سهيل الزهاوي
إنّ تاريخ كردستان لم يعرف نزوحاً جماعياً لشعبنا الكردي، بهذا الحجم، حيث نزح نحو مليوني مواطن من كوردستان الجنوبية، نساءا ورجالا ، شيوخا واطفالا، الى الحدود العراقية مع كل من ايران وتركيا في 31 -03-1991،سيراً على الاقدام.. قاطعين مئات الكيلومترات في أراضي جبلية وعرة، حيث عانوا من البرد والجوع،هرباً من بطش الطاغية المقبور صدام وأزلام نظامه، بعد ان جمع قواته المهزومة في الكويت، وتمكن من قمع الانتفاضة في الجنوب، وفيما بعدها وجه قواته نحو المدن الكردستانية المحررة اثر انتصار انتفاضة آذار المجيدة في 31 -03- 1991 حيث اصبحت القوات الصدامية على مشارف السليمانية بعد ان تمكنت من السيطرة على مدينة كركوك واربيل.
وقد قام وفد من قيادة محلية السليمانية للحزب الشيوعي العراقي حشع، مساء 31 -03-1991، مكونة من الرفقين سهيل الزهاوي سكرتير محلية السليمانية وحمة رشيد قرداغي عضو المحلية بزيارة الى بناية دارالثقافة، للقاء مع قيادات الاحزاب الجبهة الكردستانية لدراسة الوضع الامنى في المدينة واتخاذ قرار بشأنها، وكان حاضراً هناك الفقيد جلال الطالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني،ورئيس جمهورية العراق لاحقا، وكان على اتصال مباشر بالولايات المتحدة الامريكية في تلك الليلة، وكذلك السيد نيجرفان البارزاني رئيس وزراء الاقليم الحالي ، مع كوادرمن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وآخرين منهم السيد فريدون عبد القادر عضو المكتب السياسي لأوك في حينها، والسيدة هيرو ابراهيم احمد عضوة المكتب السياسي لاتحاد ، وبعد مداولات مع السيد فريدون عبد القادر،علمنا انه اتخذ قرار الانسحاب من مدينة السليمانية وفي هذه الاثناء دخل رفاقنا الشيوعيين من طاسلوجة الى القاعة وافادوا بأنهم القوة الوحيدة الموجودة هناك في مقاومة القوات الحكومية.. لذلك قررت قيادة المنظمة الانسحاب باتجاه شرق المدينة والتوجه الى مدينة حلبجة .
والجدير بالذكر ان قوة من بيشمركة حزبنا الشيوعي ، قاومت على مشارف السليمانية في طاسلوجة في (31 -03- 1991) الى ساعة متأخرة من الليل في محاولة لصد القوات الصدامية ومنعها من الدخول لمدينة السليمانية وقد جرح احد رفاقنا في هذه المعركة.. كما جرح الرفيق رحمن غريب في معركة كركوك .
في مساء 31-03-1991 .. بدأ مئات الآلاف من جماهير السليمانية من مختلف الاعمار بالتحرك والمغادرة نحو المجهول تاركين املاكهم ودورهم متحملين قسوة الظروف والجوع بشكل جماعي ورفضوا البقاء و الانصياع للسلطة الصدامية .. وكان هذا بحق استفتاء من الشعب برفض العيش في ظل حكومة بغداد.
في مساء 31 آذار، تم ارسال كافة الرفاق والبيشمركة وقبلها ارسلت ممتلكات الاعلام الضرورية الى مدينة حلبجة ، وفي الساعة الخامسة من صباح الاول من نيسان من نفس العام توجه كل من كاتب السطور مع الرفاق حمة رشيد قرداغي والرفيق دلير جلال، واحد الرفاق البيشمركة لا اتذكر اسمه، الى عربت عن طريق قرية قركة مشياً على الاقدام، في الوقت الذى كانت طائرات الهليكوبتر الحربية، تجوب سماء السليمانية، بعد ان شرعت القوات الحكومية بالهجوم على المدينة.. استقرت قواتنا في حلبجة في ذلك اليوم.
