الشرق الأوسط المنتفض
الهام احمد
ما تشهده دول العالم والشرق الأوسط من كوارث طبيعية وحروب وتفشي الأمراض المزرية يعتبر من إفرازات أزمة النظام الرأسمالي العالمي والحضارة الرأسمالية. وكل ما يحدث في المنطقة من نزاعات سواء كانت طائفية أم دينية أم قومية تحت مسميات متعددة ما هي إلا صنيعة النظام الرأسمالي. والمجموعات الإرهابية التي تنخر في جسد المنطقة، تمحو تاريخها، تغتصب مقدساتها، تشرد شعبها، تسبي نساءها ما هي إلا صنيعة هذا النظام الذي تحول إلى أخطبوط يحاصر الإنسانية ويغتصبها.
قد يتساءل البعض لماذا يفرز النظام الرأسمالي أمثال داعش وجبهة النصرة وغيرهما من المجموعات الإرهابية المسلحة ليظهر فيما بعد على أنه عدو لها وعليها مصارعته؟ لماذا تنشئوها ولماذا تحاربها؟
النظام الذي اعتمد العلم والصناعة كوسيلة للربح وابتعد عن كل ما هو أخلاقي وروحي ومعنوي لابد أن يكون قد ساهم في خلق تنظيمات ومجموعات تدافع عن تلك القيم نظرياً، ولكنها في الحقيقة بعيدة عنها أو بالأحرى هي معادية لكل ما هو أخلاقي وإنساني، مثل داعش وأخوانه. فمن المستفيد من تخريب الآثار والأماكن التاريخية وتدميرها غير النظام الرأسمالي الذي يحارب الشعوب ويهاجم ثقافاتها المتنوعة ليصهرها في بوتقة الرأسمالية باسم الحضارة والتحضر؟ ما من قوة على الأرض حاولت التهجم على مقدسات شعوب المنطقة إلا وتعرضت لانتقادات ومواجهات عظيمة، ولكن اليوم يقوم داعش بتدمير كل الجوامع والكنائس ولالش أمام مرأى كل القوى العالمية والمنظمات المدافعة عن الحريات وحرية العقيدة وغيرها من المقدسات دون أن يبدو أي رد فعل. فبعد أن فتحت الأبواب أمام الإرهاب لدخول المنطقة، تقوم الطائرات بضرب كل ما تبقى من أثر للتاريخ تحت اسم الدفاع عن المنطقة وحماية أهلها من الإرهاب. والفاجعة الأكبر في كل ما يحدث هو موقف ما تسمي نفسها بالمعارضة في المنطقة، فبدل أن تقوم بالدفاع عن المنطقة وشعبها تحولت هي الأخرى إلى شركات تجارية تبحث عن مكاسب لها على يد القوى المديرة لهذه الحرب، وليس لها أي علاقة بالثورة. هذا ما يفعله النظام الرأسمالي؛ فمن ناحية يقوم بضرب المنطقة ومن ناحية أخرى يجذب القوى المعارضة إليه ويحولها إلى ألعوبة يحركها كيفما يشاء ومتى ما أراد. الخاسر والمتضرر الوحيد من هذه المؤامرة هو الشعب الفقير والمظلوم والجاهل وغير المنظم، والذي ترك مصيره بيد مجموعات طائشة لا تعلم ما تفعله.
لهذا يمكننا تسمية الوضع بالتراجيديا، فوضع الشعب تراجيدي ووضع المعارضة تراجيكوميدي، قسم من الشعب ربط مصيره بمصير النظام الحاكم والتحم به، ويعتبر سقوط النظام سقوطه وانتهاءه، وقسم انخدع بوضع المعارضة وركض وراء ما ستقدمه له من مواد إغاثية وكم ليرة قد يقتت بها لعدة أيام، وقسم ركض وراء من يعتبره المنقذ الإلهي الوحيد على وجه الأرض أي القوى الخارجية. بهذا تشتت قوة وديناميكية المجتمع ولم يعد بإمكانه الصمود أو الوقوف في وجه كل ما يحدث من اعتداءات على حقه وكرامته.
والوضع الأكثر تراجيديا هو وضع المرأة والطفل المنتشل من بين الأنقاض، فالمرأة التي شردت من بلدها تدخل تحت رحمة القوى الحاضنة لها في مخيمات الهجرة، فيتم تحويلها إلى عاهرة، جاسوسة، تاجرة مخدرات وما إلى ذلك من أعمال بعيدة عن الأخلاق الإنسانية، ففي تلك المخيمات يتم إنجاب وتربية جيل غير معلوم أصله من فصله. كل ذلك لأن المرأة بحاجة لمن يحميها ويقدم لأطفالها لقمة العيش، فتتعرض للاغتصاب بشكل يومي ويتم قتلها وتركها في أماكن غير معلومة.
