#عزيز الحاج#
بعد انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين (شركائه في انقلاب 8 شباط/فبراير) في تشرين الثاني/نوفمبر 1963، اتخذت الحكومة الجديدة عدة إجراءات اجتماعية واقتصادية وسياسية، كان أكثرها إيجابياً. وأبرمت الحكومة اتفاقيات تنسيق وتعاون مع مصر الناصرية، التي كان السوفيت يعتبرونها حليفتهم الرئيسية في المنطقة. وكان من بين إجراءات عبد السلام تشكيل حزب قومي واحد في البلاد في محاكاة لحزب الاتحاد القومي المصري.
كنت عهد ذاك في براغ مع عدد من أعضاء ومرشحي اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي. وكنت لا أزال مرشح المركزية لا عضوا أصيلا فيها.
في آب من عام 1964 اجتمع فريق القيادة المتواجدون في الدول الشرقية والاتحاد السوفيتي مع عدد من الكوادر الحزبية الأخرى، لبحث الموقف السياسي العراقي وسياسة الحزب.
وقد صار يتضح مع بداية الجلسات أن هناك اتجاها موجها من السوفيت لكي يتخذ الحزب سياسة إيجابية للغاية من الحكم الجديد، بما في ذلك الانضمام الجماعي للتشكيلة الحزبية القومية الجديدة، مما كان يعني في الواقع ذوبان للحزب الشيوعي كما حصل مع التنظيمات الشيوعية في مصر.
لقد كانت المنطلقات الحقيقية من وراء الضغط السوفيتي هي تعزيز التحالف مع جمال عبد الناصر ودفع الشيوعيين للتحالف غير المشروط مع حكم عراقي كان يعتبر نفسه سائرا مع مصر وفي نفس الطريق. وقد تم فرض ما صار يعرف بخط آب بالأكثرية مع معارضة الأقلية من قياديي الخارج والكادر المتقدم وكنت بينهم. وكانت الأقلية ترى أن نظام عارف هو استمرار لنظام 8 شباط، وأنه معاد للديمقراطية السياسية وحرية الأحزاب، ولابد من التعامل معه سلبيا- أي المطالبة بإسقاطه.
وفي العراق نشبت ضجة حزبية كبيرة ضد سياسة الحزب الجديدة وانقسمت الكوادر حولها.
والآن، ما الصحيح وما هو الخطأ – كما أعتقد اليوم- في مواقف أصحاب آب ومعارضيه؟
أعتقد أن موقفنا في الأقلية كان خاطئا من الناحية التكتيكية، أي سلبيتنا تجاه إجراءات كان أكثرها إيجابيا ومواصلة رفع شعار إسقاط الحكم الجديد. كنا نفتقر للمرونة السياسية والنظرة الواقعية وعجزنا عن تشخيص الفروق بين وضعين، خاصة وأن عبد السلام عارف قد انقض على البعثيين وساهم في كشف جرائمهم، ناهيكم عن إجراءاته الاقتصادية والاجتماعية المقبولة. أما الأغلبية، فقد وقعت في أخطاء إستراتيجية كبرى من وجهة نظر الماركسية – اللينينية التي كنا جميعا نؤمن بها. أولا لتجاهل إسقاط عارف للديمقراطية السياسية، وسياسته المعادية لها والمتميزة بالطائفية والعنصرية، وكأنهم لم يتعظوا بما أدت إليه السياسة المعادية للديمقراطية لجمال عبد الناصر نفسه. وثانيا إن قرار الانضمام الجماعي للشيوعيين للاتحاد الاشتراكي القومي العارفي كان يعني تذويب كيان التنظيم الشيوعي المستقل. وثالثا إنه برغم مساوئ النظام الناصري، فإنه واتحاده الاشتراكي كانا أكثر تقدما من الوضع العراقي الجديد.
كان منظرو خط آب يروجون للدور الطليعي للناصرية في المنطقة، وأن العسكر في الدول العربية - [وكانوا يصفونه بالبورجوازية الصغيرة الثورية]- هو الذي يلعب الدور الطليعي في الحركة الوطنية. وكتب بهاء الدين نوري بتوقيع [ منير أحمد] مقالا بهذا المآل في المجلة الشيوعية الدولية التي كانت تصدر آنذاك.
