#عزيز الحاج#
لا يزال تقييم انتفاضة الجيش العراقي في 14-07- 1958، والتي سرعان ما التفت حولها القوى السياسية الوطنية وأكثرية الشعب، موضع أخذ ورد، وخلافات كبرى، عراقيا وعربيا. وإذا كان التشنج والتحامل هما السمة الغالبة للمواقف العربية من 14 تموز، فإن النظرة الإيجابية هي الغالبة في التقييم السياسي العراقي- أقول غالبة، ولكنها غير متفق عليها. فلا تزال هناك آراء عراقية ترى في تلك الثورة باب جهنم الذي فتح على العراق، وجسر الشر الذي مرت من خلاله النكبات، من صراعات دموية وتحطيم للمؤسسات، بل هناك من يربطونها بالدكتاتوريات الجمهورية المتعاقبة وكأنها هي السبب.
وهناك من يمجدون إنجازات الثورة، كالإصلاح الزراعي، وحقوق المرأة، والعمران، ورعاية الكادحين، وبناء الجامعة، والتطور النفطي، ولكنهم يرون أن تلك الإصلاحات كان يمكن أن تتم تدريجيا وبأساليب سلمية في العهد الملكي نفسه، بوصفه – عندهم- كان هو عهدنا الذهبي.
ونجد تباين التقييم والنظرات بوجه خاص تجاه زعيم الثورة عبد الكريم قاسم وحكمه، وأنا ممن غير أحكامه مرارا بهذا الصدد. ووصفته مرارا في بعض كتبي بالحاكم الديكتاتوري ولكن الوطني الذي أحب شعبه. ولا يزال هناك يساريون يصفونه بالدكتاتور.
لقد كتبت الكثير عن الموضوع، وقرأت عنه الكثير، من كتب ومقالات، وتوصلت مع الزمن إلى التالي:
كان التطور الإصلاحي السلمي، على خطوات ومراحل، هو الطريق الأفضل والأسلم للعراق، وذلك فيما لو كان ذلك ممكنا. فطريق العنف، بانقلاب عسكري أو ثورة مسلحة شعبية، أو أساليب كفاح مسلح أخرى يحمل معه مخاطر نشر العنف وردود فعله بالعنف، وغرائز التدمير والانتقام، وتحول الشارع لميدان للغوغاء من عشاق التدمير يطغون على حكماء أهل الثورة. وقد كان التطور السلمي نحو الأفضل ممكنا في العهد الملكي [كما كان ممكنا في مصر قبل الناصرية]، فقد فتحت منافذ للضغط باتجاه الإصلاحات في فترات معينة، ومنها فترة عامي 1953 و1954 [حتى منتصفه]، وأعني وزارات فاضل الجمالي وأرشد العمري. غير أن عودة نوري السعيد للحكم في منتصف 1954، بعد اضطرار الوصي للذهاب لباريس لكسب رضاه [كان الوصي على خلاف مع السعيد]، وحله البرلمان، وإصداره لمراسيم القمع وتصفية ما كان من حريات، وضرب الأحزاب، وحملات الاعتقال، وفرض حلف بغداد بتلك الأساليب القسرية، قد أغلقت منافذ التحول السلمي. ولا ننسى الدعاية الناصرية الصاخبة ضد حلف بغداد والعراق، والتهاب المشاعر القومية بعد العدوان الثلاثين، وهو ما كان يؤثر على عواطف ومواقف شرائح من ضباط الجيش الوطنيين.
إن من حسن الحظ أن عبد الكريم قاسم كان هو الزعيم الفعلي للحركة الانتفاضية العسكرية، ولو كان الزعيم الفعلي قوميا أو يساريا، فلربما كانت الأمور ستكون أكثر تعقيدا والأضرار أكبر. فما كان يتحلي به عبد الكريم قاسم من صفات وفضائل، كحب الشعب والعراق، والتعاطف مع الأفكار الإصلاحية، جعل ممكنا أن تحقق الثورة عددا من المنجزات الكبيرة، والحيلولة دون تحولها لنظام شمولي دموي على الطريقة الناصرية، أو شمولية عسكرية يسارية. وقاسم اعترف بالأحزاب وشكل حكومة كانت تمثل نوعا من حكومة الائتلاف الوطني باستثناء أن الشيوعيين لم يمثلوا فيها، إلا فيما بعد.
