سهيل الزهاوي
بدأ الاحتلال العثماني للعراق منذ عام ( 1513) بعد أن استولى السلطان سليم الأول على شمال العراق. استخدموا الموصل كمركز لانطلاقهم لاستكمال احتلال بقية العراق . ولم يتم لهم ذلك حتى عام 1638، بسبب الصراع العنيف بينهم وبين إيران، مما سبب دمار لاقتصاديات البلاد.
ان تاريخ العراق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الدولة العثمانية ، ولا يمكن النظرالى هذه البلاد بمعزل عن التاريخ العام للإمبراطورية العثمانية. فقد كان السلاطين في الدولة العثمانية وولاتهم ، الذين ينفردون بالحكم المطلق في الأقاليم الخاضعة لسلطتهم ... محتفظين بالنظام الاجتماعي الذي كان يسود الشعوب الخاضعة وقت أن احتلوها.
وقد قاسى شعب العراق من الظلم والاستغلال العثماني طيلة اربعة قرون، لينتقل الى ظلم الدول الرأسمالية الاوربية. ففي أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن التاسع عشر، أخذت الأوساط الاستعمارية البريطانية بتوسيع تجارتها و ازداد طموحها للسيطرة على سوريا و لبنان والعراق لأنها كانت على طريق الهند.
ثم بدأ الاحتلال البريطاني للعراق منذ أواخر عام 1914 بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى واستطاعت بريطانية احتلال بغداد في 11 آذار 1917 بقيادة الجنرال مود بعد أن دارت معارك عديدة في مناطق مختلفة بين القوات البريطانية و القوات التركية المنسحبة.
لقد سعت رؤوس الاموال الاجنبية لفرض سيطرتها التامة على اقتصاد البلاد ... وحصلت على أرباح طائلة عن طريق نهب ثرواتها الوطنية والاستغلال لقوتها البشرية، وبهذا تعرض نموها الاقتصادي للتعطيل والتشويه.
وفي أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، كان العراق يعيش مرحلة انتقال صعبة و معقدة فيها أنماط متعددة، وكانت مسرحا لفعل قوانين اقتصادية موضوعية منبثقة عن علاقات انتاجية مختلفة، بعضها سائرة نحو الزوال واخرى جديدة. فقد وجد في العراق:
- بقايا علاقات بطرياركية - أبوية - علاقات الإنتاج الطبيعي الموجه لأغراض الاكتفاء الذاتي.
- العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية.
- علاقات إنتاجية رأسمالية في المشاريع الاقتصادية للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية تعمل بالأساس لخدمة التجارة الخارجية والنقل.
كما نمت في الوقت نفسه وبشكل بطئ ، علاقات انتاجية بسيطة في المدن والمناطق الريفية القريبة منها أدت السيطرة العثمانية على العراق طوال أربعة قرون إلى تدهور الإنتاج الزراعي وتركيز الاهتمام على جباية الضرائب بمختلف الوسائل المتعسفة.
لقد كانت الأكثرية من سكان العراق من الفلاحين والرعاة ، الرحل وشبه المتوطنين، ينتقلون من مكان إلى آخر خوفا من بطش السلطة،ومن أجل الماء والعشب . وعملت السلطة بكافة الوسائل على اضعاف نفوذ الامراء وكبار رؤساء القبائل،بوضع بعضهم بوجه بعض الآخر. ونجم عن هذه الدسائس و الأساليب الصدامات المسلحة بين القبائل و أريقت فيها دماء كثيرة.
كان هم العثمانيين الوحيد هو جمع الضرائب وإنفاقها على الجهاز الإداري التركي والجيش وفي المجالات التي تحددها السلطة المركزية. ولا يرصد من هذه الضرائب التى تجبى في العراق سوى جزء ضئيل لأغراض لها علاقة بالزراعة أو الاقتصادي في العراق ككل.
في عام 1911بلغت ريوع ممتلكات الدولة (2،4) مليون روبية، بينما بلغت الضرائب المباشرة 9،4 مليون روبية جاء ثلثها من قطاع الزراعة (1)
وفي الوقت الذي كان الفلاحون يستخدمون الأدوات الزراعية المتأخرة ولم يحدث أي تطور في نظام الري حيث بقي على ما عليه منذ القرون الوسطى، فقد أدى ذلك الى الجفاف الشديد في الأراضي الزراعية في الفترات الى كانت تنحسر فيها المياه في الانهر، مؤديا ذلك الى العديد من حالات المجاعة في البلد. (2)
تميزت المناطق الجنوبية في العراق بسيادة العلاقات الأبوية القائمة على استغلال الأرض بشكل جماعي من قبل افراد القبائل وقد سعى شيوخ القبائل للاستيلاء على أراضي المشاعات الفلاحية ، و ساندت السلطات التركية هذه المحاولات من جانبها لتعزيز سلطتها في تلك المناطق أن الامتيازات التي حصل عليها شيوخ العشائر قد جعلتهم متميزين عن بقية أفراد عشائرهم ، كحقهم في الاستيلاء على قسم من اراضي المشاعية واستخدامها لرعي ماشيتهم أو منحه الى افراد عشيرة اخرى لاستغلاله بشكل مؤقت ... وفرض الإتاوات على أفراد العشيرة والاستيلاء على خمس الغنائم التي يحصل عليها أفراد القبيلة ...عند غزوهم لقبيلة اخرى، اضافة الى استيلائهم على ضريبة الخوة التي تؤخذ من القبيلة المغلوبة عسكريا أثناء الحروب العشائرية والتى تجمع باسم افراد العشيرة.غير أن المستفيد الوحيد من الخوة هو رئيس العشيرة نفسه.
