو مجموعة مكاناً للاحتفال كأن يكون تحت ظل شجرة أو بين الأحراش والأراضي الخضراء المستوية، تبدأ النساء بفرش الأرض تحضيراً لتقديم الأطعمة المنوعة منها التقليدية والعصرية وأشهرها طبخة الدولمة أو يابراخ وهي عبارة عن ورق عنب ملفوف محشي بالرز واللحم، فيما يعكف الرجال على تحضير الفحم لشواء اللحوم ويكون لمنظر السماوار نكهة خاصة، وهو وعاء معدني شهير يستخدم لغلي المياه ويوضع فوقه إبريق الشاي، وهو منتشر لدى الشعوب الإيرانية والروسية.
يضفي الزي القومي التراثي جمالاً فريداً لمظاهر الاحتفالات، إذ يرتدي الرجال سروالاً فضاضاً يطلق عليه بالكردية الشروال، وسترة تعرف بجوغه، وقماشاً طولياً يلف حول الخصر ويسمى بشدين، فضلاً عن الجمدان وهي قبعة من الشماغ تتخذ في العادة شكلاً دائرياً وحذاء تراثياً مصنوعاً من القطن الأبيض يسمى كلاش.
كما تطغى الألوان الزاهية على الزي النسائي الذي يتألف من فستان طويل مطرز يصل إلى أخمص القديم وأكمام طويلة متدلية من اليدين وفوقه سترة بطول مماثل أو تكون قصيرة لا تتجاوز منطقة الخصر، وبعضهن يرتدي قبعة مطرزة بقطع معدنية مطلية إما بلون ذهبي أو بلون آخر بحسب الأذواق، ويفضل بعض النساء ارتداء أحزمة تكون أحياناً مصنوعة من الذهب أو من معادن أخرى أقل كلفة بحسب القدرة الشرائية
ويتمايز الزي الكردي عموماً باختلاف الانتماء العشائري والمناطقي، وقد طرأت عليه خلال العقدين الأخيرين بعض التغييرات والتصاميم الجديدة التي تستهوي الفئات الشابة.
ويحتل الطرب والغناء الكردي الفلكلوري حيزاً رئيساً في الاحتفال، فهناك ألحان وأغان ملحمية وعاطفية تضفي على الأجواء طابعاً ممزوجاً بالأمل والتفاؤل والحماسة معززة روح الانتماء القومي والوطني، وتمثل أغنية نوروزه التي غناها قبل أكثر من نصف قرن المطرب الراحل حسن زيرك من كلمات الشاعر الكردي الكبير بيره ميرد ضمن ملحمة كتبها في مطلع القرن ال20، إحدى أيقونات العيد بخاصة لدى السكان الناطقين باللهجة السورانية، وتقول مقدمتها اليوم هو بداية سنة جديدة وقد حل نوروز العيد الكردي العريق بالفرح والخير، وتختتم بالدعوة إلى عدم البكاء على الشهداء لأنهم يبقون أحياء في القلوب، كما للناطقين باللهجة البهدينانية أغان مماثلة.
وللأغاني الكردية التراثية الإيقاعية السريعة سمة بارزة، إذ يتشارك النساء والرجال في أداء الدبكات المعروفة، مشكلين صفاً نصف دائري ويحمل أحدهم من جهة اليسار قطعة قماش ملونة ويسمى سار جوبي، في ما يختار بعضهم الرقص منفرداً في المنتصف، وقد تختلف الدبكات بحسب المنطقة واللهجة.
وعلى الصعيد الرسمي تتخذ السلطات حزمة من الإجراءات والاستعدادات، وتعلن في وقت باكر عن مدة العطلة الرسمية في جميع المؤسسات، إذ تصل أحياناً إلى نحو أسبوع في حين تطلق الحكومات المحلية برامج لإقامة المهرجانات والندوات في مختلف الأنشطة الثقافية والرياضية، مثل إقامة المارثون والمعارض الفنية وعروض خاصة بالأطفال والأعمال اليدوية وتلك المتعلقة بأطباق من الأطعمة الكردية التقليدية، فضلاً عن استعراض أفلام سينمائية ومسرحيات كردية قبل أن تختتم المهرجات ليلة ال 20 من مارس بإيقاد شعلة النار.
للعرب حضورهم أيضاً
الاحتفال بالمناسبة لا يقتصر على الكرد، فقسم كبير من العراقيين العرب يقصدون المناطق السياحية في الإقليم للمشاركة في مظاهر الاحتفال ولقضاء أوقات ممتعة، وغالباً ما يواجهون مشقة في الحصول على الحجوزات الفندقية بعد نفادها قبل موعد حلول العيد، وتشير بيانات هيئة السياحة في الإقليم إلى دخول ستة ملايين سائح معظمهم من العراقيين العرب خلال العام الماضي وحده، وكشفت الهيئة عن اتخاذها هذا العام إجراءات من شأنها تسهيل دخول السياح عبر المنافذ ونقاط التفتيش تجنباً لحصور طوابير وانتظار ساعات طولية كما كان يحصل في السنوات السابقة.
يقول الحاج خضر عبدالله (17 سنة) متحدثاً عن ذكرياته مع أعياد نوروز، إن بعض العادات والتقاليد قد تغييرت مع تقدم العصر، أتذكر في ريعان شبابنا كانت الأغلبية تعتمد في معيشتها على الفلاحة، وبسبب العوز كان من الصعوبة على كثيرين أن يشتروا ملابس جديدة.
وأضاف أن وسائل النقل العصرية كانت محدودة، لذا كانت الدواب كفيلة بتولي مهمة نقل الأمتعة إلى أمكنة قد لا تكون بعيدة كما يجري اليوم، وكنا نكتفي بما يتوفر من أطعمة بسيطة ونفترش الأرض قبل ثم تبدأ الجلسة بالاستماع والتفاعل مع من يجيد الغناء، وتجري المنافسة على من يقدم أداء أفضل، فأجهزة تشغيل الموسيقى لم تكن في المتناول.
وختم قائلاً على رغم ما يتوافر اليوم من وسائل للراحة فإن متعة تلك الأيام، إذ بساطة الحياة لها مكانة في ذاكرتي.
ويقدم المواطن سرهنك فتاح نظرة متفائلة حيال الاحتفاظ بتقاليد الاحتفال، ويقول في زمن نظام حزب البعث كنا نتحدى إجراءات السلطة لمنع الاحتفال، ونقوم بجمع ما يتوافر من مواد قابلة للحرق مثل إطارات السيارات ونشعلها احتفالاً بالمناسبة، مضيفاً ذلك النظام حاول بشتى الوسائل محو هويتنا وقد اختلق تسمية عيد الربيع وأعلنها عطلة في يوم نوروز نفسه.
وحول الطقوس يقول على رغم مضي عشرات القرون على تاريخ هذه المناسبة فإن التقاليد الرئيسة منها لا تزال تمارس، من إشعال للنار وارتداء الملابس التقليدية وحتى الفنون، مردفاً هذا إرث ثقافي يعتز ويتمسك به كل مواطن كردي، فهو يعكس هويتنا كشعب عريق يتوق إلى استعادة حقوقه التي حرم منها عبر التاريخ.[1]