مرحلة جديدة عصفت بالمنطقة كان من الممكن أن تتحول إلى ثورة عارمة لولا تدخل الأنظمة الحاكمة عسكرياً، وكان بمقدور تلك الثورات أن تحدث التغيير الجذري في بنية النظام، لأن الشعوب بالفعل انتفضت كما في مصر وتونس، وكان بإمكان سوريا أيضاً أن تشهد ثورة عارمة لولا تدخل النظام وفتحه المجال أمام المجموعات المسلحة كي تتحول إلى إرهاب فظيع ينهش جسد المنطقة. حتى الآن قدم الشعب السوري الضحايا والقرابين في سبيل التحرر، وهو منذ ما يقارب الخمسة أعوام ينادي بالحرية ويقاوم في وجه الاعتداء، التشرد، القتل، النهب، أصبح الشعب خارج الوطن وتحولت المجموعات المسلحة إلى تجار للمتاجرة بممتلكات الشعب، كل مدينة وكل حي تحول إلى سوق تجارية تباع فيها غنائم الحرب من أطفال ونساء وممتلكات وأسلحة. والأفظع من ذلك تحول المنطقة إلى حقل تجارب بالنسبة للدول الصانعة للأسلحة.
يبدو أن فاعلية اتفاقية سايكس بيكو شارفت على الانتهاء، وهناك حاجة لعقد اتفاقية جديدة، لهذا ومن خلال فرض مشروع بناء الشرق الأوسط الكبير هناك مساعي لإعادة تقسيم المنطقة، فالدول الصديقة في زمن اتفاقية سايكس بيكو أصبحت غير صديقة في هذه الفترة. تتشكل اليوم تحالفات جديدة وكتل جديدة باسم مكافحة الإرهاب، هذا إلى جانب أن دول المنطقة، وخاصة التي مضى عليها قرون من الزمن وهي مستعمرة لكردستان والقضية الكردية ولها مطامع ومصالح إقليمية، دخلت في متاهات زيادة النفوذ في المنطقة من خلال التدخل في المناطق التي انفجرت فيها الثورة كسوريا ومصر وليبيا وتونس. بهذا المنحى يمكننا تحليل موقف كل دولة من الدول العربية وغير العربية في حل أزمة المنطقة، وإلى أية درجة كانت مواقفها تساعد على الحل أو إلى أية درجة زادت من الأزمة. إن أخذنا موقف الدولة التركية نرى بأنها أصرت ولا تزال على مبدأ الميثاق المللي وأحلام الإمبراطورية العثمانية التي تحلل لنفسها الأراضي التي داستها قدم تركي، وهي تعتبر الشمال السوري أراضي تابعة لها أباً عن جد ولا بد من استرجاعها مهما كلف الأمر، لهذا تركت قبر السلطان سليمان بالقرب من نهر الفرات علماً بأن مسألة القبر ليس لأنه يحوي رفاته فقط بل هي مسألة رمزية تشير إلى أن المنطقة هي أراضي تركية.
هذا إلى جانب علمها بالمخطط الدولي في إعادة تقسيم المنطقة وتريد أن تكون من الدول التي لابد من أن تكون ذات تأثير في العقود الجديدة، لهذا شاركت في الحملة على ليبيا ومصر، وتدخلت في الوضع السوري مباشرة عن طريق إرسال تعزيزات عسكرية للمجموعات الإرهابية باسم دعم المعارضة السورية. وعن طريق ذلك حاولت وبشكل دائم تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج. فلا أحد يجهل مدى عمق أزمة الدولة التركية نتيجة إنكارها للقضية الكردية وقمعها للشعب، والكل يعلم أنها في حالة حرب منذ أكثر من ثلاثين عاماً مع حزب العمال الكردستاني المدافع عن حقوق الشعب الكردي. ولأن الحكومة التركية تاجرت بالقضية الكردية ومارست دبلوماسيتها على حساب القضية الكردية ونضال حزب العمال الكردستاني، توجهت نحو الهاوية، وفقدت مصداقيتها في الساحات الدولية، فتقسيم المنطقة وتحويلها من دول قومية إلى دويلات مذهبية كسنة وشيعة هو من مخططات النظام الرأسمالي العالمي و يعتبر فخاً نُصب لشعوب المنطقة ودولها، وسارت الحكومة التركية على هذا المنحى، لهذا شاركت بفاعلية في الهجوم على ليبيا، ودعمت الإرهاب في سوريا باسم دعم الثورة وضرب الديكتاتور الأسدي الظالم.
