منظومة المجتمع الكردستانية وأبعاد التحول إلى أمة ديمقراطية
#عبدالله أوجلان#
بحيث إنّ أولَ ما يخطرُ على البالِ عند ذِكرِ القضيةِ الوطنية، هو فكرةُ: «لِتَكُنْ لنا – نحن أيضاً – دولتُنا القومية ». وكادَ يتمُّ التفكيرُ بدولةٍ قوميةٍ لكلِّ أثنيةٍ ومِلّة. ومَن ابتَدَعَ هذا الموقفَ بوجهٍ خاصٍّ هو إنكلترا، التي تلهثُ وراءَ بسطِ هيمنتِها على الصعيدِ العالميّ؛ والتي تبغي تذليلَ عراقيلِ الدولِ العظمى المنتصبةِ أمامها كالإمبراطوريات، وكذلك الدولِ الصغيرةِ التي تتعثرُ بها كدُوَلِ المدن؛ وتهدفُ إلى مزاولةِ سياسةِ «فَرِّقْ تَسُدْ » ميدانياً. حيث إنّ الدولةَ القوميةَ ترتيبٌ لسلطةِ الهيمنةِ المبنيةِ على النظامِ الرأسماليّ، وأفضلُ ترتيبٍ للدولةِ التي تُؤَمِّنُ الربحَ الأعظميَّ والصناعوية. ولكي تُدرَكَ الدولُ القوميةُ بعينٍ صائبة، يجبُ تحليلُ مكانتِها ضمن النظامِ المهيمن، وعُراها التي تَربطُها بالرأسماليةِ والصناعوية. فالقولُ ببناءِ دولةٍ لكلِّ أثنيةٍ أو مذهبٍ أو قوم، يفيدُ بعولمةِ الرأسمالية، ويدلُّ بالتالي على الإسهامِ في الارتقاءِ بالاستغلالِ والدمارِ الأيكولوجيِّ إلى أقصى الدرجات. وقد شدَّدنا بإلحاحٍ على أنّ عمليةَ الإسهامِ هذه هي التي آلَت بالاشتراكيةِ المشيدةِ أساساً إلى الانهيار. وحاولنا تحليلَ كونِ هذا الموقفِ هو الذي يكمنُ ضمنيا وراء الانسدادِ الذي عاناه PKK بصددِ القضيةِ القومية، كونَه اعتمَدَ نظامَ الاشتراكيةِ المشيدةِ أساساً بدايةَ انطلاقِه. ونوَّهنا إلى أنّ PKK قد قَدَّمَ نقدَه الذاتيَّ مُحَقِّقاً تحولَه المطلوبَ في هذا المضمار. ويتجسدُ النهجُ الأمُّ للتحولِ بشأنِ القضيةِ الوطنيةِ في التراجعِ عن الحلِّ الدولتيِّ القوميّ، والعملِ أساساً بالحلِّ الديمقراطيِّ البديل. والحلُّ الديمقراطيُّ بدورِه يعبِّرُ عن البحثَ عن دمقرطةِ المجتمعِ خارجَ إطارِ الدولةِ القومية. وعلى صعيدِ الاصطلاح، فهو يُقَيِّمُ الدولةَ القوميةَ والرأسماليةَ على أنهما مصدرُ القضايا الاجتماعيةِ المستفحلةِ والمتكاثرة، وليستا حلاً لها.
يُشَكِّلُ ربطُ حلِّ القضايا الوطنيةِ والاجتماعيةِ بالدولةِ القوميةِ الجانبَ الأكثر جُوراً وتعسفاً في الحداثة. فعقدُ الحلِّ على الأداةِ التي تُشَكِّلُ مصدرَ القضايا بالتحديد، إنما يؤدي إلى استفحالِ وتعاظمِ القضايا كالتيهور، وإلى تفشي الفوضى الاجتماعية. ذلك أنّ الرأسماليةَ بذاتِ نفسِها هي الطورُ الأكثر تأزماً من بين أطوارِ نظامِ المدنية. والدولةُ القوميةُ التي تدخلُ جدولَ الأعمالِ في هذا الطورِ المتأزم، هي أرقى أشكالِ تنظيمِ العنفِ المُبتَكَرِ على مدى تاريخِ المجتمعات. إنها تعني تطويقَ عنفِ السلطةِ للمجتمعِ برمتِه. وهي أداةُ توحيدِ المجتمعِ والبيئةِ إكراهاً، بعدَما عَرَّضَتهما الرأسماليةُ إلى الانحلالِ والتقوضِ من خلالِ الربحِ الأعظميِّ والصناعوية. أما شحنُها بمقدارٍ مفرطٍ وفاحشٍ من العنف، فيتأتى من نزوعِ النظامِ الرأسماليِّ إلى الربحِ الأعظميِّ والمُراكَمةِ بالدساتير. ومثلما أنه ليس واقعياً المطالبةُ بالحُكمِ المطلقِ للدولة، أو بالسيادةِ المطلقةِ للديمقراطية؛ فهو أمرٌ مخالفٌ لروحِ الحلِّ أيضاً.
الحلُّ الديمقراطيُّ في صُلبِه يُدَلِّلُ على كينونةِ الأمةِ الديمقراطية، وعلى ظاهرةِ إنشاءِ المجتمعِ لذاتِه كمجتمعٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ. أي إنه لا يعني التحولَ إلى أمةٍ أو الخروجَ منها على يدِ الدولة. بل يعني انتفاعَ المجتمعِ بذاتِ نفسِه من حقِّه في إنشاءِ نفسِه كأمةٍ ديمقراطية.