إن موقف الأقلية كان خاطئا من الناحية التكتيكية إذ كان واجبا دعم الإجراءات الإيجابية، ولكن دون تزكية النظام واعتباره سائرا في طريق التطور اللارأسمالي، وهو المعزوفة النظرية الجدية التي روج لها السوفيت وكنت من أشد منتقديها في كتابات وكراريس. كانت الأقلية شديدة التشنج، إذ يجب تأييد أي إجراء أو موقف جديد لأية حكومة عراقية ولو كنا نكرهها وغير راضين عنها. ذلك هو الوجه الأول للقضية. أما الوجه الثاني، فهو أن المعارضة الداخلية الحزبية لعام 1964 كانت على صواب في رفض تحويل التكتيك إلى إستراتيجية ومبدأ- أي رفضنا لمقولة التطور اللارأسمالي، ولتذويب الحزب، ورفضنا للاعتراف بالدور القيادي لعبد الناصر في البلدان العربية وهو الذي أقام أول نظام شمولي عربي، وكانت إجراءاته الاجتماعية التقدمية مقترنة بفرض نظام الحزب الواحد، والقائد الواحد، ودولة المخابرات والمعتقلات والمغامرات الخارجية.
أما بالنسبة لأصحاب خط آب [أي الأكثرية]، فإن مواقفهم كانت خلاف التقدير الواقعي لطبيعة الوضع الجديد، وخلاف المبادئ الشيوعية حول دور التنظيم الشيوعي واستقلاليته.
وبعد مقتل الحاكم الجديد، جاء شقيقه المرحوم عبد الرحمن عارف، وكان من طبيعة أخرى، فلم يكن دمويا ولا طائفيا، وعقد اتفاقا مهما مع الحركة الكردية. وفي عهده وحكومة عبد الرحمن البزاز حصلت درجة من الانفتاح السياسي والحريات، وخصوصا حرية الصحافة. وازدهرت الفنون، من مسرح وشعر وغيرهما. وبدلا من أن يتعامل الحزب الشيوعي – أكثرية وأقلية- بإيجابية مع الحكم الجديد رفع الحزب شعار إسقاطه! وأدان الاتفاق مع الأكراد. وبذلك حصل لقاء في الموقف، ومن دون قصد، مع حزب البعث الذي كان يعمل ليل نهار للإجهاز على الوضع الجديد.
هنا نشبت الخلافات الشيوعية الداخلية حول أساليب الكفاح التي يجب استخدامها لإسقاط النظام وإقامة نظام ديمقراطي. إن الجميع، وبلا استثناء، اتفقوا على أن الطريق الوحيد هو استخدام أساليب الكفاح غير السلمي وسميناه بالعمل الحاسم. وهنا تتعدد الاجتهادات والمواقف: فهناك من كان يبشر بطريق الانقلاب العسكري. وهناك دعاة الانتفاضة الشعبية المسلحة. وهناك من يدعون لاستخدام مختلف أساليب العنف، ومنها عمليات في الأهوار والقرى بين الفلاحين، والتأكيد على دور القضية الكردية، ولكن من دون إهمال الكفاح السلمي، وتكون الذروة انقلابا عسكريا. وقد عالجتُ المواقف بتفصيل، ومع الأسماء، في كتابي حدث هذا بين النهرين الصادر عام 1994 والمطبوع طبعة خاصة بنسخ قليلة، والذي كتبته بنفس العقلية اليسارية المتشددة لأيام القيادة المركزية. وهنا لست في معرض العودة للتفاصيل وإنما لتسجيل ما يلي:
الجميع كانوا مع شعار إسقاط حكم عبد الرحمن عارف، والجميع يرون أن طريق ذلك هو استخدام الكفاح غير السلمي مع مبالغات في قوى حزب ضُرِبَ ضربات قاسية متتالية.
هكذا كانت الأوهام منتشرة والتحليلات ذاتية وبعيدة عن القدرات المحدودة للحزب- ناهيكم عن تجاهل الظروف السياسية الجديدة. واتفق الجميع، ورغم الخلافات، على الإبقاء على الخط العسكري الهزيل للحزب [ خط هاشم] وإنشاء تنظيمات مسلحة في المدن والريف [ خط حسين]. وهي تنظيمات كانت صغيرة وغير مؤهلة.
وأسجل للتاريخ هنا أن سكرتير الحزب آنذاك عزيز محمد، كان الأقل كلاما وأعتقد أنه كان لا يؤمن أصلا بكل الكلام عن العمل الحاسم. وأذكر أنني، عندما توصلت قبيل الانقسام الحزبي مع سكرتير حزب البارزاني في بغداد على اتفاق للعمل المشترك خارج إقليم كردستان، فإن سكرتير الحزب قال عفويا: هذا أفضل من كل حديث عن العمل المسلح. وكانت آراء عبد السلام الناصري هي الأكثر اعتدالا من الجميع، فقد كان يرى أن الجماهير غير مستعدة، والحزب مضروب، وأن حركة ناجحة بقيادة الحزب سوف تشكل ضدها جبهة معادية واسعة. أما الأكثر اندفاعا والأكثر نقدا لأفكار الناصري، فكان المرحوم زكي خيري وكاتب هذه السطور. وقد اتهمنا الناصري ومشايعيه بالالتفاف على السخط الحزبي الداخلي والشعبي بالحديث اللفظي عن العمل المسلح، وكنا نقول إن أي نجاح لا يمكن تحققه من دون مكافحة الأفكار اليمينية التي جاء بها خط آب ومحاسبة كبار واضعيه.
