أزمةٌ في سوريا؛ أَمْ عقدة غورديون الكأداء؟
سيهانوك ديبو
إنّ تجريد مفهوم الفرد من ماهيته المجتمعية أصل البلاء في الأزمة السوريّة، والبلاء في هذه الأزمة متمثل بالتعفن المستشري في الشرق الأوسط، وسوريا المخصوصةُ منها بشقيها )الفكري، والوجودي(. من المؤكد بأن رؤى ونظريات الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع كانت متفقة فيما بينها على تشخيصها الإجرائي للإشكالية المجتمعية – التغيير المجتمعي- التي لم يتم رصدها فعلياً، وكان الاتفاق في نقطتين أساسيتين:
أولاهما: خروج الإنسان من المجتمع الطبيعي المشاعي بإرادته؛ من المحقق بأن هذا المجتمع لم يكن على مستوى التغيير الذي نحا إليه الفرد والجماعة من جميع النواحي وفي مقدمتها: الارتقاء بالعيش كي يكون جديراً به، وهذا ما أسس لفعل الانحياز إلى الضد، أي الضد من العيش والحياة – فكانت الحروب- بمجرد انتقاله إلى المجتمع الوضعي، والأخير احتاج إلى السلطة والملكية فالفردانية بدلاً من الفردية الحرة.
ثانيهما: العودة الأُنسية إلى المجتمع الطبيعي وبإرادته أيضاً بعد أن أصبح المرض والجوع والفقر والتخلف وهشاشة الفكر والفوضى الهدّامة والشروخ المجتمعية عناوين وسمات حَيَواتنا الوضعية على الرغم من تنوع أو تعويم التنوع الفكري للمشهد، بدءاً من العلمانية إلى الليبرالية إلى النيو ليبرالية إلى الاشتراكية المشيّدة إلى الديمقراطية إلى الدولة المدنية إلى دولة المواطنة المتمدنة…
لكن بات العجز الوضعي العام سيّداً يجب إزاحته، فجميع ما تقدم، نظرت إلى الفرد من منظور الحشد لا من منظور الخ قّال، فغدا مفهوم الفرد مقيّدا ومتبوعاً تارة كما في حالة الاشتراكية المشيّدة، وتارة أخرى انفلاشياً غير محكوم بضابط كما في أحوال الليبرالية. هل يعي الفرد الذي يُنظر إليه ويُدار من منطق الذكاء التحليلي أيّة مصيبة وقع فيها؟ لا أنُسيةَ الإنسان في المجتمع الأزرق الحراك الثوري في منطقة الشرق الأوسط والذي عرف فيما بعد بحركات الربيع تُعْتَبَر من أعظم الحركات الاجتماعية في تاريخه، وهذا الوصف ينطبق وبكل محدداته على الحراك الثوري السوري. انتفاض الشعب السوري على النظام الاستبدادي حطم بدايةَ جدران الخوف المعششة في ذهنية جميع أفراد الشعب السوري. وما حدث من انزياح فيما بعد كان له العديد من الأسباب؛ أهمها: تحول سوريا إلى مرتع لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، وخاصة بعد الحجم الهائل الملحوظ من التدخل، والحجم المرعب من الحشد المتبوع لأجندة المتدخلين )إقليميا ودوليا(، وهذا بدوره خلق حالة صمت دولية رهيبة تجاه آلة العنف الممارس من قبل النظام ضد الجموع المنتفضة، وتجاه العنف المضاد والممارس من قبل جماعات وجبهات وألوية تم إعدادها وتسهيل مهماتها المدمرة