ولم يقف رؤساء القبائل عند هذا الحد من استغلال أبناء قبائلهم بل امتد الى الفلاحين المستقرين و فرضوا عليهم و فرضوا عليهم ضريبة الخوة بدعوة حمايتهم من غزوات القبائل الأخرى. وكانت نسبة هذه الخوة تتراوح ما بين (50-87%) من المحصول. هكذا، ومن خلال هذا التسلط، تحول رؤساء القبائل إلى إقطاعيين مستبدين.(3)
وابتدع الإقطاعيون ضرائب جديدة حيث فرض غرامة على الفلاحين ممن يتأخرون في دفع الضريبة، تسمى (الاودة) وهي أن ينزل اتباع الإقطاعيين ضيوفاً ثقلاء على الفلاحين لفترة ... قد تصل الى ثلاثة ايام او اكثر حتى يقنعونهم بدفع الضريبة أي أنهم لا يسافرون إلا اذا دفع الفلاح ما عليه (4).
وفي ظل الاحتلال التركي الثالث للعراق (1831 - 1914) تكون الإقطاع من ملتزمي جباية الخراج لخزينة الدولة لقاء عمولة تقارب (12،5% من ريع الأراضي الخراجية) (5) .
وكانت الأراضي توهب وتباع في عهد ولاية كل من (داود باشا) و (علي رضا باشا)،فيستحوذ أحفاد الموهوب لهم أو المشترين على مساحة شاسعة من الأراضي ويجري البيع والشراء عرفيا خارج دوائر الدولة (6) .
ومنذ عام 1861،حقق العثمانيون نجاحات معينة في تحويل قسم من القبائل شبه المستقرة الى مجاميع متوطنة حتى جاء (مدحت باشا) عام 1869، فشرع تطبيق قانون الأراضي العثمانية على العراق، بعد أن ظهر أن الاضطهاد وحده غير كافي لمقاومة القبائل وتصفيتها. فبدأ بيع الأراضى بيعا قانونياً و بأقساط بخسة نسبياً و لآماد طويلة إلى الأصحاب السابقين من مالكي الأرض حاملي السندات المشكوك فيها والى الزعماء ورؤساء القبائل المتنفذين على أساس وثائق خاصة دعيت بال (طابو). أي أن المالك الجديد أصبح له الحق التصرف في الأرض مع بقاء رقبتها بيد الدولة (7).
وكان الهدف الأساسي للدولة العثمانية في انتهاج هذه السياسة … هو تفكيك القبائل من خلال استيطانها وتشجيع الزراعة وحماية الطرق التجارية وإضعاف نفوذ الزعماء ورؤساء القبائل .... وبالتالي تعزيز السلطة المركزية ليسهل عليها جمع الضرائب.
ونظراً لفساد الموظفين واعتيادهم الرشوة ، فقد حدث مخالفات عديدة لتطبيق القانون وغالبا ما اعطيت الى اشخاص سندات التملك لاراضي كان يملكها آخرون واراضي يشك في موقفها الحقيقي او ليس لها حدود واضحة ، وبذلك أصبح بحوزة هؤلاء الاشخاص مساحات شاسعة من الأرض وادى ذلك الى حرمان مشغليها الحقيقين منها. اضافة الى ذلك تردد أفراد القبائل في شراء السندات ... مما افسح المجال امام المتنفذين في الدولة وجهاء المدن لشراء الأراضي لقاء سندات الطابو، ونجم عن ذلك تكون عدد كبير من الملاكين البعيدين عن الأرض وفلاحيها، من سكنة المدن (8).
إذا كان تنفيذ قانون الأراضي العثمانية ادى الى زوال النظام العسكري ... تدريجياً ونشوء طبقة جديدة من الإقطاع العشائري من رؤساء القبائل ووجهاء المدن ورجال الدين، وتقوية نفوذ الملاكين القدماء، فقد أدى الى تمزيق القبيلة باعتبارها منظمة موحدة واضعفت العلاقات الأبوية التي تعتبر أساس الوحدة السياسية للقبيلة ... وخاصة في المناطق القريبة من المدن، ونشأ بدل من ذلك نوع جديد من العلاقة يعتمد على المصالح الطبقية و الاقتصادية في القبيلة وتحول شيوخ القبائل إلى إقطاعيين و بسطوا نفوذهم السياسي على أفراد قبائلهم الذين تحولوا إلى فلاحين أو رعاة باستخدام القوة ضدهم.
وهكذا نشأت عوائل اقطاعية في جنوب العراق تملك أصقاعاً واسعة من الأرض . وتركز في ايدي شيوخ آل سعدون حتى أوائل القرن العشرين غالبية الأراضي و في ضفتى الغراف في اطراف لواء الناصرية الى سوق الشيوخ وكذلك في لواء البصرة ، تلك الأراضي التى كانت مستغلة من قبل مئات الألوف من قبل أبناء القبائل سابقا (9) .
أما المدن الكبيرة كالبصرة وبغداد والموصل، فقد سادت فيها حيازات كبيرة للأراضي من قبل الإقطاعيين ، بحيث بلغت حيازة اثنى عشرة فقط من كبار الاقطاعيين في منطقة شط العرب ... من (160) الى (400) هكتار أو أكثر من أخصب بساتين النخيل وكانت بساتين ديالى ملكا لبعض العائلات من أثرياء الإقطاعيين الذين يقطنون بغداد. كما احتفظت الدولة العثمانية والاقطاعيون المحليون بملكيات الري في البلاد (10).
لم تكن حيازة الاقطاعيين على مساحات هائلة من الأراضي تضمن لهم القوة الاقتصادية والسلطة السياسية في الريف فحسب، بل كان في أيديهم القسم الأكبر من الخيرات المادية الذي يخلقها الجيش المكون من الفلاحين والرعاة. وبذلك امسك الإقطاعيون في قبضتهم السلطة التنفيذية والتشريعية و القضائية.
