#عزيز الحاج#
لو نظرنا للعالمين العربي والإسلامي، لما تعذرت رؤية هيمنة التيارات والقوى والأفكار المتطرفة دينيا، والمتشبثة بعباءة أحكام الشريعة، والتكلس على الماضي السحيق، والتجرد من النظرة النقدية العلمية، واحتقار المرأة والحداثة والفلسفة والعلوم الاجتماعية الحديثة؛ وما عدا دول قليلة جدا، [ تعاني هي الأخرى مشكلات كبرى اجتماعية وسياسية وثقافية]، استطاعت جماعات وأحزاب الإسلام السياسي وحلفاؤها السلفيون احتلال الساحة، اجتماعيا وفكريا، وسياسيا. وقد أضافت انتفاضات الربيع العربي زخما ومددا قويا للغاية لهذه الظاهرة الظلامية المرعبة، وخصوصا بعد هيمنة الإخوان على مقدرات مصر وإعلانهم للتو، وبصراحة من دون براقع، عن نية الأخذ بأحكام الشريعة كفلسفة دولة ومجتمع وكنظام وقوانين. وليست سورية محصنة تجاه الوافدة، ولا ليبيا ما بعد القذافي التي كانت أولى قرارات حكامها الإعلان عن مرجعية أحكام الشريعة والعودة لتعدد الزوجات ورفض السفور.
من أفغانستان لباكستان، وإلى إيران والعراق ومعظم دول الخليج يهيمن الفكر والممارسة الأصوليان، وتهضم حقوق الإنسان، خاصة فيما يخص المرأة وغير المسلمين وحريات الضمير والرأي والتعبير. أما تركيا، التي يحكمها حزب إسلامي، والتي يعتبرها الغرب، وخاصة أوباما، هي النموذج المرتجى للمسلمين وعليهم الاقتداء بتجربتها، فإن ثمة الكثير من المغالطات في هذا الشأن.
إن ما يجري تجاهله بإصرار هو أن حزب أردوغان هو وريث حزب أربكان الإسلامي المتطرف، وكان أردوغان في الثمانينات قد صرح: المساجد ثكناتنا، والمآذن رماحنا، والمصلون جيوشنا. ولكن هذا الحزب جاء للحكم في انتخابات جرت في نظام ديمقراطي علماني [ مع شوائب وعيوب] موروث من عهد أتاتورك. أي ليس حزب أردوغان هو من أقام هذا النظام، ولكنه استثمر حرياته العامة وحرية الانتخابات للوصول إلى أهدافه البعيدة خطوة فخطوة، وهي عودة الخلافة العثمانية في ظرف جديد وبإطار جديد. وحكام تركيا يراعون جدا، [على الأقل مرحليا]، انضمامهم لحلف شمال الأطلسي ومطالبتهم بعضوية الاتحاد الأوروبي، ولذلك يعملون بخطوات مدروسة وبصبر لنخر أركان العلمانية التركية بالتدريج. وقد وجهوا ضربات متتالية للجيش، الذي له دور فريد وخاص بتركيا، وهو دور حماية العلمانية. كما اجروا تعديلات على قانون القضاء لتطويعه. وفيما يخص الركن الآخر للعلمانية، وهو التعليم، فإنهم يشجعون الحجاب، وينوون إعادة المدارس الدينية التي سبق إلغاؤها. وخلال سنوات سيطرتهم على السلطة خطت تركيا خطوات عديدة نحو أسلمة المجتمع، فهناك مثلا هوس بناء المزيد من الجوامع، وهناك مقاه خاصة بالرجال وحدهم حتى في اسطنبول، تلك المدينة التي كانت بوابة تركيا على العالم. وقبل شهور صرح أردوغان بضرورة تنشئة جيل متدين ومحافظ في تركيا. وسوف يقام في اسطنبول، التي لا تنقصها الجوامع كما يكتب محمد نور الدين في صحيفة الخليج الإماراتية، أكبر جامع في أعلى تل.