والتي تقاطعت أحياناً كثيرة مع استراتيجية النظام المدمرة أساساً في ظل فوضى السلاح وعسكرة الحراك والمستندة أساساً وأُسَّاً إلى الحجز المجتمعي المؤسس من قبل النظام الاستبدادي وبمباركة نظام الكارتلات الدولية ورأسمالها المالي. ولا شك بأن عامل الإعلام ) الجديد( الذي تم إقحامه في المشهد الثوري لحركات الربيع بدلاً من أن يكون كما وظيفته: عاملاً مُكَمِّلاً مُجَمِّلاً مُتَمِماً بالأساس، في اعتقادنا جاء– أيضاً- كمفهوم حشدي وتضخيمي وغير ناقل لحقيقة ما يحدث، فكانت القنوات الإعلامية – التي لم تلتزم المهنية- العامل المسيء جداً لروح وصميمية الثورات ) الانتقام والهدم بدلاً من التغيير(. والمجتمع الأزرق ) مجتمع الفيسبوك( الذي حلَّ افتراضياً – كما خاصيّته- موقع القيادة بدلاً من الموقع المفترض للثورات وهي الأرض. فكانت الثورة على الفيسبوك ثورة زرقاء لا لون ولا طعم ولا وجهة لها. ومثل هذا التحليل ليس رغبة انتقامية من التكنولوجيا بل وصفاً يعتمد على الكثير من الأسباب،
أهمها:
-1 من الخطأ توصيف الارتباطات على مواقع التواصل بأنها صداقة؛ فالصداقة إحساس وعلاقة بينية تختلج فيها المشاعر وتتوافق، وما يحدث هو إحلال الارتباط الافتراضي بدلاً من عروة الصداقة.
-2 هل يعي أحدنا حجم الكارثة الأخلاقية التي يقترفها في غرفته ومن خلال كومبيوتره ) الجامد(، ولوحة المفاتيح ) غير الأُنسية(، ويقوم بتشكيل ) مفترض( لحيوات ) مفترضة( تنتهي وتحين مغادرتها بمجرد كبس زر إيقاف التشغيل؟
-3 هل ندرك حجم اللا انتماء الحاصل من خلال تسويف الفكرة ونقلها عن طريق أصدقاء) افتراضيين( إلى آخرين )غرباء(؟ فتصبح الفكرة كلها ) افتراضية( وتفتقد الروح التي تحتاجها الثورات مثلما يحتاجها مفهوم مثل الصداقة، سيّما أن النضال والبحث من أجل فكرة واحدة )الثورة( استغرق وقبل وجود المجتمع الأزرق أياماً وشهورا وسنيناً، وعلى العكس من هذه الحالة الصحية من العمل الحقيقي الشاق في المجال العلمي والعملي للأفكار باتت هذه الصفحات متلونة الأفكار أحياناً كثيرة: تأتي فكرة ضد فكرة ومن المصدر نفسه!!
-4 هل فكرنا مسبقاً بأن مواقع )التواصل( كانت موجودة مسبقاً وفي غالبية الدول، ولقد سمح النظام الاستبدادي بوجودها في سوريا وبالتزامن مع حركات الربيع؟ النظام الاستبدادي الذي كان رقيباً حسيباً على شهيق وزفير المواطن والفرد السوري المسحوق سمح فجأة بمداولة مواقع ) التواصل(، ربما رآها فرصته للمراقبة والتدخل في حيثيات الحراك؛ إنْ لم نقل إنه كان مشاركاً حتى في تحديد أيام الجمع.
-5 التغيير في المجتمعات لا لون محدد له، ولا مكان للون الأزرق فيه، وإن توجب أن يكون للتغيير لون فهو اللون الأحمر المشهود به في الثورات كما تم عَهْدُها تاريخياً وفي كل انعطافاتها الحاسمة.