لم تستطع الحكومة فرض حق التملك بشكل كامل نتيجة للمقاومة الباسلة التي أبداها أفراد القبائل في معظم مناطق العراق ضد اجراءات السلطة. لم يعترفوا أبدا بالملاكين الجدد و احجموا عن دفع الضرائب ونشبت بسبب ذلك العديد من الانتفاضات ضد القطاع (11) . مما دفع السلطات التركية الى جمع الضرائب بالقوة من الفلاحين . وقد تحول الشيوخ الذين قادوا الانتفاضة الى مستغلين و متعسفين بحقوق الفلاحين، أي تحولوا اقطاعيين جدد (12).
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أخذ شئ جديد بالتبلور متمثلا في أشكال بسيطة للعلاقات الرأسمالية و الاستغلال الرأسمالي في القرى القريبة من المدن . وبدأت العلاقات البضائعية تنمو في هذه المناطق حيث امتهن الفلاحون زراعة المحاصيل التى تلبي طلبات المدينة. وهكذا تقوضت اسس الاقتصاد الفلاحي المغلق وبدأت تتعزز علاقاتهم بالسوق و ظهرت أول علائم العلاقات الرأسمالية في الزراعة باستخدام العمال الأجراء (13) .
وبدخول العراق النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي وارتباطه باحتياجات السوق الدولية وخاصةبعد شق قناة السويس 1869 ، نشأت تغيرات هامة ، منها تحول العلاقات الأبوية القائمة في الريف الى علاقات بين صاحب الأرض والفلاح بشكل تدريجي والاتجاه المتزايد نحو الإنتاج للسوق بدلا من الاكتفاء الذاتي.وازداد إقبال السوق العالمية على المحاصيل الزراعية العراقية، وبذلك ازداد شره الإقطاعيين فشيدو القصور الضخمة في بغداد وغيرها من المدن الأخرى، ووفرت لهم المصنوعات الأجنبية الحديثة حياة مترفة باذخة في المأكل والملبس وغيرها من من مواد الترف والنعيم ، مما دفع الإقطاعيين إلى استغلال الفلاحين بشكل أكثر وحشية لسد نفقاتهم ونفقات مرتزقتهم الذين أخذوا يزدادون يوما بعد آخر و بذا تحمل الفلاحون عبء هذه النفقات لوحدهم.
نتيجة لحاجة الإقطاعي للمال، كان يسعى بكل ما أوتي من قدرة لتزويد الأسواق بكميات من الإنتاج أكثر فأكثر (14). وقد ارتفعت كمية الحبوب المصدرة من العراق حوالي (70) الف طن في تسعينيات القرن التاسع عشر الى 188 ألف طن في عام 1911(15) . وادت ايضا الى ارتفاع الإيجار (16) . مما ضاعف استغلال الفلاح وتدهور مستوى المعيشي.
أما في كردستان فقد كانت الأرض محصورة في أيدي رؤساء القبائل. وكانوا في الواقع من كبار ملاكي الأرض و مثلاً حياً للاقطاعيين تحت الستار القبلي وكانوا يتخذون العساكر ويدفعون الضرائب لولاة الدولة العثمانية (17) .
وقد اشار كوتلوف الى أن العلاقات الابوية قد تحولت إلى قانون لنظام آخر هو النظام نصف الإقطاعي بدأ يظهر بشكل تدريجي. وقد اختفت الملكية المشاعية من ناحية الفعلية في معظم مناطق كردستان. وازداد خطر غزوات الإقطاعيين على الفلاحين المستقرين الذين كانوا يضطرون إلى منح الأرض لأي من الاغوات والبيكات من رؤساء العشائر للدفاع عنهم (18) .
وقد عانى الكرد الرحل وأشباه الرحل (الكوچر)الذين حافظوا على استقلالهم الظاهري عانوا ضروفاً استعبادية لا مثيل لها وتحول معظمهم إلى رعاة مأجورين . وكان الكثيرون منهم محرومين من أي رأس من الجياد . ولم تكن لديهم من الماشية ما يوفر لهم حداً ادنى من الاستقلال الاقتصادي. كما حرموا من الحقوق السياسية التى كانوا يتمتعون بها في المنظمات القبلية. واضطر قسم منهم قسم منهم إلى الانخراط في خدمة رئيس القبيلة وحراسته ، مما افقدهم إرادتهم بشكل مهين. نتيجة للاستغلال الإقطاعي فقد حاول قسم من الرحل الهرب من ( الرعية ) تخلصا من المستغلين (19) . بينما شيد الإقطاعيون من ( قبيلة هماوند ) القصور الضخمة وشكلو الحرس الخاص للزعيم والفرسان المسلحين في الإقطاعيات الزراعية التى تشبه تلك التنظيمات في المقاطعات الصغيرة في بولونيا (20).
كما بلغت الأراضي التي استحوذ عليها رئيس قبيلة ( الجاف ) في بداية القرن العشرين بتأثير الظروف السياسية والاقتصادية، عشرات الألوف من ( الهكتارات ) (21) . وظهرت الملكيات الإقطاعية وأشكال الاستغلال شبه إقطاعي و الإقطاعي بين عشائر اليزيدية، وكان رئيسهم ذا مركزين ديني ودنيوي ويمثل المستغل الرئيسي لفقراء اليزيديين (22) .
وقد ادى استحواذ رؤساء القبائل واثرياء المدن ورجال الدين على اراضي الفلاحين الكرد ... الى توطيد الاستغلال الإقطاعي للجماهير الكادحين فأفقدهم الاستقلال الشخصي بعد أن فقدوا استقلالهم الاقتصادي. ((بالرغم من الاستغلال الفظ للفلاحين من قبل الإقطاعيين بأن العلاقات بين المستغَلين والمستغِلين ... لم تكن قد اتخذت بعد طابع تناقض طبقي حاد. فأن عملية الاستقطاب الطبقي للفلاحين قد تأخرت ولا سيما من جراء النظام القبلي الذي استغلته القمة الإقطاعية بذكاء، والذي ولد اوهاماً باطلة بين الجماهير الكادحة. وان كل هذا خفف بشكل محدد من حدة الصراع الطبقي و تحول الى اساس نفوذ ملموس للقمة الإقطاعية ، والذي تعاظم بحكم جمع زعماء معظم المناطق الكردية والاشورية واليزيدية بين السلطتين الدينية والدنيوية)) (23) .
