شنكال.. من ألم الإبادة إلى انتصار الإرادة- الجزء الأول
في الذكرى السنوية الرابعة لمجزرة شنكال، التي تعتبر أكبر وأبشع المجازر بحق الإنسانية في العصر الحديث، مرّ خلالها المجتمع الإيزيدي في منطقة شنكال والعراق عموماً بمراحل ومحن عصيبة قبل وبعد المجزرة، إلا أنها تمكنت من التغلب على خطر الإبادة بالتنظيم والإرادة، لتحمل في خضم تجربتها هذه مشروعاً ديمقراطياً يكفل حقوق المجتمعات والأثنيات في العراق عموماً ويحل قضاياها وينهي نزاعاتها العرقية والطائفية.
شنكال المدينة الجميلة في التاريخ
شنكال الجبل وما يحمله من حجر وماء وشجر وما يحيط به من سهل ونهر، وشنكال التي ذكر اسمها في الأسفار القديمة والكتب السماوية وفي رسائل الملوك والأباطرة وكتابات كل مؤرخ مر بالمنطقة عبر العصور، وفي أخبار كل حرب وسلم، لم تكن منسية ومهمشة ثقافياً واجتماعياً إلى هذه الدرجة إلا بعد تشكيل الدول العراقية القومية الحديثة بفعل الاستعمار وتصاعد الذهنية القومية نتيجة لنظامها المستبد والإنكاري المتماشي وفق مخططات الاستعمار الأجنبي.
فتعتبر شنكال أم القصة والحدث التاريخي في الثقافة الكردية وحضارتها عبر التاريخ نظراً للاستنجاد بها في كل حدث قد حصل من فرح أو ترح في حرب أو نصر، حيث كانت دائماً السند والدعم أو الملجأ لشعوب كردستان من كرد و سريان و أرمن. إلا أن سياسة الإبادة المتكررة عبر العصور على يد الغُزات الغرباء أخفت الكثير منها والتي لا تزال إلى يومنا هذا تهدف إلى إبادتها، وإن أمكنهم لأبادوا وطمسوا ذاك الجبل الشاهق الفاصل بين الصحراء ومناطق جزيرة بوطان.
شنكال في التاريخ
من حيث الاستيطان البشري في هذه النقطة البارزة فإنه وبحسب علماء الآثار تعود إلى ما قبل 11 ألف سنة قبل الميلاد، خاصة في المنطقة الجنوبية من جبل شنكال وأكثر النظريات حول أصول سكانها حينها تشير بأنهم كانوا زاغروسيين، ثم لاحقاً كانت استمراراً لثقافة تل حلف الهورية ( أسلاف الكرد)، المنشأة على ضفاف نهر خابور بروجافاشمال سوريا قبل الميلاد ب 6 آلاف سنة، وأثبت العلماء بأن حياة قروية مستقرة كانت قد وجدت على حواف جبل شنكال بشكل كبير.
وتعاقبت على شنكال كمنطقة الكثير من الامبراطوريات أهمها الآشورية والميدية والميتانية- الهورية والرومانية، حيث كانت تلعب دوراً سياسياً وعسكريا واقتصادياً مهماً في كل حقبة من تاريخ الحضارات المتعاقبة، باعتبارها كانت نقطة وصل استراتيجية بين سوريا والعراق وتسيطر على كافة الطرق التجارية المارة بين المنطقتين.
كما جعلها أشرف موسى الأيوبي عاصمة له لتعيش شنكال حينها ذروة ازدهاره العماري والاقتصادي والثقافي في تلك الحقبة، إلى جانب كونها أصبحت مراراً كمملكة مستقلة أو مركز دولة مستقلة لعدة فترات قبل الحقبة الإسلامية.
شنكال التي احترقت شنكالا شه وتي
ويذكر في الأخبار والأغاني الكردية الفلكلورية القديمة جملة شنكال التي أحرقت أي شنكالا شه وتي وهذا الحدث قد انطبع في ذاكرة الكرد لكثرة الحروب والويلات التي ذاقتها شنكال على مر العصور، فقد تكرر تدمير وحرق شنكال عدة مرات وعلى فترات، حيث أحرقت أول مرة على يد الفرس في عهد شابور سنة 260 م وعهد هرمز الثاني سنة 302-309 م، وأكثر الحروب دموية كانت بين الفرس والروم على أرض شنكال سنة 348 حيث هزم الروم وارتكب شابور الثاني مجزرة مروعة بحق شعبها ليقتل معظمهم ويأسر بعضهم إلى فارس.
من ثم أحرقت ونهبت في عهد الغزو الخوارزمي سنة 628ﮪ ، تلته هجمات المغول في سنة 633 ﮪ على كردستان والمنطقة لتحرق وتقتل وتشرد أهلها عدة مرات، ثم تكررت في العهد العثماني وبعدها في عهد ديكتاتورية صدام، وكانت آخر الهجمات وتدمير المدينة وحرقها على يد إرهابي داعش في 03-08-2014 التي شردت وقتلت الآلاف وأحرقت معظم المدينة ودمرت معالمها التاريخية.