في بداية نيسان اتصل بيّ في حلبجة، السيد تحسين قادر الكادر القيادي في أوك ووزير الصناعة لاحقاً في حكومة الاقليم ، مشيراً الى ان السيد جلال الطالبنى قد ارسل عدة برقيات، يطلب ان تتوجه قوة من حزبنا الى جبل ازمر لتعزيز قواتهم من أجل ردع ومقاومة الهجوم المعادي هناك .
مع بدأ الهجوم على جبل ازمر من قبل قوة كبيرة للقوات الصدامية ، كانت القوات التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، القوة الوحيدة التي تصدت للهجوم لأكثر من عشر ايام متوالية، وكان عددهم قليل لا يتجاوز على 28 بيشمركة بقيادة الفقيد جبار فرمان عضو المكتب السياسي لأوك، ورغم الامكانيات الهائلة التي تم حشدها من قبل القوات الصدامية، تمكنت هذه القوة الصغيرة من صد المهاجمين و إعادتهم إلى الخطوط الخلفية و لم يتمكنوا من احتلال الجبل.
تحركت قوة من حزبنا من حلبجة متوجها نحو ازمر حال وصول الخبر. وفي يوم 12 نيسان عقد اجتماع حضره من اوك الفقيد السيد جبار فرمان، ومن الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، السيد درويش عبد الرحمن اغا، عضو اللجنة المركزية لحدك، ومن حزبنا الشيوعي، كاتب السطور والرفيق حمة رشيد قراداغي وتم الاتفاق على ارسال (30)، بيشمركة من كل حزب لأخذ مواقعهم في جبل ازمر.
وفي ذلك اليوم كانت المعركة على اشدها .. وحدث قتال مستميت رغم القصف المدفعي للعدو وتواصل رشق قنابل الهاون من الجيش الصدامي على الجبل محدثة دوياً مستمراً وبدأ الموقف الدفاعي يواجه كثافة النيران وصمد البيشمركة في مواجهة الخضم..
وعندما تقدم البيشمركة نحو الجبل، كان يسيطر عليهم شعور واحد هو الصمود في المعركة الدفاعية وانعكس غضب المقاتلين على العدو وصمموا على مواصلة القتال و الاستشهاد .. وفي اللحظات الاولى من القتال وقع الرفيق ئاكو ابراهيم شهيداً وجرح رفيقين من بيشمركة حزبنا، وفي نفس اليوم استشهد الرفيق زانا عثمان في مكان آخر من جبل ازمر بقصف طائرة هليكوبتر.. كما جرح اربعة من الكوادر العسكرين لحدك على قمة الجبل وهم فاضل رؤف سالح مسؤول قوة حدك في ازمر آنذاك ، محمد مام علي، نقيب ارسلان حمة ئه مين ، و العميد سرحد قادر . وكان مسؤول قوة حزبنا الرفيق دلير جلال والمشرف على القوة الرفيق حمة رشيد قرداغي .
بتاريخ 13 نيسان اقترح حزبنا على قوات الجبهة الكردستانية ارسال مفرزة مشتركة لضرب الربيئة المساند للقوات الحكومية في اسفل الجبل لبث الرعب في نفوس المهاجمين، وتم الاتفاق على ارسال مفرزة مشتركة تشكل قوامها انصار وبيشمركة .. اوك ، حدك ، وحشع ، وحدد موعد الهجوم في الساعة الثامنة من مساء نفس اليوم، وتوجهت المفرزة نحو الربيئة ولم تنفذ العملية بسبب تردد بيشمركة اوك وحدك و قامت القوات الحكومية في الساعة الثانية من صباح يوم 14 نيسان بقصف مدفعي شديد على جبل ازمر.
ان المقاومة البطولية التي ابدتها قوات البيشمركة لكسب الوقت وتحقيق هدف سياسي اسفرت عن وقف تقدم القوات الصدامية في كافة انحاء كردستان.. وكانت عاملاً هاماً في انجاح الهدنة بين الطرفين.