ولم تكن سلطات الاحتلال البريطاني قد عملت على تغير مجرى حياة الإقطاع ، بل انتهجت سياسة تهدف إلى إيجاد قاعدة اجتماعية محلية تتمكن من خلالها بسط سيطرتها الاستعمارية على البلاد . وجدت ضالتها في الزعماء المحليين، أي في القوة الاجتماعية التي ترى بطبقة الإقطاع التي وجدت فيها خير سند لتحقيق مصالحها الطبقية. كانت بريطانيا تسعى أولاً بنهوض طبقة الإقطاع التي وجدت فيها خير سند لتحقيق لاحتلالها . فشجعت بحماس هذه الفئة الاجتماعية وأثرتها ثرءاً شديداً. وفي نفس الوقت أعاقت البرجوازية العراقية.فقد بلغت مساعي الامبريالية البريطانية أوجها لكسب زعماء العشائر ووجهاء المجتمع العراقي منذ بداية القرن العشرين ... و ذلك من خلال الشركات الاجنبية التى أقامت علاقات اقتصادية مع الإقطاعيين العراقيين و الكومبرادور. كما لعب عملاء المخابرات العسكرية والمدنية دوراً مهماً في هذا المجال وهم جاءوا الى العراق بصفة سائحين ومبشرين و آثاريين ... الخ (24) .
وقد تلقى موظفو القنصليات البريطانية في العراق طلبات عديدة من وجهاء محليين وشيوخ عشائر يطلبون حماية الحكومة البريطانية عن طريق الحكم في البلاد (25) . كما ساند بعض رؤساء العشائر الاحتلال البريطاني. حيث مدوا له يد العون حتى قبل احتلال البصرة وسارعوا في مراسلة القوات الغازية (26) .
وازداد تلك الروابط بإحتلال القوات البريطاني لبغداد. فسارع (بيرسي كوكس) إلى مصادقة نقيب اشراف بغداد السيد عبد الرحمن الكيلاني ، بعد أن لبى النقيب دعوته لزيارة المقر العام للمندوب السامي وقام النقيب بنفسه بالترحيب بقائد الجيش البريطاني، وعلى أثر ذلك توجه إلى المندوب السامي شيوخ بعض القبائل الصغيرة في كربلاء والنجف والفرات الاوسط واستلموا المكافآت لقاء المحافظة على الأمن في منطقتهم (27) .
وبعد أن استتب الأمن لسلطات الاحتلال، أدركت بشكل قاطع أن رؤساء العشائر وشيوخها يمكن الاعتماد عليهم والثقة بهم ، فعمدت على اسنادهم بكل السبل وارشائهم واستبدال المناوئين للاحتلال البريطاني بالشيوخ الذي يمكن ضمان ولائهم بالمكافأة والأرض والمسؤوليات .
فاّذا كان الجهاز العثماني اعتمد في حل مسائل الأرض على سياسة زرع الشقاق بينهم وتفكيك القبائل و إضعاف مكانة الشيخ، فقد عمد الإنجليز سياسة تستهدف تقوية رؤسائهم والاعتراف بنفوذهم. وكتب (مس بيل) بهذا الشأن ((وبدلا أن يستخدم الأتراك سلطة الشيوخ كانوا يتبعون سياستهم التقليدية في محاولة تحسين مركزهم بالقضاء على الموجود من العناصر المحلية التي تحافظ على الأمن والاستقرار. وكانت الحالة في ولاية البصرة تعطي صورة شاملة للفوضى والاضطراب. فقد حوفظ في منطقة دجلة على سيطرة متقطعة بالاستفادة من العداوات الموروثة بين مجموعات القبائلية الكبيرة واللعب بالخصومة الشخصية بين أفراد الاسرة المالكة فيها. أما معرفة التركي للسلطة الحقيقة الموجودة في كل منطقة وتسخيرها في خدمته، فذلك شئ يقع خارج نطاق تفكيره. وخير ما يمكن أن يقال عن جلوسه غير المريح في وسط الدوامة هو انه استطاع الجلوس في وسطها. اما في وادي الفرات فيمكن الاعتراف بأن التركي قد أزيح عن مقعده المذكور)) (28) .
منذ الأيام الأولى للاحتلال البريطاني قاوم الشعب العراقي مقاومة عنيفة. وكانت قمة هذه المقاومة قد تفجرت في ثورة العشرين التي شارك فيها 130ألف مقاتل معظمهم من الفلاحين (29) . الأمر الذي أرهق كامل دافع الضرائب البريطاني واشتد كذلك ضغط الشعب الإنكليزي لاعادة ابنائه المجندين الى بلادهم، ونتيجة ذلك كله ، اضطرت بريطانيا الى تقليص قواتها في العراق عام 1920 -1921 و التركيز على الإقطاعيين ليحلوا محلها في حفظ الأمن في البلاد.
وقد سعت سلطات الاحتلال تحت هذه الظروف الى دعم وضمان ولاء زعماء القبائل ، ما عدى المتمردين منهم . وكان من مصلحة السلطات في ادارة مركزية.فقد عملوا على توحيد قياداتها ومع رؤساء القبائل وخاصة اولئك الذين يشغلون مناصبهم بمساندة وتأييد الانكليز ، والذين يعملون تحت إمرة الضباط السياسيين لحماية الطرق واستتباب الأمن ، و زودهم بالمال والسلاح ليكونوا على اهب الاستعداد لقمع أية حركة معادية للاحتلال (30)
لقد أصبحت تحت امرة العشائر 100 الف بندقية بينما لم تكن للحكومة غير (1500) بندقية كما أشار إلى ذلك الملك فيصل في مذكرته المعروفة (31) .