في العهد العثماني:
يعتبر عهد السلاطين العثمانية من أكثر الفترات الدموية التي مر بها المجتمع الكردي ولا سيما شنكال والإيزيديين، تلك المنطقة التي كانت عصية على سلاطينها والرافضة للتبعية، والأمر الأهم أنه في الفترة العثمانية حارب سلاطينهم الكرد بحجة الدين وكانوا يهدفون إلى تغيير دين الإيزيديين بالقوة ونشر الإسلام بينهم لذلك ارتكبوا أبشع المجازر في مناطق مثل ولات شيخ و خالتا و شنكال الإيزيدية.
ويؤكد المؤرخون الكرد والإيزيديون منهم على الخصوص، بأن معظم المجازر والإبادات الجماعية التي طالت المجتمع الايزيدي والسرياني والأرمني في كردستان عموماً كانت في الفترة العثمانية، كما أن معظمها موثقة بالأغاني والملاحم الشعبية التاريخية لمنطقة شنكال.
ما تتميز به شنكال
لكثرة أحداثها التاريخية وما حملتها من عواصف حزن أو فرح فإن شنكال وجبالها تتميز بأن كل نقطة منها تعرف باسم وتحمل قصة ما، سواء كان كهف أو سهل أو مرتفع ووادي وزاوية وساحة من الجبل أو قرية و نبع وشجر تحملها، فلا يوجد مكان منسي أو غير مؤرخ دون قصة حتى قطعة أرض مبسطة في زاوية ما منها.
حتى أنك إذا مررت على سفح الجبل فسوف تلاقي عدة أشجار كبيرة على جانبي الطريق في منطقة سردشتى تعرف بأشجار القوالا المقدسة وهم طبقة دينية ممن يطوفون القرى الإيزيدية قادمين من لالش ( مركز العبادة الإيزيدية في قضاء شيخان بمحافظة دهوك) ليحلوا المشاكل الاجتماعية ويتلون على مجتمعهم العظات الدينية وتعاليمها حاملين بعض الأمور المقدسة كتقليد، حيث كانت تلك الأشجار مكاناً ليجتمع الشعب حولهم ويتلقوا تعاليم لالش النوراني بخصوص دينهم.
بالإضافة إلى أنها تحضن في طيات تاريخها أسطورة سفينة نوح التي حاولت أن ترسوا عليها قبل أن تحط على جودي وذكرت في الكتب السماوية، فإنها تحتضن أيضاً أعظم ملحمة في تاريخ الأدب الكردي عن العشق ومآثر الشعب الكردي وهي ملحمة درويشى عفدي وعدولة.
كما تتميز بجوها النقي والصافي وإطلالتها الخلابة والنادرة على كافة المنطقة الفراتية وسهول جزيرة بوطان، إلى جانب اشتهارها بزراعة التين والكروم الشنكالية المميزة والتبغ، ناهيك عن عشرات المزارات والقبب اللالشية التاريخية المتناثرة على كامل الجبل والقرى المحيطة بها.
التغيير الديمغرافي في شنكال وتعريبها عبر التاريخ
مثلها مثل كافة المناطق الكردستانية في الأجزاء الأربعة فإنها عانت من التعريب والتغيير الديمغرافي بقوة منذ قرنين وإلى وقتنا هذا، فقد بدأت عمليات التغيير الديمغرافي مع سيطرة العثمانيين على شنكال سنة 1516م، حيث نالت شنكال القسط الأكبر من استبدادهم كون العثمانيين حاربوهم في الدين بقوة من أجل أسلمتهم، لتقوم بعدها سنة 1879م بتقطيع أوصالها من جزيرة بوطان وتتبعها إلى ولاية موصل.
نهايات القرن ال 19 وبدايات القرن العشرين بدأت هجرات لبعض العشائر في شبه الجزيرة العربية وبالأخص من نجد والحجاز لتستقر في الربيعة ومحيط جبل شنكال، التي كانت قد فرغت بسبب الحصار والهجمات العثمانية وانسحاب أهلها إلى الجبل.
بعد انتهاء الصراع بين الإنكليز والفرنسيين على منطقة شنكال سنة 1921 واتباع الأخيرة للعراق، الواقعة تحت سيطرة الانتداب البريطاني وتأسيس الدولة العراقية القومية 1932، اتبع 90% من منطقة شنكال لولاية موصل وبقي جزء بسيط منه في روجافاشمال سوريا.
بعدها بدأت عملية بتر جسد شنكال وتوزيع قراها وأراضيها الزراعية على المناطق العربية الشبه صحراوية مثل قضاء البعاج و القيروان وتل أعفر وإسكان العرب في المناطق التي هُجر منها الكرد الإيزيديون نحو الجبل. لكن التعريب الكبير كان في عهد صدام في سبعينيات القرن الماضي حين قاموا بتوطين العرب بالقوة داخل مدينة شنكال وإفراغ الجبل وحرق أكثر من 150 قرية و تدميرها وجمع أهلها في تجمعات سكنية صناعية شمال و جنوب الجبل و تغيير الأسماء في كل منطقة.[1]