في صباح يوم 15 نيسان وصل وفد مشترك من حدك واوك عائداً من بغداد وابلغونا بوجود مفاوضات بين الجبهة الكردستانية وبغداد واتفاق على الهدنة بين الطرفين.
ان قيادة الجبهة الكردستانية عملت على ثلاثة محاور بعد ان بدأت السلطة الصدامية بحملة مضادة لاستعادة المناطق المحررة بدءً من كركوك ثم اربيل و السليمانية ودهوك :
اولا : كسب عطف الرأي العام العالمي للضغط على الامم المتحدة لاتخاذ قرار لصالح الشعب الكردي بعد الهجرة المليونية لجماهير كردستان.
ثانيا : التصدي العسكري للقوات الصدامية المهاجمة على المناطق التى لازالت باقية تحت سيطرة قوات الجبهة الكردستانية.
ثالثا: الدخول في المفاوضات مع سلطة صدام لكسب الوقت.
معركة جبل ازمر تعتبر من المعارك التى تصدت قوات البيشمركة فيها من مختلف احزاب الجبهة الكردستانية للقوات الصدامية في كافة انحاء كردستان.. حددت مسار ونتائج المجابهة مع السلطة التي استهدفت اضعاف قدرات قوات البيشمركة وسعت للسيطرة على اكبر مساحة من كردستان، وفرض شروطها على القيادة الكردية التى دخلت المفاوضات معها.
تناقلت وكالات الانباء العالمية انباء الكارثة والويلات التي حلت على ابناء شعبنا الكردي الصامد بعد ان رفض الخضوع للحكم الدكتاتوري والعيش في ظله ، واستطاع بصموده البطولي كسب عطف الرأي العام العالمي وتأييده.
وفي 5 مايس من نفس العام صدر قرار مجلس الامن الدولي المرقم (688) حيث أدان المجلس القمع و طالب بأن يضع العراق،كمساهمة في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن حداً للقمع، ويحترم الحقوق الإنسانية لشعبه.
وأصرّ المجلس على أن يسمح العراق بوصول المنظمات الإنسانية الدولية إلى المناطق المتضررة، وطلب من الأمين العام أن يقدم تقريراً عن السكان العراقيين والأكراد المتضررين من قمع السلطات العراقية، باستخدام جميع الموارد الممكنة لتلبية احتياجات السكان.. كما طلب من العراق التعاون مع الأمين العام والمنظمات الدولية للمساعدة في جهود المعونة الإنسانية.
وفي أعقاب صدور القرار استخدمت قوات التحالف.. قرار 688 وفرضت اجراءات تطبيقه وتنفيذه بالقوة، وحدت من ممارسات نظام صدام في كردستان ، وكذلك ضد الشيعة في الجنوب ، و قامت فرنسا و بريطانيا وأميركا بإنشاء منطقة آمنة شمالي العراق في الفترة من 17 - 23-04- 1991 . كما فرضت حظراً جوياً عراقياً عند خط عرض 36 شمالا و تمركزت الطائرات المنفذة للحظر في قاعدة أنجر ليك التركية ومقر الامم المتحدة في زاخو ومطار بامرني بالقرب من سرسنك .
وهكذا بدأ الملايين من المهجرين بالعودة الى مساكنهم بعد ان نهب الجيش ممتلكاتهم ونقلها الى المدن خارج منطقة اقليم كردستان ..
وكانت نهاية المطاف بعد ذلك خروج الإدارات الحكومية العراقية في أكتوبر 1991 من مدن أربيل والسليمانية ودهوك لتشهد هذه المدن فراغاً حكومياً تم تعويضه بإدارة مشتركة من قبل احزاب الجبهة الكردستانية لغاية مايو / أيار 1992 حيث جرت أول انتخابات تشريعية لبرلمان كردستان في يونيو/حزيران 1992.[1]