صحيح أن مصطفى أتاتورك بالغ في بعض الحالات في بسط العلمانية في وجه حرب ضروس كان يشنها رجال الدين والفرق الصوفية المطالبين ببقاء السلطنة والخلافة، ومحاربتهم له لكونه منفتحا على الحضارة الغربية، واتهامه بالإلحاد وغير ذلك. ومع ذلك، فإن بعض أساليبه كانت قسرية، وخصوصا بفرض عادات وتقاليد جديدة ثانوية، كتبديل غطاء الرأس والأسماء أو طريقة السلام على الآخر. كما أنه تطرف في قمع ثورة الشيخ سعيد الكردية التي قامت باسم الله والدين، بدلا من استغلال الموقف للانفتاح على بعض حقوق الشعب الكردي. ومهما يكن، فإن ثورة التغيير التي أحدثها أتاتورك يجب أن تؤخذ بظروفها وما كان سائدا في الدولة العثمانية والعالم الإسلامي من هيمنة الخرافات وسلطة مشايخ الدين ورفض التقدم والحداثة. ومن هنا كان مغزاها الثوري التاريخي على النطاق الإسلامي كله.
يكتب المؤلف الفرنسي كلود سيكارد في كتابه الجديد الإسلام مجابها الديمقراطية بأن كون الشخص مسيحيا في تركيا يخلق له المصاعب. وهناك قسس جرى اغتيالهم ولم يعاقب القتلة. والكنيسة تتحدث عن كراهية المسيحية في تركيا. ونعرف أن الحكومة التركية تحاول اليوم تزعم العالم الإسلامي بتشجيع من إدارة أوباما، وهي تستغل الانتفاضات العربية لتتحالف مع الإخوان المسلمين وتساعدهم مع قطر. وتتحدث دراسة لعالم الاجتماع التركي بيناز توبراك [ ظهرت في 2008 ] عن الضغوط الشديدة التي يتعرض لها من لا يعترف بالهوية الإسلامية السنية لتركيا. وتقول إن الحزب الحاكم فشل في تعزيز التسامح ورعاية الحريات الفردية. وهناك تقارير عديدة عن سوء استخدام القضاء ضد المعارضين العلمانيين من صحفيين وعسكر، وغالبا ما تكون التهم مفبركة.
إن أردوغان أعلن في مصر بأنه ليس علمانيا، ولكنه يدعو المصريين للعلمانيةإ! ولا ندري كيف يكون حاكم غير علماني حريصا على العلمانية؟ وماذا يقصد بالضبط حين يتحدث عن العلمانية؟ أما المالكي فقد كفانا متاعب هذه المعضلة حين أعلن نهارا وجهارا بأنه عدو للعلمانية والحداثة. ومع ذلك فثمة من يصفونه بالديمقراطي ومنقذ العراق!
إن من يصوغون وعي المواطنين في العراق والمنطقة ليسوا الديمقراطيين وسائر العلمانيين، ولكنهم شيوخ الدين وقادة الأصولية الإسلامية السياسية والمثقفون والإعلاميون المسايرون لهم، سواء كان الخطاب صاخبا متطرفا، أو هادئا في المظهر ويحمل المضمون نفسه[ طارق رمضان في الغرب نموذجا]. واستغلال الدين لنشر الهيمنة على المجتمع والسلطة هو الورقة الرائجة والناجحة لحد اليوم، وكذلك لتصفية الحسابات السياسية. وها هو جلال الصغير في العراق يستخدم المذهب والدين للترويج لإبادة الأكراد، دون أن يلقى إدانة رسمية صريحة وحازمة. وقد سبق للكاتب عادل الطريفي أن نشر في الشرق الأوسط مقالا متميزا بعنوان الذين يشكلون وعينا [ تاريخ 1 ديسمبر 2010]، عن انحسار الفكر التنويري الذي يدعو للقيم الديمقراطية والانفتاح على العالم الغربي والتطور، وكيف أن الفاعلين في عقول الناس والذين يصوغون وعيهم السياسي والديني، [مستغلين انتشار الجهل والأمية]، هم الدعاة الإسلاميون، معممين وغير معممين، وما بين الصادم منهم بصراحته وتطرفه، و الناعم خطابا والمسموم مضمونا. ولكنهم جميعا متفقون على مشروع الإسلام هو الحل. وقد انتهت الانتفاضات العربية الجديدة نهايات سلبية لأسباب عدة، لعل في مقدمتها أنه لم يسبقها ويرافقها عمل فكري تنويري علماني مبسط وواضح، ولم تكن لها قيادات منظمة وذات تجربة سياسية متقدمة وفكر سياسي ناضج.[1]