#عزيز الحاج#
فذلكة
في البداية، ملاحظة لا بد منها للإشارة إلى مفارقات العرب واليسار الغربي.
قارنوا التالي: السفير الأميركي يُرحب به بالورود والأحضان في مدن دمشقية ثائرة على نظام الأسد، ومؤتمر المعارضة العلمانية السورية بباريس يطالب بالحماية الدولية للشارع السوري، أي أسوة بما جرى في ليبيا؛
كاميرون وساركوزي يلقيان ترحيب الأبطال من الثوار والجماهير الليبية في طرابلس وبنغازي؛ هذا من جهة؛
ومن جهة أخرى، إدانة العراقيين منذ حرب العراق، ولحد اليوم، بسبب التدخل الأميركي- الأطلسي لإزاحة نظام صدام، واستمرار أبلسة بوش بسبب تلك الحرب واعتبارها كانت ضد العرب والمسلمين، ومن اجل النفط [قارنوا اليوم حصة الشركات الأميركية من العقود بغيرها!!].
ترى، لماذا كان التدخل الخارجي في العراق جريمة وفي الحالتين الليبية والسورية موضع حماس؟!
يعلق كاتب في الشرق الأوسط، [كان ممن يهاجمون الحالة العراقية]، ;بطريقة طرح الأسئلة: هل الأفضل البقاء في أقبية القذافي ودهاليز عبد الله السنوسي أم الاستعانة بالأجنبي؟ وعن العراق، كانت الاستعانة تعتبر رمزا للعيب والعار؛ فهل كان العراقيون يفضلون حقا الكرامة التي أذلتها السجون [ونضيف الحروب والغازات والمقابر الجماعية]، أم الكرامة التي أهانها الاحتلال؟! من أوصل المواطن اليائس لهذا الخيار؟ إما القهر الأبدي وإما الخروج للتصفيق لرئيسي فرنسا وبريطانيا؟!
بالطبع فإن التدخل الخارجي ليس هو الحل الأمثل لمآسي الشعوب، ولكن ماذا عندما تعجز تلك الشعوب عن الخلاص من الظلم والاستبداد والمذابح برغم النضال والتضحيات الذاتية؟؟ في هذه الحالات المستعصية داخليا، ماذا يعني التمسك بمبدأ عدم التدخل- يسأل حازم صاغية؟ وإذا كان العراق يطرح حجة على مخاطر التدخل، فإن أخطاء التدخل فيه، وهي كبيرة، لا تلغي الخطأ الأكبر، الناجم عن الحقائق العراقية كما تجلت بعد إزاحة صدام. فليس الأميركيون هم الذين اخترعوا طوائف العراق ثم كبتوها وعززوها في العتمة لتنفجر على النحو الذي نعرفه... [ صاغية في الحياة، 27-08- 2011]
مجلس الأمن لم يحرك ساكنا أمام مأساة كمبوديا ورواندا، والنتائج كانت المذابح الجماعية. ومجلس الأمن لم يستطع اتخاذ قرار لإنقاذ أهالي البوسنة من طغيان مليوسوفيتش العنصري الدموي، وجاء الإنقاذ على أيدي القوات الأميركية والأطلسية. فهل كان ذلك جريمة، أم لصالح الشعب البوسني المسلم والأمن العالمي في تلاق مع المصالح الغربية؟ حالتان أخريان ومختلفتان: الصومال ولبنان. هاتان، كما يقول صاغية أيضا، مثالان عن مأساة الشعوب التي يفشل فيها التدخل الخارجي: لقد طردت المكونات الأهلية الهائجة للبلدين القوات المتعددة الجنسية من لبنان، والقوات الأميركية من الصومال، وترك البلدان لمصائر لا يشتهيها المرء لأعدائه.
استدراك مهم: المعني هنا ما يعتبر التدخل الإنساني، وليس تدخلا كولونيالياً لنهب الموارد والبقاء. التدخل الإنساني مهمته محددة وزمنه عادة قصير بعرف الزمن. وهو عادة يحدث عند تقاطع المصالح وتلاقيها، وضد أنظمة القمع الدموي والطغيان الشمولي المغلقة.