أما رؤساء العشائر غير موالين كالشيخ محمود في كردستان والشيخ عبد الواحد الحاج سكر و زملاء له في الفرات الاوسط ، فكان نصيبهم العقاب المتعدد الأشكال. فقد تقلصت أراضيهم وثقلت ديونهم وعانوا صنوف التعسف و الاضطهاد ومن الضيق الشئ الكثير.
ومن اجل منح التقاليد والاعراف العشائرية صفة قانونية فقد أصدر الانكليز ما يسمى بنظام دعاوي العشائر المدني و الجزائي لعام 1919 ليمنح رؤساء القبائل والاغوات والإقطاعيين سلطات استثنائية وذلك بتحويل (المجالس العشائرية) المخولة قانونا للبت في النزاعات الى أداة بيد الإقطاعيين لحسم تلك النزاعات حول الأراضي الزراعية لصالح تملكهم لها ، وتوسيع هذا التملك . ثم عملوا على تكريس الإقطاع في الريف والقضاء على الحيازة الصغيرة من خلال تطبيق نظام الطابو في عام 1919 ، كي يخلقوا إمكانيات لاستحواذ كبار الاقطاعيين ووجهاء المدن على اراضى شاسعة على حساب الفلاحين الذين لم يكن في حوزتهم وثائق لحيازة الأرض رسميا ، بل كانوا يستغلون الأرض حسب ما يقتضيه العرف المحلي (32).
أما في كردستان فقد تميزت السياسة البريطانية بخصائص معينة ، اذ اعاد المحتلون تسجيل حقوق حيازة الأرض و اعترفوا بشرعية حيازة الإقطاعيين الكرد على أراضي الفلاحين في العهد التركي (33) .
لم يكتف الملاكون بهذا القدر مما استولوا من اراضي الفلاحين، بل اشترى البعض منهم الأراضي الفلاحين بثمن بخس بعد تراكم الفوائد الربوية التي عجزوا عن دفعها،او قطع مياه السقي عن أراضي الفلاحين لإجبارهم على التنازل عنها.
أما كبار الملاكين الموالين فإن اكثرهم استولوا على الأرض من دون ثمن ، كمنحة من الدولة على حساب كادحي الريف . وكانت الدولة تعفيهم من اجرة الارض الاميرية والضرائب المتراكمة بجرة قلم (34) .
و بالارتباط مع تنامي وترسيخ مواقع الاقطاعيين في الريف جرى إخضاع جماهير الفلاحين لأبشع أنواع الاستغلال من قبل شيوخ الاقطاع وعلى يد السلطات الخاضعة للاحتلال البريطاني ، بحيث ما جمعته هذه السلطات من الفلاحين على شكل ضرائب خلال أعوام 1921 - 1926 مبلغ 67 لك من الروبيات يضاف إليها ما جمعته من ضرائب على المواشي والأغنام بلغت 2،6 مليون روبية (35) .
وكان أكثر القوانين بشاعة هو قانون الزراع رقم 28 لسنة 1933 اذ يربط الفلاح بالأرض ويمنعه من مغادرتها إذا لم يسدد كافة الديون المترتبة عليه للاقطاعيين . وقد كان من المتعذر على الفلاح أن يسدد هذا الدين مهما كان بسيطاً نتيجة فقره وشدة استغلاله ، حيث كان يدفع فوائد قد تزيد على 50% (36) . اضافة الى ما يستولي عليه من إنتاجه فلا يبقى له في بعض الأحيان أكثر من ربع المحصول . ولذلك لا يعتبر الفلاح مستأجراً للأرض طالما كان فاقدا للضمان القانوني و لحرية العمل، وهذا يعني تحويله الى حالة تشبه حالة الاقنان في أوروبا الاقطاعية (37) .
وإذا كان أفراد العشائر فيما مضى أصحاب الأرض اسمياً وتستغل الأرض من قبل العشيرة بشكل مشترك حسب العرف السائد،وكان رؤساء العشائر يقومون بدور الوصي والمشرف على الأراضي نيابة عن الدولة،فقد أصبحت هذه الاراضى فعليا وقانونيا، عمليا واسميا،ملكية خاصة للشيوخ والاغوات والاقطاعيين. وأصبحت الغالبية الساحقة من سكان الريف لا تملك شبرا واحدا من الأرض في حين أصبح بحوزة كبار الاقطاعيين مساحات شاسعة من الأرض (38) .
وكان الانكليز يقاومون كل محاولة لإصلاح أوضاع الأراضي مهما كانت جزئية او ثانوية .. واصروا على سياستهم في تقوية مركز كبار الإقطاعيين بالضد من التقدم الموضوعي للمجتمع العراقي ك وبدلا من أن يعملوا على تسهيل انحلال الطبقة الإقطاعية فقد رأوا من مصلحتهم الإبقاء على النظام الاقطاعي ، بل تقويته بكافة السبل وإضفاء خصائص جديدة عليه لم تخفف من حدة الاستغلال اللإنساني الذي يتسم به النظام الإقطاعي الكلاسيكي . وبذلك نشأت علاقات اجتماعية جديدة ومصالح جديدة في الريف العراقي هي أكثر ظلماً وابشع،انسانياً ومعنوياً،من تلك التي سادت في النظام الإقطاعي في القرون الوسطى .
لم يكتفي الانكليز بمنح اراضى شاسعة ، بل لجأوا الى تعيين عدد كبير من ممثلي كبار الملاكين في المدن وزعماء العشائر في الوزارات والمجالس التشريعية وهؤلاء لم يجدوا انفسهم امام اية ضرورة ملزمة لرعاية مصالح الفلاحين الذين يؤلفون الاكثرية الساحقة من سكان العراق الذين ساءت أحوالهم منذ انتهاء الانتداب أكثر فأكثر(39) . وقد صار الموظفون أدوات طيعة بأيدي بريطانيا في تنفيذ السياسة الاستعمارية في العراق .