ظهر ذلك في حملات الهجوم على كوباني ومناطق غربي كردستان بهدف الوقوف في وجه كل مشروع يؤدي إلى تشكيل كيان كردي آخر على حدودها، لهذا دعمت الإرهاب بكل ما لديها من قوة، وعملت على إفراغ مناطق غربي كردستان لتحويلها إلى مناطق آمنة، ولا تزال تسعى لتطبيق هذا المشروع. لكن النصر الذي حققته وحدات الحماية الشعبية في كوباني بدد تلك المحاولات وفتح آفاقاً جديدة أمام القضية الكردية، فالدول والقوى التي كانت تعادي الوجود الكردي سابقاً أصبحت اليوم مجبرة على تغيير موقفها نتيجة لمواجهة إرهاب فظيع يضرب دول العالم أكمله، هذا إلى جانب بحثها عن قوة تساعدها في تطبيق برنامجها في المنطقة.
لهذا فالحكومة التركية تتقرب بشكل تكتيكي من مسألة الحوار في حل القضية الكردية ووقف الحرب من طرفها في مواجهة حزب العمال الكردستاني، مع العلم أن قائد الشعب الكردي بذل كل جهوده في سبيل إحلال السلام في تركيا وطرح مشروع خارطة الطريق للبدء بالحل السياسي الديمقراطي، وجهز نفسه لخوض معركة الانتحابات البرلمانية باسم حزب الشعوب الديمقراطي والذي يعتبر المشروع الأساسي والبديل لحكومة أردوغان. وستكون النتائج التي ستخرج بها الحكومة التركية من هذه الانتخابات مصيرية لكلا الطرفين، فإما أن حكومة أردوغان ستترك ألاعيبها وتفتح المجال لممارسة السياسة بحرية من قبل الكرد لتظهر نتائج الانتخابات على طبيعتها وليشارك الكرد في تشكيلة الحكومة الجديدة وتناقش حل القضية الكردية ودمقرطة تركيا في البرلمان عن طريق إعادة كتابة الدستور وإجراء التعديلات الضروربة عليه، أو أنها ستصر على سياستها الإنكارية وتستمر في ألاعيبها لتبدأ مرحلة حرب جديدة في المنطقة والكل يعلم بأنها لن تكون كسابقاتها، لأن كل الظروف تغيرت ولم يعد أي شيء كما كان في السابق بعدما سقط قناع أردوغان في قضية كوباني ودعمه للإرهاب فيها، وتشكلت قناعات تفيد بأن الحكومات لا تحمي الشعوب إنما الحركات الشعبية ووحدات الحماية هي التي تحميه من الموت، لهذا لم تعد الشعوب تثق بمشروع الدولة القومية كما وبدأت تبحث عن البديل وهذا واضح من خلال دعم الشعوب لحزب الشعوب الديمقراطي.
أما عن حكومة الملالي في إيران ودورها في قضية سوريا بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، فتعتبر ذات الدور الأكثر سلبية باعتبارها دعمت ولا تزال تشكيل الإمبراطورية الإسلامية الشيعية، فكما أن للقوى العالمية مشروع الشرق الأوسط الكبير، للحكومة الإيرانية مشروع إمبراطورية الشرق الأوسط الإسلامي الشيعي، لهذا لم تترك حكومة سوريا العلوية لوحدها إنما دعمتها بالعتاد والقوات الخاصة لتصدر حربها الداخلية إلى مناطق أخرى كسوريا واليمن وقطر وغيرها من المناطق التي يتواجد فيها الشيعة باسم حمايتهم. وكان لحكومة إيران الدور الأكبر في تعميق الأزمة السورية باعتبارها مدت الحكومة بالدعم العسكري وحرضت على الحرب بشكل دائم كي تكون الطرف الأساسي في اللعبة، لهذا فكل اجتماعات جنيف لا تكون ذات نتيجة إن لم تنل رضى الحكومة الإيرانية، ووصل الأمر لدرجة أن تقرر الحكومة الإيرانية بدلاً عن الحكومة السورية، وهذا يعتبر شكلاً آخر من الاحتلال. هذا إلى جانب انشغالها بقضية حزب العمال الكردستاني أيضاً، فهي تسعى لإشعال فتيل الحرب مرة أخرى في تركيا، وتثير الفتن، فتحرض الحكومة التركية على عدم الاستمرار في المفاوضات من جهة وتفتح النار على جبال قنديل داعية الحزب الى خوض الحرب ليبقى الأخير ضمن قائمة الإرهاب أو تشغله وتشتت قواه عبر الاشتباكات المحلية والإقليمية حفاظاً على دولتها ومشروعها الهلال الشيعي.
