#عزيز الحاج#
كلمة لابد منها، وقصص خيالية عن خالد بكداش وعن السوفيت:
تأكيدا جديدا لمن لا يريدون أن يفهموا، أو يتعمدون عدم الفهم، أنني تركت العمل السياسي منذ عقود، ولا أكتب كناشط سياسي، يساري أو خلافه، فضلا عن تقديم نفسي كممثل لأي يسار كان، بل كمثقف وطني تقدمي، مستقل، وليبرالي، لعب ذات يوم دورا ما في الحركة الشيوعية، وحاول، في سلسلة من كتب السيرة والمقالات والمقابلات الصحفية، استخلاص العبر والدروس من تجاربه الطويلة على أساس السرد الأمين للوقائع والتواريخ، [لا بقلب التواريخ وترتيبها الزمني]، وعلى أساس تشخيص للظروف المعينة لكل فترة موضع البحث، وبروح النقد الذاتي. و أقول، بلا مكابرة، إنه نقد ذاتي جريء، نادر في مذكرات قياديين يساريين آخرين، ولا أقول الجميع. ومن هذه العبر والدروس أكدت خاصة على العواقب الضارة والمخربة لعقلية تهميش الآخر إن كان رفيق درب سابقا أو غيره، وجريرة العمل لتشويه سمعته والافتراء المبرمج عليه.
وفي مقالات لي في القدس العربي في التسعينيات كتبت مرة بان مذكرات ساسة العهد المالكي جاءت أكثر هدوءا وإنصافا واعتدالا من مذكرات بعض من لعبوا أدوارا مهمة في تاريخ الحركة الشيوعية- طبعا ناهيكم عن خزعبلات وهذيان وأكاذيب المتطفلين والهامشيين، ككاتب ال 14 حلقة زور ومن وراءه ويشجعونه ويكافئونه، والذي اعتاد منذ سنوات استعمال لسانه السليط وقدرته على الكذب وادعاء الأدوار القيادية (في المنام)، والبطولات الدون كيشوتية، لتصفية الحسابات الشخصية والارتزاقية مع قياديين سابقين في الحزب الشيوعي، واختلاق الحكايات المفبركة عنهم، مع أن بيته هو شخصيا من زجاج هش، ومن كل الجهات. ومن يقرأ عن تصرفاته منذ منتصف السبعينات (كنت بعيدا عن تلك الأحداث) في موقع غوغول يدهش لجرأة هذا الرجل المريض على مواصلة حملاته البذيئة بحق الآخرين.
إن مرض عنف الخطاب عند فريق من المثقفين العراقيين من خانة اليسار، الذين لا أشك في إخلاصهم، يلمس أيضا في كتابات تيارات مؤدلجة أخرى، كالبعثيين وغيرهم. وسبق لي التوقف لدى تعاطي كثيرين من رفاق الدرب السياسي المؤدلج مع بعضهم البعض بقسوة وروح التشهير والاجتثاث، وبكل حقد وانفلات للكراهية وعنف الخطاب، وأحيانا، بأكثر قسوة وعنف من نقد أعداء الشعب. وذكرت أيضا أن من جذور وعوامل الوضع العراقي المتدهور والمتوتر الحالي، أخطاء النخب السياسية في عهود سابقة، وخصوصا نزعات التدمير والعنف، والمزايدات السياسية، وانفصام الشعارات عن الواقع الملموس وعن توازن القوى؛ ومن ذلك أخطاء عزيز الحاج في مختلف فترات نشاطه السياسي.
وبالنسبة لدور اليسار العراقي، والشيوعي بالذات، فقد سبق وأن عالجت الموضوع مرارا في الحوار المتمدن وصحف أخرى، لا كناشط متحزب، بل كمثقف لا يزال يؤمن بان الماركسية منهج علمي رائع ومتقدم للبحث والتحليل، لكن دون اعتباره مقولات متحجرة وجامدة تصلح لكل زمان ومكان، وبأن لليسار العراقي دورا مهما يمكن أن يلعبه، وله جذوره العميقة وتاريخه المجيد وتضحياته الكبرى، وذلك برغم كثرة الأخطاء والمطبات والتعرجات. وهنا ألتقي مع الكثير من أفكار عامر عبد الله في مقوضات النظام الاشتراكي، ومع المناضل والمفكر كريم مروة في كتابه الثمين نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي؛ وأيضا مع العديد من مقابلات وكتابات الصديق الدكتور كاظم حبيب. ومن ذلك استخدام المنهج العلمي في فهم الواقع العراقي، ووعي الماضي، والاعتراف بما وقع من أخطاء، والانطلاق من الواقع الذي نعيش فيه، ودراسته بعناية من حيث طبيعة المرحلة والمهمات والقوى الفاعلة وأدوات العمل. كذلك التخلي الكامل عن العنف والقوة، والتمسك بالنضال السلمي والديمقراطي، ومن أجل سيادة مبادئ الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وحقوق القوميات والأقليات الدينية، وحقوق المرأة ومساواتها بالرجل. والمهم جدا الاعتراف بالأخطاء الفكرية والسياسية التي اقترفتها قوى اليسار في مجرى النضال الطويل والصعب والمعقد.
وحين نذكر التخلي عن العنف، فيقترن به لا محالة ترك عنف الخطاب، والتحلي بروح الحوار المتحضر والهادئ، بعيدا عن المكابرة والتشهير الشخصي والمغالطات وقلب الحقائق.