-6 كلنا نعلم أن برامج ويوتيوبات وأفكار القاعدة الهدّامة تُبَثُّ عن طريق التويتر الأمريكية، فما المغزى من إدراج الهدم، والسماح الهيّن للتدمير الفكري، كفكر القاعدة مثلا، والمعادي ظاهرياً للأمريكان من خلال التقنية الأمريكية نفسها؟
يمكن توصيف ما تقدم بإجهار الضربات وتوجيهها لمفهوم الفرد الكلي، الفرد الندي، وإخراجه من سياقه التاريخي بأدواره المؤثرة في حركية التاريخ، ومحاولة خلق الفرد المُنقاد، وخلق حالة القطيع المشتت، وخلق اللا حل على الدوام، وهذا ما حصل في الشرق الأوسط، وما حصل في سوريا قبل مئة عام، فكانت اتفاقية سايكس- بيكو التي رسمت الدول وخطت الخرائط وفرضت الدساتير ووُضِعَ بعلمها واتفاقها مستبدون، ومن خلالهم ضمنوا التدخل في أيّة لحظة يريدونها، والدخول متبوع بالضرورة ومتعلق بشكل مكثف بحجم الأزمات التي تعانيها الدول التي نصّبت نفسها شرطيّاً على العالم ) تصدير الأزمة(.
واليوم الأزمة في سوريا، وخاصة بعد الأحداث الدراماتيكية في شماله وجنوبه، وما يُعد له على تخوم دمشق كلها مؤشرات بأن الوضع الذي كان يبتغيه النظام الدولي )تحقق(، وقد ساعده النظام المستبد بالتوازي والتوازن مع جبهات الإقصاء التكفيرية وبعض من )المتعارضة( المسلوبة إرادتها والتي أصبحت منفذاً لأجندات فئوية إلى درجة كبيرة. والمشهد السوري اليوم موصوف بأطراف متصارعة خائرة، سقوط الدولة وسقوط مؤسساتها، تشكل ظاهرة شرخ جمعية متنافرة، سوريا مُقسمة فعلياً ومهيأ لها عملياً حسب الاعتقاد. واليوم وعلى الرغم من شح الخيارات الوطنية لا بد من إجماع وطني على أجندة وطنية تحقق تطلعات الشعب السوري بكل قومياته وطوائفه في التغيير، وهذا بدوره يعتمد أساساً على ثلاثة مفاصل رئيسية لا يمكن تغييب أحدها تحت أية ذريعة كانت:
الأول: وقف العنف وآلة الحرب السورية وفق تصور وقرار ينجم من مجلس الأمن والأمم المتحدة تحت بند الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة.
الثاني: ترجمة عملياتية لمخرجات بيان جنيف واحد2012 والأخذ بعين الاعتبار المستجدات في الساحة السورية والدولية، وإلزام الأطراف المعنية بالحل بتشكيل هيئة تنفيذية كاملة الصلاحيات ومحددة بفترة زمنية يُهيأ فيها للتحضير لانتخابات برلمانية والاستعداد من أجل التوافق على دستور وطني ديمقراطي ضامن عدم إعادة إنتاج الاستبداد أو أي صيغة مستقبلية حاضنة له، سيّما أن السبب الأساس في الأزمة السورية متمثل في النظام القومي التوتاليتاري المركزي. وكبرى المهمات الوطنية والتي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هي أن صيغة اللامركزية السياسية هي الأنسب والأضمن كي تكون سوريا ديمقراطية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الثالث: الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي في سوريا والالتزام بما يترتب على ذلك، وحل قضيته حلاً ديمقراطياً عادلاً وفق العهود والمواثيق الدولية وفي إطار وحدة الوطن السوري وسيادته. والاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية الديمقراطية واعتبارها مشروعاً يمكن تعميمه على باقي المناطق السورية واعتباره – أيضاً- من الحلول المناسبة للأزمة السورية وخاصة بعد تقاطعه مع حيثيات مشاريع أو خططِ الحل المقدمة من الأمم المتحدة) خطة دي مستورا؛ مثالا(. عقدة غورديون الكأداء بعد صعود نجم الامبراطورية الميدية في القرن السابع قبل الميلاد حين كانت تحكم أجزاءً كبيرة من بلاد الميزوبوتاميا وحتى أواسط آسيا )شمال غرب الأناضول حالياً( في تلك الفترة تحكي الأسطورة بأن أهل هذه المنطقة ظلّوا ولفترة زمنية طويلة بدون ملك، وتنبأت إحدى عرّافات المعبد بأن الملك سيظهر راكباً عربة يجرها ثور. وبحسب الأسطورة كان هذا الرجل ) الملك لاحقا( غوردياس أو غورديون الفلاح الفقير الذي ظهر كما التنبؤ، وسرعان ما أعلنه الكهنة ملكاً على «فيرجيا ». ويبدو أن تحالفاً ما ظهر في الكواليس بين ابن غورديون واسمه ميدوس الشاب وبين كبير الكهنة كي يقطع الطريق أمام راكب عربة آخر ربما يظهر في فترة أخرى، فقدموا العربة إلى الإله زيوس، وتم ربطها بحبل أعقدوه بشكل كبير وتم إخفاء طرفي الحبل بشكل لا يمكن معه فك العقدة أو حلحلتها مطلقاً. و بقي الحال هكذا وضمن جميع سلالة الفقير غورديون أن يصبحوا ملوكاً حتى مجيء الإسكندر المقدوني والذي حاول أيضاً فك هذه العقدة ولكن كل محاولاته باءت بالفشل مما حدا به أن يستل سيفه ويمزق العقدة الكأداء. وتقول ميثولوجيا غورديون بأن عرافة أخرى تنبأت بأن من يقطع هذه العقدة سيكون فاتحاً لأراضي آسيا. ومنذ ذلك الحين يتم مقاربة أية مشكلة يصعب حلها أو تستوجب حلاً جذرياً لها بعقدة غورديون الكأداء.
المشهد السوري مرآة ساطعة للمشهد الشرق أوسطي، وعقدة أو عُقَدُ الشرق الأوسط تضاهي عقدة غورديون الكأداء، وألاعيب أصحاب المعبد والملوك في الأسطورة لا تضاهي لعبة الأمم الحالية بمصائر الأمم وبمساعدة أنظمة الاستبداد وسُرّاقِ الثورة ولصوصها. ومثل هذا المشهد المعقد يلزمه سيف الإسكندر. وأعتقد أن السيف الذي سيرفع حال الشرق الأوسط ومن ضمنه سوريا عالياً متمثلٌّ في مفهوم وفلسفة الأمة الديمقراطية ومشروعها المتمثل في الإدارة الذاتية الديمقراطية.
المنطق يقول: إذا توافق النقيض ونقيضه على شيء المتفقون على خطأ وذلك الشيء هو الصواب، حال ذلك حال مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية والتي باتت مُعاديَةً من قبل أنظمةِ الاستبداد ومن قبل بعض صنوف المعارضة وأيضاً من قبل التنظيمات وأنصاف الكتاب من الكرد أو ذوي الأصول الكردية. وكلٌ منهم يبرز تهافته؛ النظام الاستبدادي يرفض مثل هذا المشروع ويرى فيه نهايته، الائتلاف يدعي بأن الإدارة الذاتية الديمقراطية مشروع لتقسيم سوريا، وفي اللحظة نفسها يقول شركاؤه من بعض التنظيمات الكردية بأنه مشروع ضد الحقوق الكردية القومية، وبعض القُصَّر في السياسة الكردية والذين يدّعون الاستقلالية يَرَونَ هذا المشروع طمساً للوطن الكردي. من المؤكد بأن التحالف المخفي والاتفاق المُسْتَتر بين هؤلاء على معاداة مفهوم الأمة الديمقراطية ومشروع الإدارة الذاتية دليل الإفلاس والتأزم الفكري والسياسي لديهم، ودليل الخلل البنيوي التنظيمي في أجسامهم التنظيمية الهشة، وإشارة نهائية منهم إلى ضلالهم وأن كيدهم في نحورهم بائن مثل حقيقة الشمس وسطوعها. )سوريّاً(: الحل السياسي، الدولة المتمدنة، القضية الكردية، قضايا التحول الديمقراطي، وقضايا أخرى هي من أولويات المفهوم المجتمعي في الأمة الديمقراطية، وتُعْتَبر من أساسيات وصُلب مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية.[1]