عبد الكريم قاسم كان الحاكم الثاني بعد فيصل الأول الذي جعل من خدمة العراق وشعبه همه المحوري، والذي كان يتصف بالتسامح والنظرة المتساوية لجميع المواطنين. ولكن ظروف الانقلاب، الداخلية والإقليمية والدولية، لم تسمح لكي تستطيع الثورة بناء نظام ديمقراطي برلماني راسخ. والمسئولية الرئيسية تقع على الصراعات السياسية الحزبية، خاصة بين الشيوعيين وبين القوميين من بعث وناصريين وغيرهم، وهي القوى التي جاءت من سراديب العمل السري وهي متعطشة لاحتكار الساحة وإزاحة الآخرين. ولعبت مصر الناصرية دورا سلبيا للغاية في إشعال تلك الصراعات حين دعا حلفاؤها العراقيون إلى وحدة فورية اندماجية مع العربية المتحدة، وهو هدف لم يكن معتمدا لا في اتفاق جبهة الاتحاد الوطني ولا بين ضباط الانقلاب. وهناك طبعا دور إيران وشركات النفط والسياسة الأميركية التي كانت تحمل هواجس الحرب الباردة وتخشى الهيمنة الشيوعية على العراق. ولا شك أن مواقف ونشاطات الشيوعيين العراقيين قد شجعت على اتهام الثورة وقاسم بالسير تحت التأثير الشيوعي- وأعني مثلا، المبادرة لتأسيس لجان صيانة الجمهورية، وتجاوزات المقاومة الشعبية، وانتهاكات الموصل، وخاصة مذابح كركوك، وشعار إشراك الحزب في الحكم في مظاهرة جماهيرية ضخمة. كما هناك خطة قمة قيادة الحزب في منتصف 1959 حين بلغتها إشاعات مؤامرة لضرب مقار الحزب وضرب قاسم، واعني خطة التصدي للمؤامرة، وضربها بتدخل الضباط الشيوعيين وإجبار قاسم على تشكيل حكومة من الديمقراطي الوطني واليسار القريب من الشيوعي. إن تحركات تلك الليلة وصلت الزعيم عبد الكريم قاسم فأضافت لمخاوفه من الحزب الشيوعي واقترن ذلك بأحداث كركوك. ومن هنا جاء ابتعاده عن الشيوعيين وحملته الإعلامية الصاخبة عليهم.
إن عبد الكريم قاسم كان حاكما طيبا ونزيها ومتسامحا، ولكنه انزلق في طريق تشجيع عبادة الفرد، ولم يكن يتصف بالدهاء السياسي المطلوب من حاكم لدولة محورية في المنطقة كالعراق. وقد وافق على أحكام إعدام كثيرة لم يكن معظمها مبررا، وخصوصا إعدام الضباط القوميين. صحيح أن الشارع اليساري كان يشتد في الضغط، والدعاية الناصرية كانت تحرضه من خلال وصفه بالضعف والجبن، ولكن قائد دولة يجب أن يكون محصنا تجاه الضغوط الغوغائية والابتزاز. كما كان عليه تشكيل لجنة تحقيق في كيفية إبادة العائلة المالكة بلا مبرر ولا مسوغ، وتحديد المسئوليات ومعاقبة المنفذين. إن إبادة فيصل الثاني وعائلته كانت جريمة تاريخية لا تشرف سجل الثورة، وقد آن الأوان لرد الاعتبار للعائلة الملكية.
إن مجموع الأحزاب والتيارات الوطنية عهد ذاك كانت، وبدرجات متفاوتة، تفتقر إلى النضج السياسي، ولا تمارس الاعتدال السياسي، ولا تعرف فن المرونة ولا تقدر تماما موازين القوى الإقليمية والدولية. الشيوعيون كانوا مستعجلين، والقوميون فجروا صاروخ الوحدة الاندماجية، وكامل الجادرجي تعامل بجفاء مع زعيم الثورة، والقيادة الكردية انزلقت إلى حمل السلاح ضد الحكم وراحت تنسق مع أعدائه من بعث وغيرهم. وقاسم كان شبه ضائع في الوسط، فلا هو أسس حزبا يواليا وفق برنامج إصلاحي، ولا خفف من احتكاره للقرارات المصيرية، ولا عرف كيف يرى طريقه نحو الخروج من الحكم الفردي إلى طريق منفتح على بناء المؤسسات الديمقراطية.