فعندما انعقد في نيسان 1922 مؤتمر وطني كبير (من زعماء الدين والعشائر من السنة والشيعة) بكربلاء للمطالبة بموقف حازم من غارات قبائل ابن سعود، باتخاذ سياسة وطنية، فإن الإقطاعيين الموالين للانكليز نظموا حركة معاكسة ووقعوا على عريضة وعدة مذكرات باتجاه مضاد. بين هؤلاء ( عداي الجريان رئيس البوسلطان و رشيد العنيزات و سلمان الجلوب وعلي سليمان (رئيس الدليم) وغيرهم) .
و في (23 نيسان 1922) ذهب الشيخ علي سليمان مع أربعين شيخا لمقابلة الملك بعد أن قابلوا المندوب السامي (كوكس) ، فذكروا له عبارة واضحة بأنهم لن يقسموا بالولاء له إلا أن يصغي لنصائح البريطانية.ثم نظموا مضبطة طويلة تشتم مؤتمر كربلاء . وقد ورد فيها:
من حيث أن حكومتنا في الدور الابتدائي ومحتاجة الى من يمد إليها يد المساعدة مادياً وادبياً ، فالى أن تبلغ درجة الكمال والاستغناء عن الغير ... يجب أن يطلب من حكومة بريطانيا ، المنتدبة من قبل عصبة الأمم على العراق ، كل المساعدات المطلوبة والتى يتوقف عليها توطيد أركان حكومة العراق كحفظ النظام وتوطيد الأمن واعمار البلاد ويجب أن يعتمد عليها كصديق مخلص للبلاد وأهل البلاد (40) .
وقد انضم الى هذه الحركة رؤساء اقطاعيون آخرون امثال رؤساء الخزاعل وسالم الخيون و خيون العبيد ... وغيرهم
عندما أخذ رؤساء القبائل يستحوذون على الأرض ويستغلونها بصورة (الطابو) اواللزمة وينصبون المضخات الزراعية بالمشاركة مع تجار المدن وكبار الموظفين (الباشوات والبيكات) ويحولون الفلاحين إلى عبيد بعد أن أخذ النظام القبلي بالتفكك تدريجيا ، فقد صار حياة الفلاح العراقي يعيش حياة البؤس والشقاء والحرمان من ابسط وسائل العيش .
وكان الفلاح يعيش في جنوب العراق ووسطه في اكواخ من القصب البردي وهي خالية من النوافذ وفي كردستان كان الفلاح يسكن غرفاً أشبه بالحفرة لا ينفذ منها الهواء إلا قليلاً (41) . بينما سكن البدو خياماً ممزقة. وكان الفلاح يستعمل كوخه لكافة احتياجاته فكان مكاناً للنوم والطبخ وتشاركه فيه حيواناته كذلك ، وقد يقطع قسمأً قليلأً منه للضيوف و الاغراب ويطلقون عليه اسم (الربعة) . أما الشيوخ والاقطاعيين فقد بنوا لأنفسهم المضايف الكبيرة والتي كان يحتاج العمل فيها الى شهر والى خبرة ومهارة لم تتوفر لدى الجميع . وكان الملاكون يستخدمون الفلاحين لهذا العمل دون أن يدفعون لهم الأجر بالرغم من ارتفاع دخل الملاك وانحطاط دخل الفلاح (42) . ففي عام (1928) مثلاً كان دخل الشيخ يقارب ال 27 ألف من الروبيات بينما لم يتجاوز دخل الفلاح 210 روبية في السنة (43) .
في وسط هذا الفقر المدقع كان يتوجب على الفلاح القيام بأعمال مجانية ... لسد احتياجات مضيف الشيخ ومصاريفه الشخصية بحجة مراجعة دوائر الحكومية وتقديم الرشاوى من أجل مصالح أفراد العشيرة نتيجة لارتباطهم به عن طريق الإكراه الاقتصادي والإكراه اللااقتصادي. وقد كانت المصاريف تقدم عيناً (44) .
وقد سببت الحرب العالمية الأولى تدهور الوضع الاقتصادي في العراق ، حيث ألقي بالعبء الأكبر من تمويل الجيش على كاهل الشعب العراقي (أي الجيش العراقي والجيش البريطاني) وفرض الإنكليز ضرائب أكثر مما فرضه العثمانيون وتحمل الفلاحيين ثقل هذه الضرائب بإعتبارهم من دافعي الضرائب الأصليين والمنتجين المباشر للخيرات (45) . و قبلهم قامت السلطات التركية بإجبار الفلاحين على بيع المحاصيل الزراعية بأسعار بخسة جدا لتلبية احتياجات جيشها (46) .
وقد ساق الانكليز عشرات الالوف من المواطنين أكثرهم من الفلاحين الى السخرة لإقامة المنشآت للمحتلين في ظروف عمل لإإنسانية فقد اجبروا على الإقامة في العراء من دون أن يوفر لهم الحد الأدنى من الغذاء وتشير التقارير الرسمية إلى أنه استخدم عام 1924 وحده (91250) فلاحاً في عمل السخرة (47) . أما في كردستان فقد كان الكري وتنظيف القنوات من واجبات الفلاحين وبشكل مجاني. ولم يتجاوز تكاليف ثلاثة قنوات مبلغ 8000 روبية. وكانت الجهود التي يصرفها الفلاحون تذهب لمنفعة الاغوات الذين يستغلون الأراضي المطرية (48) .
