#عزيز الحاج#
إن طريق صعود العلمانية في العراق والمنطقة طويل، وطويل جدا، وأمامه سدود وأسوار وتحديات جسام، سياسية واجتماعية ودينية وفكرية. وكما علق بعض القراء الأفاضل، فإن الجهد الأول للعلمانيين عندنا يجب أن يكون فكريا، وكذلك تحديث التعليم وتنويره. وإذا كان العمل الفكري التنويري يفترض أن يكون مباحا، أي فرديا وحرا، فإن التعليم هو في أيدي الحكومات والمراجع الدينية. وها نحن في العراق وقد انحرف حزب الدعوة بكل من وزارتي التربية والتعليم معا لصالح تشجيع الطائفية وتقليص حقوق المرأة وتحويل الجامعات لحسينيات. وحين نأتي للعمل الفكري التنويري نفسه في ظروف المنطقة اليوم، فإنه محفوف بالأخطار لسيادة العقليات التي يصوغها الإسلام السياسي والسلفيون والفقهاء وكل المتاجرين بالدين، ولهؤلاء كل أدوات التضييق وخلق الاتهامات والمحاصرة والمضايقة والمطاردة، والقدرة على التنكيل بكل من يجرؤ على تفكيك أحكام الشريعة، وكيف أنها وجدت لزمان غير زماننا، وعلى تفنيد فتاوى المشعوذين المتاجرين، وتعرية حقيقة الإسلام السياسي وأهدافه الحقيقية، بكل مذاهبه وأزيائه ورجالاته، معممين وغير معممين، ومتطرفين و وسطيين معتدلين هم من الجذر نفسه. فحرية النشاط الفكري العلماني والديمقراطي مرتبطة بمدى توفر الحريات العامة والشخصية، وبالتالي النضال، في الوقت نفسه، من أجل الحريات وضد أساليب القمع.
لقد تجرأ الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، في منتصف العشرينات، على تفنيد نظرية الربط بين الدين والدولة، قائلا إن السلاطين روجوا لهذا الخطأ الذي سار بين الناس أن الخلافة مركز ديني ليتخذوا من الدين درعا يحمي عروشهم ويذود الخارجين عنهم[ *]. وهنا ثار شيوخ الأزهر، وحاكموه، وطردوه من فئة العلماء، وحرموه من كل وظيفة. ويقيناٌ لو كان كتابه قد صدر اليوم لسجن، إن لم يعدم. وفي 1928، أسس حسن البنا حزبه، أي جماعة الإخوان المسلمين، الذي رفع شعار الإسلام هو الحل، واتبع مختلف السبل للتغلغل في المجتمع وجهاز التعليم والعمل الدؤوب للوصول للسلطة، متخذا ألف قناع وقناع. ولم يتورع الحزب المذكور من استخدام أساليب الاغتيالات المتكررة في الأربعينات. وجاء سيد قطب ليطور فقه الأصولية الإسلامية السياسية الجهادية في كتبه، ومنها معالم الطريق، وليأتي بنظرية حاكمية الله، فالإنسان غير قادر على حكم نفسه وإنما الله هو الذي يعين له من يجب أن يحكمه نيابة عنه، [عند الخمينية نيابة عن الإمام الغائب]. وسيد قطب روج لكون أن الإسلام لا يعرف غير مجتمعين: إسلامي وجاهلي. وعلى كل مجتمع تطبيق شريعة الله في حياة البشر. ويذكر أن خامنئي ترجم قبل الثورة الإيرانية بعض كتب سيد قطب مما يدل على القرابة الفكرية برغم اختلاف المذهبين. وحين كان مهدي كروبي رئيسا للبرلمان الإيراني، قام بتأسيس شبكة دولية للأصوليات الإسلامية كان من رموزها حسن الترابي. ويذكر أيضا أن المرحوم مهدي الحكيم اغتيل في السودان في منتصف الثمانيات وهو ضيف عند حسن الترابي.