مذهب بوش:
في سبتمبر 2002 ألقى بوش الابن خطابا أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة عن العراق جاء تلخيصا كثيفا وموفقا لخطر النظام البعثي العراقي، سواء على الشعب أو على الأمنين: الإقليمي والدولي. وتم في الخطاب التأكيد على النهج الدكتاتوري ومظالمه ضد الشعب العراقي- فضلا عن قضية التسلح المحرم. فالقرارات الدولية ال16، وباستثناء القرار 688، ركزت فقط على موضوع التسلح، وها نحن والقضية بكل جوانبها أمام المحفل الدولي. وقد عقب كاتب عراقي في مقالته بإيلاف بتاريخ 17 سبتمبر 2002 بقوله لقد طرح بوش القضية العراقية بأوضح مما تطرحه أطراف في المعارضة الوطنية. وهناك خطاباه في شباط 2003 بواشنطن ولندن، وفيهما تقدم الرئيس الأميركي السابق بإستراتيجية جديدة لمقاومة الإرهاب والحفاظ على الأمن، وهي إستراتيجية أو مذهب نشر الديمقراطية، خصوصا في الشرق الأوسط، باعتباره مصدرا رئيسا لتفريخ التطرف والعنف والإرهاب. وكان من رأيه أن الديمقراطية لها أفضلية كونها لا تشعل حروبا، ولا تصدر أو تدعم إرهابا، أو تكون مهووسة بأسلحة الدمار الشامل، ولذلك فإن مساعدة المجتمعات غير الديمقراطية، بما فيها الدول الشرق أوسطية، على السير في طريق الديمقراطية واجب ملح. وهذا المذهب لا يعني التدخل المباشر إلا في أقصى حالات الضرورة، وفي حالات مجتمعات الخوف. أما في حالات الدول غير الدكتاتورية والتي تعاني من نقص وثغرات في الديمقراطية وتعاني من الفساد، فتجب ممارسة النصح والضغوط الدبلوماسية باستمرار لكي تدخل الإصلاحات الضرورية. ومعروف أن أميركا كانت تضغط على مبارك بهذا الشأن، سواء في موضوع تزييف الانتخابات أو الاعتقالات الاعتباطية، وهو ما أدى لبعض الوقت إلى نوع من التوتر بين البلدين؛ أي هناك أنظمة الدكتاتوريات الدموية والشمولية ومجتمعات الخوف، حيث غياب مبدأ المواطنة تماما وحيث القمع منهج دائم للحكم، وهناك جمهوريات الاستبداد الفردي غير الدموية و أنظمة، غالبا ملكية، تمارس قدرا من الانفتاح ولكنه غير كاف. والأنظمة الشمولية والدكتاتوريات الدموية تعتمد على العنف الدموي للحفاظ على تحكمها، وأحيانا تلجا للحرب أو التهديد بها لضمان الاستقرار الداخلي. وقد تمارس الإرهاب أو تدعمه.