عبد الكريم قاسم لم يكن ديكتاتورا. كلا، أبدا. إن الحاكم المتسامح لا يمكن أن يكون ديكتاتورا، فالديكتاتور لا يحكم بغير العنف والدم؛ إنما كان قاسم قد تحول لحاكم فردي، خاصة وقد أشبعته الجماهير المحبة من الألقاب والأوصاف بما شجع لديه درجة من النرجسية.
لقد انتقد الحزب الشيوعي مواقفه المتسرعة والصاخبة في العام الأول من العهد الجديد. وقد جاء ذلك في الاجتماع الموسع للجنة المركزية في تموز 1959 بعيد خطاب قاسم في الكنيسة ضد الشيوعيين. وهذه الحقيقة لا نكاد نجد لها ذكرا في مذكرات بعض الرموز الشيوعية الراحلة، ولا في الكثير مما يكتب اليوم. ويذكر أن عامر عبد الله وعبد القادر إسماعيل كانا الصوتين الأبرز في النقد في ذلك الاجتماع. كما أذكر تأييدي لذلك النقد، ثم تراجعي بعد سنوات وتأنيبي لنفسي بشدة لذلك الموقف الذي كان صحيا!! وهكذا جعلت نفسي في كتابي مع الأعوام وبعده على تأييدي للناقدين وقلت مثلا: لن أغفر لنفسي أبدا قصر نظرتي السياسية، الناجم عن عزلتي عن واقع ما كانت تحس به الجماهير والقاعدة الحزبية، وعن نقص التجربة السياسية، والاستعداد للتأثر بالآخرين!!! وهكذا انتقدت موقفا سليما اتخذته، لأعود اليوم لانتقاد ذلك الانتقاد.
ومع تطور الأوضاع، وحملات اغتيال الشيوعيين في الموصل وبغداد، واندلاع الحركة الكردية المسلحة والتطورات اللاحقة، تبدل الخطاب الشيوعي تدرجيا نحو الإدانة ووصف قاسم بالدكتاتورية. وفي منتصف 1962 حوسب عدد من قادة الحزب حسابا عسيرا على ما اتهموا به من ميوعة ويمينية في الموقف من دكتاتورية قاسم، وكان منهم الراحلون عامر وزكي خيري ومحمد حسين أبو العيس، أبو حسان، ومنهم بهاء الدين نوري وآخرون. وكانت من أهم انتقادات الحزب في أواخر عهد قاسم إهماله لكثرة من التقارير والمعلومات عن خطط الإطاحة بالثورة وبه، وهذا كان نقدا في محله إذ كانت هناك دلائل كثيرة على التحركات التآمرية ولكن يظهر أنه أراد صيد المتآمرين عند محاولة التنفيذ، ولكنهم هم سبقوه، واغتالوا الثورة واغتالوه هو بأكثر درجات الوحشية والجبن خسة ونذالة. كما راح مئات المناضلين اليساريين والديمقراطيين شهداء حكم 8 شباط الفاشي وامتلأت السجون والمعتقلات وأعلن حكم الإرهاب الدموي.
لقد انزلق البعثيون والقوميون الناصريون من المشاركة في الثورة إلى الانقلاب عليها باسم الوحدة العربية التي لا تزال مجرد حلم برغم كثرة المشاريع والخطابات وبرغم مرور عقد زمني بعد آخر. وعبد الكريم قاسم، الذي اتهم بالشعوبية ومعاداة القومية العربية، عمل على تمتين العلاقات مع العربية المتحدة، وساعد الحركة الوطنية الجزائرية والفلسطينيين. فكيف يكون معاديا للعروبة لمجرد أنه وقف ضد محاولة اندماجية تلحق العراق بمصر وبنظامه الشمولي؟! ولا كان الشيوعيون أعداء للعروبة وهدف الوحدة ولكنهم في هذه المسألة كانوا واقعيين، ويدعون إلى تعزيز تطور كل بلد عربي أولا مع إقامة علاقات تنسيق وتعاون واتحاد حيثما كان ممكنا. وإن عبد السلام عارف، الذي فجر قنبلة الوحدة الاندماجية، لم يحقق ما نادى به حين استفرد بالحكم بعد إزاحة حكم البعث أواخر 1963. والوحدة السورية – المصرية هي التي أجهزت على الوضع الديمقراطي النسبي الذي كان يسود سوريا.