واليوم، فإن الإسلام السياسي، متربع على رقاب معظم مجتمعات المنطقة والسلطة، وفي يديه الحول والطول، وهو الذي يوجه النشأ الجديد في المدرسة والجامعة، [والفقهاء في الجامع والحسينية]، ويسيطر على الإعلام والثقافة وفقا لنصوص وروح أحكام الشريعة، التي تعني أول ما تعني امتهان كرامة المرأة واعتبار غير المسلمين إما مواطنين ثانويين ومهمشين أو كفرة وأعداء. كما هي تعني محاربة الحس النقدي ونشر ثقافة ماضوية متخلفة. ومع أن في القرآن آيات مثل لكم دينكم ولي ديني ، و لا إكراه في الإسلام، وآيات تعترف بعيسى وموسى، فإن الأصوليين المسلمين يعتبرون هذه الآيات منسوخة ويتشبثون بهوس الجهاد، أي الإرهاب، باسم نشر الإسلام في العالم كله باعتباره وحده دين الله الحق. وهذا مما يخيف الكثيرين في الغرب حين يجدون منظمات وجماعات ومدارس إسلامية في العواصم الغربية تدعو لتطبيق الشريعة وتهاجم القيم العلمانية والمبادئ الديمقراطية الغربية، وتقود جماهير واسعة من المسلمين لتحدي القوانين والقيم والتقاليد الغربية، كالمطالبة بقبول النقاب أو فرض الحجاب في مدارس الدولة، أو الصلاة في الشوارع، أو إعطاء اللحم الحلال للتلاميذ المسلمين، او إعفاء التلميذات من الرياضة، أو عزل المرأة عن الرجل في الحمامات العمومية، أو زواج القاصرات، أو تبشير المدارس الإسلامية في الغرب بقطع يد السارق ورجم المرأة وقتل المثليين- ناهيكم عن جرائم الشرف، وغير هذه الممارسات أو تلك.
كثيرون منا يتهمون الغرب بالعنصرية والتمييز ضد المسلمين بينما يتمتع المسلمون المؤمنون بكامل حرية ممارسة فروضهم الدينية ولهم آلاف الجوامع، والتنظيمات الخاصة بهم. والغربيون لا يحكمون بالسجن، ناهيكم عن الموت على مسيحي منهم يبدل دينه ليصير مسلما ولكننا نعتبر المسلم المغير لدينه مرتدا يستحق الموت. والعدد الأكبر من أئمة الجوامع في المنطقة يخطبون في السياسة ويرجمون اليهود والمسيحيين بالخطب. وبينما تنشط الجوامع وحتى المدارس الإسلامية في الغرب، فنحن لا نجد كنيسة واحدة في عدد من الدول الإسلامية، والمسيحيون المحليون أنفسهم مهددون بالانقراض. ومثال العراق شاهد، والتعامل مع أقباط مصر شاهد آخر. وإذ انتقدت الدول الغربية التي كانت دولا مستعمرة عهود استعمارها وانتقدت الكنيسة الحروب الصليبية، واعتذروا للمسلمين، فإننا لا نزال نمجد في مدارسنا وجوامعنا وإعلامنا الغزوات والفتوحات التي سبت النساء وجلبت الجواري وقطعت الرقاب وحولت الكنائس إلى جوامع. ولا يزال خالد بن الوليد وطارق بن زياد أبطالا يسمي به ثوار: اليوم كتائبهم المسلحة، ولا نزال نحلم بالعودة للأندلس كأصحابها.
إن العلماء الذين أنجبتهم الحداثة والعلمانية اخترعوا الكهرباء والهاتف والانترنيت ووسائل النقل الحديثة ومختلف الأدوية لعلاج مختلف الأمراض، ووصلوا للقمر وقريبا للمريخ، فماذا أنتجت المجتمعات الإسلامية؟ هل نتباهى بالعلماء في بول البعير؟!!! ولنر ما يقترن اليوم بهذه المعارضات الثوروية المسلحة وغير المسلحة من انتشار هوس العنف والانتقام في الشارع وبين النخب، وقيام الجموع بأخذ دور القضاء والحكم، [مصر مثال صارخ]، من ملاحقة من يعتبرونه لصا أو بلطجيا [ ربما كان حقا كذلك] وضربه في الشارع حتى الموت والتمثيل البشع بجثته. ورأينا أيضا كيف جرى القتل الهمجي للقذافي.
إن الحداثة والعلمانية ليستا كما يزعم البعض في البكيني والميني جوب وغير هذين من قشور، بل هما في تطور العلوم والاقتصاد والخدمات العامة والحريات الشخصية والعامة والمؤسسات الديمقراطية. وكثيرون ممن يتهمون علمانية الغرب وحداثته وديمقراطيته هم أنفسهم يركضون لهذه الدول كمهاجرين أو لاجئين أو طالبي الدراسة، ومنهم للتنفيس الجنسي.