وفي توضيح وتطوير لمذهب بوش، يرى المفكر شارانسكي أن الديمقراطيات الغربية يجب ألا تتعامل مع دول مجتمعات الخوف كنظير لها، وان لا تمنح لها الشرعية التي لا تستحقها، وعليها الالتزام بمثلها ومبادئها والكف عن أية ازدواجية فيما يخص حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ويجب حرمان تلك الدول من المساعدات المالية والتكنولوجية والدبلوماسية [وفي عدد من الحالات الدعم العسكري]. ويؤيد شارانسكي موقف ريغان عندما وصف ساسة الوفاق الغربية تجاه الكتلة السوفيتية بعملية استرضاء. فقد قدمت سياسة الوفاق للسوفييت تسهيلات ائتمانية، ومساعدات تكنولوجية من دون ممارسة الضغوط القوية لكي تعدل من نهجها المعادي للديمقراطية ولكي تتعامل بحد أدنى من معايير السلوك بموجب اتفاقيات هلسنكي بين الغرب والشرق. إن الخيار ليس بين الغزو والاسترضاء، بل التعامل مع كل دولة بما تستحقه، وبلا إضفاء الشرعية على أنظمة لا تستحقها. وواضح أن هذا المذهب مناقض للمذهب الذي بدأ به أوباما في الاسترضاء والاستعطاف. فقد خاطب العالم الإسلامي عارضا شراكة إستراتيجية كاملة من دون مطالبة دولها باحترام المبادئ والقيم الديمقراطية. صحيح أنه أشار لها، ولكنه أضاف أن أميركا لا تريد فرضها فرضا. ولكن الخيار ليس بين الفرض بالقوة أو التجاهل، بل بممارسة الضغوط الودية والإلحاح المستمر على الإصلاحات، والنقد العلني لكل انتهاك لحقوق الإنسان، كعمليات التعذيب أو الاعتقالات الاعتباطية والانتخابات المزورة. واتخذ اوباما نفس الموقف، المشاركة الإستراتيجية، من الصين ذات النظام المغلق. وعندما شارك في قمة دول أميركا اللاتينية تحمل هجمات رؤساء فنزويلا ونيغاراغوا على أميركا من دون رد، بل دعا إلى الشراكة نفسها دون تحديد شروط تلك الشراكة، أي الشراكة القائمة على أسس الاحترام المتبادل بين كل دولة وأميركا، واحترام القيم الديمقراطية. وفي حينه، دعا بعض المحللين الأميركيين إلى مذهب رد الصفعة بصفعتين في التعامل مع الدول الغوغائية التي تواصل استفزاز الولايات المتحدة. ووصف آخرون ، كالمعلق تشارلز كرومر في واشنطن بوست، سياسة أوباما في عاميه الأولين بسياسة صفع الأصدقاء واسترضاء الأعداء، في إشارات لجفائه في العامين الأولين تجاه بريطانيا وبروده تجاه الاتحاد الأوروبي مع انعطاف قوي نحو الصين ونحو اندونيسيا التي قضى فيها سنوات من صباه. وكان أول ما فعله، عند تبوئه الرئاسة، إعادة تمثال لتشرشل، كان هدية بريطانيا للبيت الأبيض مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وبدلا من نقل التمثال لمكان آخر داخل الولايات المتحدة، فإنه أعاده للحكومة البريطانية! ويبدو أنه، مع تتالي الأحداث، راح يحاول من وقت لآخر تعديل مذهبه، ولم ينجح إلا قليلا.
كانت الحرب العراقية أول تجربة لمذهب بوش في التعامل مع نظام متمرد على القانون الدولي، ويقمع شعبه بكل قسوة، ويهدد جيرانه. وكان بيل كلينتون هو الذي دعا إلى إسقاط نظام صدام عام 1998، فأصدر قانون تحرير العراق، معتمدا على عمليات تقوم بها المعارضة العراقية بدعم مالي ودبلوماسي أميركي. ولكن المحاولات فشلت، وبرهنت قوى المعارضة والشعب على عجزها عن إسقاط النظام لوحدها. وللتذكير، فإن كلينتون أمر، عندما طرد النظام الصدامي فرق التفتيش الدولية، بشن ما سمي بعملية ثعلب الصحراء، وكانت غارات جوية قوية أميركية - بريطانية لإضعاف القوة العراقية وقدرات العراق على إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وخطب كلينتون موضحا:
إن الحقيقة القاسية هي أنه ما دام صدام في السلطة، فإنه يهدد مصير شعبه، والسلام في المنطقة، وأمن العالم. وإن أفضل طريقة للتخلص من هذا الخطر، مرة وإلى الأبد، هو قيام حكومة جديدة في العراق- حكومة تكون على استعداد للعيش بسلام مع جيرانها، حكومة تحترم حقوق شعبها. ومهما كان الثمن، فإنه يجب وزن ثمن الفعل بثمن اللافعل. وإذا كان صدام يتحدى العالم ونفشل في الرد، فسوف نواجه خطرا أكبر في المستقبل. فصدام سيضرب جيرانه من جديد. وهو يشن الحرب على شعبه. وانتبهوا، فإنه سيطور أسلحة الدمار الشامل، وسيستخدمها
تلك أقوال بيل كلينتون الديمقراطي، أي حزب اوباما، ولم تكن أقوال جورج دبليو بوش. فالتحليل كان مشتركا مع اختلاف الوسائل بعد فشل المعارضة العراقية إزاحة النظام. وربما لو بقي كلينتون في الرئاسة لفعل ما قام به خليفته. والتذكير بهذا ضروري لتوجيه النظر لمغالطات الإعلام العربي واليسار الغربي في موضوع العراق، وتناسي دور الحزب الديمقراطي في الموقف من النظام العراقي المنهار والعمل لإزاحته. ومن المغالطات الرائجة لحد اليوم أن هدف بوش كان تفكيك الدولة العراقية وليس إزاحة نظام واستبدله بنظام ديمقراطي وحومة منتخبة. وهذه المغالطة التي يروج لها إعلاميون وساسة يساريون غربيون تبني ادعاءها على الوضع المأساوي الراهن في العراق وما حدث خلال السنوات الماضية من تردي في كل المجالات ومن ضحايا وانتهاكات. وهم ينسبون كل هذه الخطايا والمشاكل لأميركا متناسين، الخراب الشامل الذي تركه النظام السابق في كل المجالات بما في ذلك تشويه سيكولوجية المواطن العراقي، والتدخلات الإقليمية، وجحافل القاعدة، وسلبية العرب، وغيرها من عوامل تعرضنا لها في عشرات من المقالات، وعلى رأس كل شيء، وفي المقدمة، دور العقلية السياسية العراقية المتخلفة والمتسمة بنزعات العنف والاجتثاث وطفر المراحل. والأخطاء الأميركية، وهي فادحة، هي من تلك العوامل. وكما يقول صاغية، فليس الأميركيون من خلقوا الطوائف والطائفية، وليسوا هم من زرعوا في نفوس وغردات الطبقة العراقية الحاكمة هوس الصراع على المناصب والثروات والامتيازات، وليسوا هم من وراء إعادة إنتاج ممارسات صدام في التعامل مع الحريات وفي المعتقلات، وليسوا من ينشر الفساد طولا وعرضا، وليسوا من ينهب مياه العراق، ألخ. يجب أن نكون منصفين وموضوعيين، وأن نعطي الأخطاء الأميركية الكبيرة مكانها ودورها في وصول الحالة العراقية إلى التردي الراهن. أما أن ننسب كل المآسي والكوارث لأميركا فهو مبالغة ومجافاة للحقائق والوقائع.
نود أيضا إضافة أن بوش دعا في 24 حزيران من عام 2002 إلى قيام دولة فلسطينية على مرحلتين، وعلى أساس حدود 1967، مشددا على دمقرطة المؤسسات الفلسطينية ووجوب رفض العنف وتنظيمات الإرهاب التي تتلقى السلاح من إيران. وبدأ خطابه بالقول:
لزمن طويل عاش مواطنو الشرق الأوسط وسط الموت والخوف. قوى التطرف والإرهاب تحاول قتل التقدم والسلام بقتل الأبرياء. وهذا يلقي بظلاله على المنطقة بأسرها. من أجل الإنسانية كلها يجب أن تتغير الأمور في الشرق الأوسط. يستحيل أن يعيش المواطنون الإسرائيليون في رعب. ويستحيل أن يعيش الفلسطينيون في فساد سياسي واحتلال... هدفي أو حلمي لدولتين تعيشان جنبا لجنب في سلام.
.[ انظر ملاحق نهاية الكتاب].