مقاومة الفلاحين
لم يمض وقت طويل على إدخال نظام الطابو ، حتى ظهرت نضالات فلاحية ضد الشيوخ الإقطاعيين في لواء المنتفك الذين استولوا على اراضي الفلاحين خلسة وسجلوها باسمهم وبدأوا يطالبون بنسبة كبيرة كريع ، وساندت الحكومة التركية هذا المطلب ، وقد رفض الفلاحون دفع حصتهم من المحصول وطردو الإقطاعيين من المنطقة في عام 1878 (49) . وفي عام 1892 انتفض فلاحو الناصرية بوجه العثمانيين بعد أن استولت على قسم من اراضي هذه المنطقة لصالح مالية الدولة. وبعد عام ثار فلاحو قبيلة آل محمد في العمارة بسبب سوء توزيع الأراضي هذه المنطقة وقد قمعت حركتهم بقوة (50) . وفي الفترة1900-1908حدث سلسلة من الانتفاضات ضد الدولة العثمانية وكانت أشدها انتفاضة تشرين الأول 1903 التي استمرت عدة أشهر وساهم فيها اربعة آلاف مسلح وتمكنوا من إبادة الحامية التركية في المنتفك. كما شهد ريف كردستان انتفاضات فلاحية خلال هذه الفترة وخاصة في منطقة بارزان والموصل وغيرها وبعد اعلان الدستور العثماني .. نشبت في العراق سلسلة من التحركات الفلاحية في مناطق البلاد المختلفة وبلغت أوجها في 1913- 1914عندما صدر قرار السلطات بيع الاراضي الاميرية للأجانب ، وامتنع الفلاحون (ردا على ذلك) عن دفع الضرائب (51) . وسبقت هذه التحركات انتفاضة اهالي الحلة والديوانية في عام 1912 (52). ومن أجل قمع هذه التحركات ، وجهت السلطات حملات تنكيلية ضد الريف .
لم تحل سلطات الاحتلال البريطاني مسألة الأرض لصالح الفلاحين ، بل ساهمت في خلق الفوارق الطبقية وانمائها في الريف العراقي . وكانت السلطة السياسية تمثل مصالح الاحتكارات الأجنبية و الكومبرادور والاقطاع ، فقد قامت حركة بني ركاب في (لواء المنتفك) عام 1918 ضد ظلم الشيوخ و الإقطاعيين والملاكين (إلا أن السلطة تمكنت من إخمادها بعد أن استعملت الطائرات في شل حركتها) (53)،بعد ذلك ، قامت ثورة العشرين التي وإن كانت قد بدأت ثم انتهت تحت قيادة بعض الشيوخ ورجال الدين ومثقفي المدن ، إلا أن الواقع يقول بأن الفلاحين قد مارسوا فيها ثورتهم التي طالما حلموا بها ، الامر الذي ازعج الاقطاعيين و الكومبرادور الكبار وحتى بعض قيادات الثورة ازعاجاً شديداً ودفعهم أكثر من مرة الى إدانة التمرد المسلح واستنكاره. وإذا كانت هناك ثمة نتيجة أو تأثير على الفلاحين فإن ثورة العشرين ضد الاستعمار كانت قد أرست التقاليد التاريخية لاستعمال العنف المسلح من قبل الفلاحين ، اذ انها قد شعرت الفلاحين أنهم خسروا الجولة الأولى في الحصول على الأرض رغم النصر الذي حققوه ضد الاستعمار البريطاني المباشر! فالثورة لم تخفف الحقد الطبقي ضدالإقطاع، وأدرك الفلاحون أن عليهم مواصلة الكفاح وان ثورة أخرى بانتظارهم يجب أن يخوضها ضد الحكم الجائر ضد الإقطاع .
وسرعان ما بدأت انتفاضات الفلاحين في الشمال والجنوب على طول فترة العشرينيات وكانت انتفاضة وآل عايد الفلاحية في اوائل الثلاثينيات ذات مضمون طبقي واضح واتجهت ضد الإقطاعيين والحكومة المحلية على الرغم من أن السلطات اغرقتها بالدماء (54)
أن سياسة النهب والسلب التى مارستها الدولة العثمانية ومن بعدها الاحتلال البريطاني والحكم الموالي له ضد الفلاحين العراقيين قد كلفتهم كثيراً من الدماء و الويلات والخراب وسرقت كدحهم وجهدهم .... وعاقت تطورهم الاجتماعي و الاقتصادي . كما أن السيطرة الاجنبية المزمنة قد أوجدت جانب آخر لدى جماهير الفلاحين،عبر مختلف أشكال نضالهم، تقاليد ثورية عميقة وراسخة في المعارك الطبقية والوطنية التي خاضوها ضد الانكليز في فترتي الاحتلال والانتداب و ضد الإقطاعيين .
بعد نهاية الانتداب وحصول العراق على الاستقلال الشكلي استمر كفاح الفلاحين من أجل الأرض وضد استغلال وجور الفلاحين الاقطاعيين المدعومين من السلطة الملكية التابعة ، وتكررت الانتفاضات حتى قيام ثورة 14 تموز1958. وقد أيدها كادحو الريف بكل حماس مع المشروع باستعادة الدولة لجزء من أراضيها من كبار الملاكين وتوزيعها على فقراء الفلاحين بموجب اول قانون للإصلاح الزراعي صدر في خريف 1958، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من الكفاح الفلاحي.
الهوامش
(1) ل.ن . كوتلوف ((ثورة العشرين التحررية في العراق )) ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم مطبعة أوفست الديواني بغداد ، 1985، ص 74،73 .
(2) نفس المصدر ص 28-29 .
(3) نفس المصدر ص 34 -36 .
(4) حسين الجليلي - الاستعمار وأعمال السخرة ثقافة - العدد (5) لشهر مايس السنة ص 1980 ص 67 . الهامش .
(5) زكي خيري: الحزب الشيوعي العراقي والمسألة الزراعية، ملاحظات اولية عن الاصلاح الزراعي المنشود في العراق. مطبعة الشعب. بغداد 1974 ص 42.