إن ما يبدو لي من تعليقات عدد ممن يقدمون أنفسهم كيسار عراقي جديد هذه الأيام أنهم لم يفهموا شيئا يذكر من كل هذا، ولا يزالون مهووسين بممارسة التشهير الشخصي والخطاب العنيف بدلا من السجال الديمقراطي الواضح، ومقارعة الحجة بالحجة. ومنهم من لا يقرا مقالا معينا بل يرى أولا من كاتبه، فينبري لممارسة صراع الديكة، والقذف بلغة سوقية، ونسج الأكاذيب حتى حين يكتب في صحيفة اسممها الحوار المتمدن!، فإذا به يكتب نموذج للحوار غير المتمدن. ومنهم من يستخدم لغة اسكت! أو اخرس، وكأننا به يتمنى لو أضاف للجملة: وإلا فهذا خنجري في حزامي! ومن هذا الطراز من يعيشون في قلب الديمقراطية الغربية المنفتحة ولكن دون أن يحاولوا تعلم شيء منها في أسلوب النقاش وروحه.
تأمل مثلا من يزعم أن الحاج أعلن يوما للناس بأنه ليس كرديا بل هو عربي. من أين جاء هذا الهذر [ الخرِط] يا ترى! في كل مؤلفاتي وكتاباتي على مدى العمر كنت أكتب أنني من عائلة كردية فيلية، وفي بعض الدفاتر كنت أسرد كيف أن حانوتيا من أصدقاء العائلة كان حالما يراني في السوق، يصيح ضاحكا وبلا نية سيئة أين أذنك يا كردي. وأذكر مقالا كتبته في صحيفة الحياة في نوفمبر 1994 عن مأساة الكرد الفيلية العراقيين، فعلق كاتب كردي غير عراقي بمقال اتهمني فيه بالتنكر لقوميتي والذوبان في القومية الكبيرة! وقد رددت عليه في الصحيفة نفسها بمقال عنوانه القضية الكردية و[ خطايا] القراءة العمياوية- أي العمياء. وفندت مزاعمه بمقتطفات من كتاباتي على مر العمل السياسي. وإذا كان عمى القراءة مصيبة، فإن التعامي المتعمد مصيبة أكبر وانحطاط.
وبالعودة لصاحب البيت الزجاجي، مختلق الحكايات المزورة، والذي لم يتورع عن الاعتداء الجسدي أمام الجيران على من ائتمنوه لديه ولدى عائلته، فإن هناك الادعاء بأنني تفوهت أمامه يوما في أيام القيادة المركزية بأننا سنجبر السوفيت على تأييدنا بالكالات [جمع كالة أي نعال]، وهي قصة لا يصدقها طبعا من يعرفني ويعرف أخلاقي وكيف أتكلم، وإنما هي قصة اخترعها من لا يعرف غير الكلام السوقي والافتراء، وغير استعمال الكالات حتى مع رفاق السجن من أجل قطعة لحمة!!
وهناك ادعاؤه بأن الحاج صرح لأحدهم بأنه قادر على إقناع خالد بكداس بتأييد حركة القيادة لأن له دالة عليه. ومن يعرف علاقتي بالزعيم الشيوعي الراحل خالد بكداش، يعلم أن علاقاتنا لم تكن حارة وإن لم تكن جافة. ففي 1960 وفي ندوة شيوعية دولية عن مشكلة الإصلاح الزراعي، انتقد بكداش بشدة الأحزاب الشيوعية التي تقسم ملاكي الأرض إلى صغار ومتوسطين وكبار. وقد فهمت أنه يقصد الحزب الشيوعي العراقي، فرددت على كلامه في مطالعتي. وقبل ذلك استدعاني مسؤول الحزب يهودا صديق عام 1947 مع رفيق الكلية موشي مختار لنترجم من الإنجليزية بينه وبين مراسل جريدة فرانس سوار الفرنسية، الذي كان قد جاء للتو من دمشق وبعد مقابلة مع الراحل بكداش. في المقابلة قال المراسل إن القيادي السوري ينتقد فهدا ويعتبره متطرفا في السياسة. وطبعا لم يقع ذلك موقعا حسنا منا جميعا. وكان متداولا أيضا قوله إن الحزب العراقي يجب ان يراعي التركيبة الدينية في اختيار سكرتيره العام، في إشارة لمسيحية فهد. كما كان متداولا عندنا دعايته للترويج لبديل فهد في شخص القيادي الراحل عزيز شريف. وأكثر من كل هذا فإن خالد بكداش- كما معروف عنه- كان من بين الزعماء الشيوعيين العرب الأكثر حماسا للخط السوفيتي، ولابد وكان قد اطلع على مناقشاتي لهذا الخط عامي 1964 و1965 في كراريسي ومحاضرتي. ولذلك كله، فحين قضيت في دمشق ثلاثة شهور [كما مر آنفا] في الطريق للعراق، فإنه لم يستقبلني إلا عشية سفري من دمشق بمعية رفيق سوري كردي باتجاه القامشلي. وكيف يمكن استحصال تأييده لعملية يدينها السوفييت؟!! حدث المطلع بما يعقل. أما غير المطلع، فيمكن أن تحاك له أية روزخونية مهلهلة على لسان متكسب مهووس![1]