التجربة العراقية والانتفاضات العربية:
نعم، حاضر العراق غير مريح، وهو مجموعة أزمات متشابكة ومزمنة، فالأمن متداع والقتل بالمفرد والمجموع مستمر، والدولة أشبه بمجوعة دويلات يحاول رئيس الوزراء تجميعها في مركز قوي بأساليب منافية للديمقراطية، ومبدأ المواطنة شبه غائب بينما تطغي على عقول ونفوس وتحركات المواطنين والأحزاب الانتماءات الفرعية والضيقة، والفساد ضارب الأطناب، والخدمات متردية وبلا تحسن، والفقر والبطالة منتشران، والطائفية تدمر التعليم ومناهجه، والتزمت الديني يحرم الفنون الجميلة، والطبقة السياسية في صراعات مستمرة وهي تزايد مع بعض حتى على قضايا مصيرية كبقاء أو عدم بقاء قوات أميركية، والتدخل الإيراني هو المهيمن في حين انحسر النفوذ الأميركي للحد الذي يسعى فيه الجانب الأميركي للتوصل إلى خط أحمر في العراق والمنطقة. ومياه الرافدين تنهب وتسرق من جانب تركيا وإيران اللتين، في الوقت نفسه، تعتديان يوميا على الأراضي الكردستانية العراقية.
هذا صحيح، بل وأكثر منه. إن ما هو جار مخيب للآمال والأحلام، وخصوصا بعد أن صار الموت هو العملة اليومية التي تطال أية مواطنة ومواطن، وفي أي وقت، وكأن ضحايا العهد السابق لم تكن كافية! وصارت سمعة العراق بتفشي الفساد ملطخة في العالم حتى وصفت منظمة الشفافية العراقية هذا الفساد بأنه أبشع فساد شهدته البشرية.
لقد برهنت الطبقة السياسية العراقية والعقلية السياسية العراقية على تخلف مروع، وعلى عدم الاستفادة من كل التجارب الوطنية السابقة، وأثبتت الأعوام منذ سقوط صدام على أن الحرية التي قدمت لشعبنا بإزاحة صدام قد فرط بها، قبل أي طرف آخر، ساسة العراق وتدخل رجال الدين في السياسة وشؤون الدولة، فبدلا من رفع مستوى الجماهير تدريجيا، هبطوا به أكثر فأكثر، وزادوا خراب صدام خرابا. لقد ضاع العراق حقا، ولكن هذا لا يعني نهاية النهاية، فلا يزال هناك الأمل بأنه في آخر المطاف لا يصح إلا الصحيح ولكن عبر مزيد من الآلام والمحن والعراقيل. ولعل في مقدمة أخطاء إدارة بوش انصياعها لضغوط الأحزاب السياسية ولاسيما الأحزاب الدينية ومرجعياتها ولضغوط بعثة الأمم المتحدة والإعلام العربي والجامعة العربية بالتسرع في الموافقة على جدول زمني مبتسر ومتسرع ومرتجل لنقل السلطة بعد أقل من عام على إزاحة النظام البعثي، وكان الانتقال للديمقراطية بعد عهود من الاستبداد يتم بين عشية وضحاها وكسلف البيض، وكأن الانتقال للديمقراطية يمكنان يتم بقيادة نخب سياسية برهنت على عدم قدرتها على الارتفاع لمستوى المسؤولية، وكأن هذا الانتقال لا يتطلب نخبا سياسية نزيهة ومجربة وكفء، تضع في المقدمة مصالح المواطن وحقوقه وحرياته، وكأنه لا يتطلب أيضا تربية سياسية عصرية للمواطن العراقي ونبذا للقيم والنزعات والممارسات المتخلفة، ولاسيما نزعة العنف. ولا أدري كيف كان بإمكان الأميركيين توفير ذلك سوى أن مسؤوليتهم تكمن في وضع ثقة مبالغ بها في النخب السياسية العراقية، ولاسيما الأحزاب الدينية التي تحكم اليوم. وفي تجربة العراق هذه دروس غزيرة لشعوب الانتفاضات وسائر الشعوب العربية ونخبها لو أرادت، أو كانت قادرة على، فهمها والاستفادة منها، وإلا فسوف تتبدد كل التضحيات التي بذلت.