(6) م. ط. الاصل التاريخي لعلاقات الدولة بالأرض والازدواجية في ملكية الاراضي في وادي الرافدين الثقافة الجديدة العدد 17، 18 السنة 1970 ص 27 .
(7) ايرلاند. فيليب ميلارد . ( العراق في تطوره السياسي ) . ترجمة جعفر الخياط دار الكشاف للنشر والمطبوعات والتوزيع . بيروت . ص 59 .
(8) لونغريغ. ( اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ) ترجمة جعفر الخياط ط مطبعة البرهان . بغداد 1962 ص 369
(9) لطفي جعفر فرج (عبد المحسن السعدون ) منشورات وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية ، سلسلة الاعلام و المشهورين. 1978 ص 25 .
(10) كوتلوف نفس المصدر السابق ص 64.
(11) لوتسكي ( تاريخ الأقطار العربية الحديث) دار التقدم ، موسكو 1971. دار الفارابي . بيروت .ص 16.
(12) كوتلوف المصدر السابق ص 49 .
(13) كوتلوف المصدر السابق ص 75 .
(14) لوتسكي المصدر السابق ص 28 .
(15) د. محمد سلمان حسن ( التطور التاريخي في العراق ) ج 1 المكتبة المصرية . بيروت . ص 2 .
(16) كوتلوف المصدر السابق ص 77 .
(17) لوتسكي المصدر السابق ص 16.
(18) كوتلوف المصدر السابق ص 54 .
(19) كوتلوف المصدر السابق ص 56 .
(20) كوتلوف المصدر السابق ص 57.
(21) كوتلوف المصدر السابق ص 55.
(22) كوتلوف المصدر السابق ص 58-59.
(23) ل.ن. كوتلوف ( الانتفاضة الوطنية التحريرية عام 1920 في العراق ) موسكو 1958 . عن: د. كمال مظهر احمد ثورة العشرين في الاستشراق السوفيتي ، مطبعة الزمان . بغداد 1977. ص 65 .
(24) المصدر السابق ص 102 .
(25) مس بيل ( فصول من تاريخ العراق الحديث ) ترجمة جعفر الخياط . بيروت 1971 . ص 2 .
(26) كوتلوف . المصدر السابق ص 120.
(27) مس بیل . المصدر السابق ص 106- 107 .
(28) مس بیل . المصدر السابق ص 69.
(29) كوتلوف . المصدر السابق ص 267 .
(30) نفس المصدر السابق ص 134- 135 .
(31) عبد الرزاق الحسني . تاريخ الوزارات العراقية .الجزء الثالث .الطبعة الثالثة . ص 300 - 307
(32) كوتلوف . المصدر السابق ص 121 - 122
(33) كوتلوف . المصدر السابق ص 127
(34) زكي خیري . المصدر السابق ص 44
(35) د. كمال محمد سعيد الخياط - الطور التاريخي لحيازة الأرض وعلاقة الملكية في العراق. ( مجلة الاقتصادي ) العدد 2 حزيران 1970 .
(36) محمد توفيق حسين . نهاية الاقطاع في العراق . بيروت . 1958. ص 113
(37) يرى عبد الرزاق الظاهر في كتابه ( الإقطاع والديوان ) ص 20 ، أن الغرض من هذا القانون كان خلق صلة بين الفلاح والأرض بحيث يصبح الفلاح (قناً) أو ( ربيطة) في الارض كما انه يرى بحق ايضاً ، أن هذا القانون كان جزء من سياسة عامة لغرض إنشاء ما يسميه ( اقطاعية الافندية ) ، عن إبراهيم كبة . الاقطاع في العراق مطبعة المعارف . بغداد . 1957 ص 23
(38) نفس المصدر السابق ص 11
(39) ابراهيم كبة نفس المصدر السابق ص 12
(40) علي الوردي ( لمحات من تاريخ العراق الحديث ) الجزء السادس (6) مطبعة بغداد . ص 150- 151 . عن عزيز الحاج (القضية الكردية في العراق) المؤسسة العسكرية للدراسات والنشر . بيروت . ص 63
(41) محمد توفيق حسين . نهاية الاقطاع في العراق . نفس المصدر السابق ص 28- 29
(42) حسين الجليلي . العمل الجماعي والسخرة في العهد العثماني . مجلة الثقافة . العدد(6) . السنة 1980 . ص 34
(43) عماد احمد الجواهري . تاريخ مشكلة الأرض في العراق . منشورات وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية . سلسلة الدراسات . 182. بغداد 1978 . ص 41.
(44) حسين الجليلي . المصدر السابق ص 36
(45) كوتلوف . المصدر السابق ص 108.
(46) كوتلوف . المصدر السابق ص 109
(47) عماد احمد الجواهري . المصدر السابق ص 364 .
(48) حسين الجليلي . (العمل الجماعي والسخرة في العهد العثماني) . الجزء الثاني مجلة الثقافة . العدد(9) . السنة 1980. ص 27.
(49) د. محمد سلمان حسن . ( التطور الاقتصادي في العراق ) الجزء الأول . المكتبة المصرية . صيدا . بيروت . ص 190.
(50) علي علي منهل ( حركة التحرر الوطني العراقية من سبعينيات القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى) .مجلة الثقافة . العدد (7) آب 1970 . ص 19.
(51) لوتسكي المصدر السابق ص 398 .
(52) علي علي منهل المصدر السابق ص 21.
(53) حسين الجليلي . (العمل الجماعي والسخرة في العهد العثماني) . القسم الثاني مجلة الثقافة . العدد (10) . تشرين الثاني السنة 1980. ص 25.
(54) زكي خيري المصدر السابق ص 163- 164 .
* نشر هذا البحث بأسم مستعار (س. ز) في مجلة الثقافة الجديدة - العدد 251 – 252 السنة 40 تشرين الاول – كانون الاول 1992 ، كنت مختفيا في بغداد أنذاك.[1]