وعند ما انقسم الحزب شطرين في سبتمبر 1967، تبنينا في حزب القيادة المركزية خطا إستراتيجيا بعنوان الكفاح المسلح، يقرن بين جميع أشكال العمل المسلح والكفاح السلمي، ومن ذلك عمليات في الأهوار عندما يمكن. وكنا نتهم الآخرين بأنهم غير جادين وأنهم يفوتون الفرص عندما تسنح. وكما ذكرت في كتب سابقة، فإن مغالاتنا لم تكن تخلو من روح المنافسة والمزايدة مع الطرف الشيوعي الآخر، لاسيما وكان ضغط القواعد كبيرا باتجاه القيام بعمليات مسلحة.
وثمة نقطة هامة لا بد من إعادة توضيحها مع أننا وضحناها في حينه في الصحيفة السرية لحزب القيادة المركزية. وهذه النقطة هي اتهام حزب القيادة بالماوية مرة وبالغيفارية غالبا، والحال أننا اتبعنا نهج الاستقلالية في الحركة الشيوعية، وكانت تلك فضيلتنا الرئيسية التي كان بعض قادة الحزب يعتبرونها بمثابة معاداة الشيوعية، ومنهم من ظل بتلك العقلية حتى بعد انهيار الكتلة الشيوعية. لقد انتقدنا الماوية رغم أن نقدنا الفكري كان مركزا على سياسة الحزب السوفيتي وما كنا نعتبره خطر التحريفية الرئيسي. أما الغيفارية، فهي خلاف لأساليب كفاح القيادة المركزية لأن غيفارا راح لبلد غريب عنه وببضعة مقاتلين، وبلا سند داخلي ولا تنظيم سياسي يسنده. وكان يأمل تطور حركته تدريجيا لثورة شاملة على النمط الكوبي. أما حزب القيادة، فكانت له تنظيماته الحزبية في المدن والأرياف، وكان يمارس أساليب الكفاح السلمي من نشاطات وانتخابات نقابية عمالية وطلابية وغيرها، وكانت له ارتباطاته بقوى سياسية أخرى ويتعاون معها. وبصدد معارك الأهوار فقد كانت واحدة فقط من أساليب الكفاح التي اعتمدناها رغم أنها انفجرت بلا استعداد وبلا كسب لفلاحي المنطقة، وبعدد صغير، فكان فشلها حتميا برغم ما أبداه المناضلون الشهداء من بطولات وفي مقدمتهم الشهيد خالد أحمد زكي. ما أخذناه عن غيفارا هو أنه عندما تكون الشروط والظروف ناضجة لخوض أية معركة مسلحة وفي أية منطقة فيجب خوضها من دون انتظار نضوج ظروف وشروط نجاح العمل المسلح على نطاق البلاد كلها.
باختصار، إن الشيوعيين العراقيين، الذين قدموا تضحيات مجيدة وكانوا الضحايا الأوائل والرئيسيين للفاشية عام 1963، قد وقعوا في عهدي العارفين في تخبطات وصراعات داخلية حامية، ما بين خط آب الذيلي وإلى الاتفاق على شعارات الإسقاط ب العمل الحاسم. وكان لي شخصيا دوري السلبي الملحوظ في كل ذلك.
إن تلك المواقف والسياسات الشيوعية قد تركت آثارا سلبية على الحركة الوطنية عامة، وأعني تقوية نزعات التشنج والتطرف السياسيين.
ولا شك في أن انقسام الحزب والصراعات الحادة في الحركة الشيوعية والسياسة المتشددة تجاه حكم عبد الرحمن عارف ومعارضة خطواته الانفتاحية، لاسيما الهدنة في كردستان، كانت من بين العوامل التي سهلت الانقلاب البعثي الثاني في تموز 1968.
وأخيرا، هناك دور النزعات غير الديمقراطية عند بعض القادة بحيث أن أحدهم قال – أمام مطالبات الكوادر بمحاسبته على خط آب لن أستقيل حتى أقتنع أنا، وأن من كان يدير الاجتماع قال لن أسمح باستقالة أي عضو في القيادة حتى ولو طالب بذلك غالبية الحزبيين! وهكذا كانت عوامل الانقسام متوفرة والمسئولون عنها كانوا متعددين.[1]