إن الباحث الأكاديمي والمؤلف الفرنسي رفائيل غوتمان، وهو استشاري في موضوع الدول النامية الصاعدة، قد نشر في صحيفة لوفيجارو بتاريخ 20 سبتمبر 2011، مقالا بعنوان لا تنكروا دور مذهب بوش في الثورات العربية. وإليكم تحليله للموضوع، وهو جدير بالتأمل ومفتوح للحوار، فهو يختلف عن التحليلات الغالبة اليوم.
يقول الكاتب إن المراقبين السياسيين يحاولون منذ شهور تشخيص جذور الثوران الذي يهز العالم العربي. بالنسبة لأكثرية التحليلات، كانت قوة وسعة هذه الحركات غير متوقعة وغير منتظرة. وأمام هذه الحيرة فإن كثيرين من المتسرعين لفهم القضية اعتقدوا أن صاعقة التفجير تمثلت في مأساة شاب في مدينة تونسية مجهولة في ديسمبر 2010. ومن دون التقليل من دور ذلك الحدث المأساوي المثير، فإنه، في رأي الكاتب، يمثل الشرارة النهائية التي ساهمت في الانفجارات. أما الآلية التي أدت لهذه الأحداث، فقد وضعت قبل سنوات في منطقة أخرى، والقصد هو العراق، وهي التي أدت لإزاحة الدكتاتور العربي صدام. إن هذا التحليل يقودنا لإعادة تقييم التدخل العسكري الأميركي عام 2003 ، الذي كان، ولا يزال موضع انتقادات كثيرة.
إن ذلك التدخل، الذي جرى بعد أحداث 11 سبتمبر، قد أثار انتقادات واسعة وأشعل مظاهرات كبرى عدائية وصاخبة، نظرا لكثرة المعلومات المرتبكة حول أسلحة الدمار الشامل ونظرا للادعاءات حول ما اعتبر عامل الجشع النفطي الأميركي- [ملاحظة من عزيز: دخلت أميركا الكويت وحررتها ولم تنهب نفطها، والعقود النفطية العراقية الراهنة لا حصة كبيرة للشركات الأميركية فيها]- وأن النفط كان الهدف وبقية الأهداف المعلنة مجرد قناع. أما الحقيقة، كما يرى الكاتب، فهي أن إسقاط نظام صدام كان يقصد به أن يكون فاتحة لدمقرطة منطقة الشرق الأوسط الكبير. ويذكّر الكاتب بخطب جورج بوش حول مذهبه هذا- أي في سياق محاربة الإرهاب. وكان بوش ومستشاروه يرون أن إسقاط طاغية محلي كصدام سوف يكون له تأثير لعبة الدومينو على بقية المنطقة، وذلك بأن يكون العراق مثالا للشعوب العربية وقدوة في رفض الظلم والاستبداد والانتفاض على الأنظمة التي تمارسهما- أي تكون إزاحة الحاكم العراقي بمثابة صاعقة التفجير. وقبل ذلك الحدث، لم تكن الشعوب العربية تتصور إمكان الخلاص من الحكام المستبدين القمعيين، ولكن مصير حاكم، كانت إزاحته تعتبر من المستحيلات، وطريقة إلقاء القبض عليه، ومكان اختفائه، ثم محاكمته، وذلك كله أمام وسائل الإعلام العربية والدولية؛ كل صور هذه التطورات المبثوثة،أولا بأول، على شاشات الفضائيات، قد رسبت في أعماق لاوعي الجماهير العربية، وبالتالي فإن السقوط المتتابع للحكام المستبدين لا ينفصل عن المصير الذي لاقاه الدكتاتور العراقي.
وهكذا، في رأي الكاتب، يجب الاعتراف بأن الأحداث العربية الراهنة مرتبطة مباشرة بالعواقب السياسية للقطيعة التي حصلت عام 2003، وإن إعادة تكوين منطقة الشرق الأوسط التي أرادها مذهب بوش تتواصل ولكن دون أن نعرف هل سوف تنتهي بقيام ديمقراطيات حقيقية لهذه المجتمعات. وهذا التحليل لا يقلل، عند الكاتب، من وجوب نقد الإدارة الكارثية للعراق الذي تحرر من صدام.