ففي الأيام الأخيرة وبلعبة منها ومن الحكومة التركية والحزب الديمقراطي الكردستاني في الإقليم تم الدفع بالديمقراطي الكردستاني في إيران إلى قتال قوات الدفاع الشعبي لتحريضها على الاقتتال بهدف تشويه سمعة الحزب بعد أن أثبت للعالم أجمع بأنه ليس حزباً إرهابياً إنما هو صاحب مشروع ديمقراطي في المنطقة، ومن طرف آخر يهدفون إلى ضرب أصوات حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات من خلال جر ب ك ك إلى هذه الحرب القذرة ليقولوا )الاقتتال الأخوي(. فإيران التي سعت وبشكل دائم لاحتواء الحركة الكردية سواء في سوريا أو الأجزاء الأخرى ولم تصل إلى مسعاها تقف الموقف المعادي وبشكل مباشر لتقوم بتصفية كل من يقف في وجهها. لهذا تقوم تارة مع تركيا وتارة مع الديمقراطي الكردستاني العراقي وتارة مع النظام السوري بقلب الأوراق كي لا تنظر للقضية الكردية التي وضعتها تحت إبطها منذ قرون كي لا تبدأ بالحل.
فحادثة انتحار الفتاة الكردية فريناز كان يمكن أن تتحول إلى شرارة لتشعل إيران بأكملها، لأن الشعوب الإيرانية شبعت من الإعدام من قبل ديكتاتورية الملالي إلا أن تدخلها الماكر في القضية أطفأ الشعلة مؤقتاً، ولكنها ستشتعل مرة أخرى إن استمر النظام على هذا الحال، ومخططات القوى الخارجية لن تتركها بهذا الوضع إنما ستحدث المداخلة عاجلاً أم آجلاً عندها لا يبقى خيار أمام إيران سوى التغيير الديمقراطي أو أنها ستلاقي المصير نفسه الذي لاقته سوريا والعراق. أما حكومة الإقليم الممثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني فقد حاولت وبشتى الوسائل أن يكون لها الدور الفاعل في المكتسبات والسياسات المتجددة في المنطقة،وتدخلت من خلال الكرد في سوريا، وكانت على علم بالمخططات المرسومة للمنطقة، لهذا حاولت احتواء المجموعات والأحزاب الكردية وضمها إلى صفوف المعارضة الشوفينية التي لا يختلف موقفها عن موقف النظام في هذا المجال. لكن ضعف الحركة الكردية باسم المجلس الوطني أدى إلى فشل محاولاتها في جعل منطقة الجزيرة جزءا من إقليم كردستان، فالأحزاب التي اعتمدت عليها لم تكن تلك الأحزاب ذات الاستقلالية في مواقفها إنما هي أيضاً عملت جاهدة على تطبيق أجندات الدولة التركية والنظام السوري في المنطقة لهذا لم تفد حزب البرزاني بشيء. كما أنه يواجه مأزقاً وأزمة عميقة في البرلمان بسبب خسارته لشنغال وانتهاء مدة حكم السيد مسعود البرزاني، وهو الذي يعد الشعب الكردي بتشكيل الدولة الكردية حسب الوعود التي تقدم له من قبل أمريكا وغيرها إلا أنها لا تتحقق نتيجة أن زمن الدولة القومية شارف على الانتهاء ومن غير الممكن للدول العظمى أن تقبل بهكذا مشروع، لكنها تترك دائماً بصيصاً من الأمل لدى الكرد بأنهم سيصبحون أصحاب دولة كما كل العالم ليتم الاستفادة منهم في تطبيق مشاريعهم الاستعمارية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: أين هم الكرد من كل هذه التغييرات؟ الجواب هو أن الكرد هم الأكثر تعقلاً ووعياً لما يحدث في المنطقة، لهذا لم يتركوا المجال ليتحول الشعب الكردي إلى ألعوبة بيد كل من هب ودب، إنما أخذ الشعب الكردي زمام الأمور بيده وأصبح الآن هو رائد الحركة الديمقراطية وحرية الشعوب في المنطقة. الانتصارات التي تحققت في كل من كوباني والجزيرة فتحت الآفاق أمام القضية الكردية للحل، إلى جانب تطوير مشروع الحل الديمقراطي في المنطقة عن طريق إكساب المشروعية لمشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية بعد أن أصبح القوة الرئيسة في المنطقة والتي من غير الممكن تجاوزها أو التغاضي عنها.
والكرد أيضاً هم أصحاب مشروع الحل الديمقراطي السوري وهم القادرون على لم شمل الشعب السوري بأكمله بعد أن أثبتوا وجودهم على الأرض، لذا سيكون لمؤتمر القاهرة التأثير الكبير في حل الأزمة السورية إن تم التوصل لاتفاقات ونتائج مرجوة.[1]