العلمانية قد تكون قاصرة أو مشوهة، أو انتقالية وهجينا، كما الديمقراطية. فالثورة البلشفية طورت المجتمع والاقتصاد السوفيتيين، وأنجبت العلماء ونوابغ الطب ووسعت حقوق المرأة، ولكن لا يمكن القول إن النظام السوفيتي كان علمانيا بالمعنى الدقيق لأنه حارب الدين والمتدينين والعلمانية لا تحارب الدين، ولأنه كان نظاما شموليا قمعيا منغلقا. والحداثة لا تعني فقط الصناعة المتطورة والتعليم العصري والخدمات الراقية، بل تعني أيضا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن العمل الفكري التنويري وتنقية التعليم وإصلاحه بروح العصر وقيمه [ وليس فقط بأساليب التنظيم والتقنيات]، هما في مقدمة شروط نجاح العلمانية عندنا، مرحلة فمرحلة. ولن يكتب للعلمانية عندنا أن تنمو وتتقدم بخطوات ما لم تنهزم ثقافة العنف والجهاد باسم الدين، وما لم تحترم وتصن حقوق المرأة، وما لم يعامل غير المسلم كمواطن متساوي مع المواطنين المسلمين في الواجبات والحقوق، بما في ذلك حق الوصول لأعلى مناصب الدولة، وما لم تحترم وتضمن حريات الفكر والتعبير والعقيدة وحرية الإبداع، بعيدا عن سيوف رقابة المتشددين وسلاطين اليوم. إن أمام العلمانية والعلمانيين في العراق والمنطقة مهمة الرد على ثقافة الحرام والحلال والأوامر والنواهي وثقافة الاستشهاد، والعمل الفكري المبسط والدائب بين الناس لنشر ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان والإيمان بالعلم والتقدم الحديث، وفضح فتاوى المزايدين وما يروجون من خرافات وجعلها مثار سخرية المواطنين ورفضهم.
إنها لمهمات شاقة وكثيرة التعقيد حين نرى ظروف اليوم وأوضاعه والأمية المنتشرة. ولكن لا بد مما ليس منه بد- أي العمل الفكري الواضح والشجاع ولو كان القائمون به هم قلة على أن يكونوا على يقين بأنهم إنما يجازفون ويخطون الخطوات الأولى لا غير، وإن الرسالة يجب أن تنتقل لمن بعدهم، عقدا فعقدا، إن لم يكن جيلا بعد جيل!! واما من يسقط ضحية في هذا السبيل النبيل، فإنه هو الشهيد الحقيقي...
31 آب 2012
[ * قال نزار قباني
ما جاء حاكمٌ
لهذه المدينة المقهورةِ
المكسورةِ
الحزينةْ
إلا ادعى
بأنه الممثل الشخصيُّ
والناطق باسم اللهْ
فهل من المسموح أن نسأله تعالى،
هل أنت قد أعطيتهم وكالةً
مختومةً،
موقعةْ
كي يسلخوا الأمة مثل الضفدعةْ
ويجثموا على رقاب شعبنا
إلى الأبدْ؟]
أبيات يستحسن أن يقرأها أمثال مرسي وغنوشي وخامنئي وخليفة السودان وحسن نصر الله. وبالمناسبة، ففي المقال السابق، وردت أسماء شعراء ولم نذكر آخرين، وهم أيضا أفذاذ لأن القائمة طويلة، فمنهم نزار والجواهري وإيليا أبو ماضي وغيرهم. وهناك أدباء كجعفر الخليلي عراقيا، وفنانون ومغنون وممثلون ،ألخ.. لم يكن قصدي غير ضرب بعض الأمثلة وليس العد والتوسع.
وبالعودة لهذه الأبيات، فربما يمكن أن نضيف اليوم، إلى جانب الحكام، جيش الوعاظ، كالقول:
ما جاء يوما واعظ
لهذه المدينة المقهورةِ..... المكسورةِ... الحزينةْ..
إلا ادعى بأنه الممثل الشخصيّ
والناطق باسم الله...
فهل من المسموح أن نسأله تعالى
هل أنت قد أعطيتهم وكالة
مختومة،
كي يزرعوا السموم في الفتاوى
وينشروا الظلاما
لترقد العقول في الكهوف والأنفاقْ؟؟![1]