من جانبنا، نقول صحيح أن العراق قد شهد الانتفاضة الأولى في المنطقة في مارس 1991، وكانت انتفاضة عفوية ولكن بلا شاشات الفضائيات. ولكن تلك الانتفاضة واجهت مصيرا مفجعا منذ تسلل العناصر الطائفية الموالية لإيران فيها تحت إمرة عناصر من فيلق القدس ورفع شعارات طائفية مثل ماكو ولي إلا علي نريد حاكم جعفري، ورفع صور خميني وخامنئي. تلك التطورات أرعبت الجيران الخليجيين وأقلقتهم طائفيا، مثلما خشي الأميركيون من التغلغل الإيراني، وهذا ما استغله صدام لاستخدام الطائرات المروحية العسكرية الضخمة لإخماد الانتفاضة بأنهار من الدماء، من دون اعتراض أميركي مع أن بوش الأب هو الذي حرض العراقيين على الثورة. وقد شوه وجه الانتفاضة عربيا ودوليا ولذلك، فرغم أنها كانت السباقة، فإنها ليست التي تركت تأثيرا ما ثوريا في أعماق الجماهير العربية المنتفضة اليوم.
صحيح أن الوضع العراقي الراهن قد صار بمثابة البعبع للشعوب العربية الأخرى، وقادة الثورة الليبية المسلحة يعلنون أنهم لن يسمحوا بتحول ليبيا لعراق آخر ويطمئنون الغرب حول هذا. ولكن هذا لا يعتبر كونه يناقض تحليل الكاتب الفرنسي. ويروي لنا المسؤول الليبي السابق [كان وزيرا للخارجية] والحالي، عبد الرحمن شلقم، أن مصير صدام صار الهاجس الأول للقذافي ليل نهار، وأن ذلك المصير ظل يطارده. وكان القذافي نفسه قد وجه تحذيرا علنيا لبقية الرؤساء العرب يحذرهم من مصير صدام. هذا لا يعني انه كان يتوقع انتفاضة من شعبه، ولكنه كان يخشى أن يصبح موضع إدانة دولية فتأتيه القبضة الأميركية، فأتته القبضة الأطلسية التي حسمت المعركة لصالح الشعب. ونعود للتأكيد على إنني لا أريد التقليل من جسامة الأخطاء الأميركية، في عهدي بوش واوباما، حتى تحول العراق لحالة هيمنة إيرانية متكاملة وصارت الإدارة الأميركية تبحث عن خط احمر مع إيران واضعة في المرتبة الثانية الخطر النووي الإيراني وسياسة التوسع والتدخل والإرهاب الإيرانية، بل ووصلت الحالة لأن تندم شريحة من المواطنين، وحتى من بين بعض ضحايا النظام السابق، على إزاحته. رغم هذا كله، فإن أوضاع اليوم لا تلغي صواب وشرعية قرار الحرب على صدام. وكان مما كتبه المفكر الفرنسي غلوكسمان، في مساجلاته مع الكتاب والمفكرين والساسة الفرنسيين المعادين لتلك الحرب، أنه كان يوجد ديكتاتوريون آخرون في العالم، ولكن حاكم العراق نال قصب السبق، وضحاياه يقدرون بالملايين، ولم يتجرأ حاكم واحد في العالم على استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه إلا هو. لم يتجرأ حاكم واحد على تصفية رفاقه بدم بارد، وفي جلسة علنية، إلا هو. واعتبر المفكر الفرنسي أن الحرب لم تكن مشروعة فقط، بل كانت واجبا إنسانيا تقع مسئوليته على كاهل الجماعة الدولية بأسرها. إنها مساعدة شعب في حالة خطر.
*****
لقد لخصنا أعلاه تحليل رفائيل غوتمان؛ والموضوع واسع، وذو جوانب كثيرة، وهو بحاجة لمزيد من التأمل والبحث والنقاش. شخصيا لم أكن أفكر على هذا النحو، ولكن المقال يفتح أفقا جديدا للتحليل، وقد يكون تقدير الكاتب قريبا من الصواب.[1]