إن الساسة القوميين كانوا يوجهون الاتهامات لكل من يرفض أن يكون ضمن المدرسة الوحدوية الكلانيّة، الرافضة لمعاينة تباين الظروف والأوضاع العربية والميالة لاستبعاد الآخر، والقائمة على محو الوطن باسم الأمة [كما يفعل الإسلاميون باسم الدين]، وباسم النصر على الصهيونية، وعلى إلغاء الدولة المؤسساتية لصالح دولة الفرد. ولو يؤد ذلك النهج لغير الكوارث، كما في هزيمة 5 حزيران، وفي غزو الكويت. ومما يسر أن فرقاء وأحزابا من التيار القومي قد تعلمت من التجارب وصححت الكثير من القناعات والمواقف. وهذا ما يشرفها.
أما في القضية الكردية، التي أشغلت مختلف الأنظمة العراقية، فإن عبد الكريم قاسم هو الذي أعاد للعراق الزعيم الكردي الراحل مصطفى البرزاني وأكرمه، وفي عهده اعتبر الدستور المؤقت أن العراق شراكة عربية – كردية. وقد انزلقت القيادة الكردية لحمل السلاح بعد فتن مسلحة لبعض رؤساء العشائر المرتبطين بإيران والغاضبين على الإصلاح الزراعي. وقد أدان الشيوعيون تلك الفتن، وحذروا من الانزلاق. وعندما راحت الطائرات العراقية تقصف بعنف مناطق التمرد ووقعت خسائر بشرية، اتخذت القيادة القومية الكردية قرار الثورة. وكان هذا خطا إستراتيجيا اعترف به فيما بعد الأخ مسعود البرزاني، وصحح تقييمه للزعيم عبد الكريم. وأقول إنه في الوقت نفسه، فإن حكومة قاسم لم تبد تفهما للخطر، ولم تفلح في صياغة سياسة تعزل القوى الرجعية وتقترب من المطالب الكردية في الإدارة الذاتية. ورغم أن الحكومة أعلنت الهدنة فيما بعد، فإن القيادة الكردية واصلت حركتها المسلحة، وعقدت اتصالات مع أعداء الثورة المتآمرين، وبذلك ساهموا في نحر الثورة والزعيم، وأيضا في الوقوع في فخ غدر حلفائهم الجدد من البعث والناصريين، الذين سرعان ما شنوا حملة عسكرية ضارية ضد الشعب الكردستاني.
وثمة نقطة هامة لا بد من التوقف عندها، وهي رفض الزعيم الراحل إعطاء السلاح للشيوعيين وأنصارهم لمقاومة الانقلاب الفاشي. لقد ظلت هذه النقطة موضع انتقاد اليسار ولحد يومنا، في حين اعتقد أن قرار عبد الكريم قاسم كان صائبا جدا. لماذا؟ لأنه قرار جنب العراق من حرب أهلية مسلحة دموية تكون الدماء التي تراق فيها عشرات أضعاف ما أراق الحرس القومي.
لقد كنا جميعا نحمل أيديولوجيات شمولية، تدعي احتكار الحقيقة والوطنية، وتريد التخلص من الآخر، خاصة بعدما جرت بين اليسار والقوميين أنهار من الدماء. ولو سنحت فرصة التسلح العام لجماهير اليسار، لكان الانتقام شاملا وقد يقتل أبرياء كثيرون، ولساد منطق الانتقام في الشوارع، ولربما اقترف اليساريون انتهاكات مماثلة لجرائم البعثيين تجعلهم، مستقبلا، موضع إدانة عامة أمام التاريخ، وموضع اللعنات، كما حصل للبعثيين وشركائهم. ولهذا أيضا، فقد كان من حسن الحظ أنه لم تسنح للحزب فرصة أخذ السلطة بعد الثورة، وأنه كان في دور الضحية لا في دور الجلاد.[1]