والحالُ هذه، يتعينُ إعادةُ تعريفِ الأمة. يتوجبُ أولاً الإشارةُ إلى عدمِ وجودِ تعريفٍ واحدٍ فقط للأمة. فلدى إنشائهِا بيِدَِ الدولةِ القومية، فإنّ أعمَّ تعريفٍ للأمةِ هو أنها أمةُ الدولة. وإذا كان الاقتصادُ هو العاملُ المُوَحِّدُ لصفوفِها، فبالمقدورِ تسميتُها بأمةِ السوق. في حين إنّ الأمةَ التي يسَُودُ فيها القانون هي أمةُ القانون. كما وبالمستطاعِ إطلاقُ تسمياتِ الأمةِ السياسيةِ والأمةِ الثقافيةِ أيضاً. أما المجتمعُ الذي يُوحِّدُه الدين، فيُسمى بالأساسِ مِلّة. والأمةُ هي مجموعُ المِلَلُ المنضويةُ تحت شمسيةِ الدينِ عينِه الذي يُوَحِّدُها. أما الأمةُ الديمقراطية، فهي المجتمعُ المشتركُ الذي يكَُوِّنهُ الأفرادُ الأحرارُ والمجموعاتُ الحرةُ بإرادتهِم الذاتية. والقوةُ اللاحمةُ والمُوَحِّدةُ في الأمةِ الديمقراطية، هي الإرادةُ الحرةُ لأفرادِ ومجموعاتِ المجتمعِ الذي قرَّرَ الانتماءَ إلى نفسِ الأمة. بينما المفهومُ الذي يربطُ بين الأمةِ والاشتراكِ في اللغةِ والثقافةِ والسوقِ والتاريخِ، فهو يُعَرِّفُ أمةَ الدولة، والتي لا يُمكنُ تعميمُها، أي طرحُها كمفهومٍ وحيدٍ ومطلقٍ للأمة. ومفهومُ الأمةِ هذا، والذي يتبنى الاشتراكيةَ المشيدة؛ هو مضادٌّ للأمةِ الديمقراطية. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ هذا التعريفَ الذي صاغَه ستالين بشأنِ روسيا السوفييتية، هو أحدُ أهمِّ الأسبابِ الكامنةِ وراء انهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ. وإذ ما لمَ يتحققْ تخطي تعريفِ الأمةِ هذا الذي صبغَته الحداثةُ الرأسماليةُ بالطابعِ المطلق، فإنّ حلَّ القضايا الوطنيةِ سيستمرُّ في المعاناةِ من حالةِ تأزمٍ لا مخرجَ منها بكلِّ معنى الكلمة. وكونُ القضايا الوطنيةِ لا تنفكُّ مستمرةً حتى الآن وبكلِّ وطأتِها طيلةَ سياقٍ يمتدُّ لأكثر من ثلاثةِ قرونٍ بأكملِها، إنما هو على علاقةٍ كثيبةٍ بهذا التعريفِ الناقصِ والمطلق. وهذا النمطُ من المجتمعاتِ الوطنيةِ التي قُدِّرَ لها الخضوعُ لحدودِ الدولةِ القوميةِ الصارمة، والتي تغلغلَت السلطةُ حتى أدقِّ خلاياها؛ كادت تصبحُ ساذجةً ومغفلةً بقصفِها بالأيديولوجياتِ القومويةِ والدينويةِ والجنسويةِ والوضعية.
أي إنّ موديلَ الدولةِ القوميةِ بالنسبةِ إلى المجتمعات، هو مصيدةٌ أو شبكةُ قمعٍ واستغلالٍ بكلِّ معنى الكلمة. في حين إنّ مصطلحَ الأمةِ الديمقراطيةِ يَقلبُ هذ التعريفَ رأساً على عقب. فتعريفُ الأمةِ الديمقراطيةِ غيرِ المرسومةِ بحدودٍ سياسيةٍ قاطعة، وغيرِ المنحصرةِ بمنظورٍ واحدٍ فقط للُّغةِ أو الثقافةِ أو الدينِ أو التاريخ؛ إنما يعَبرِّ عن شراكةِ الحياةِ التي يَسُودُها التعاضدُ والتعاونُ فيما بين المواطنين والمجموعاتِ على خلفيةِ التعدديةِ والحريةِ والمساواة. هذا ويستحيلُ تحقيقُ المجتمعِ الديمقراطيّ، إلا من خلالِ هكذا نموذجٍ للأمة. في حين إنّ مجتمعَ الدولةِ القوميةِ منغلقٌ على الديمقراطيةِ بِحُكمِ طبيعتِه. حيث إنّ الدولةَ القوميةَ لا تُعبِّرُ عن واقعٍ مناطقيٍّ ولا كونيّ. بل على النقيض، فهي تعني إنكارَ كلِّ ما هو كونيٌّ أو مناطقيٌّ محليّ. ذلك أنّ مواطَنةَ المجتمعِ النمطيِّ دليلٌ على موتِ الإنسان. ومقابل ذلك،فالأمةُ الديمقراطيةُ تُمَكِّنُ من إعادةِ إنشاءِ المناطقيِّ والكونيّ، وتُؤَمِّنُ للواقعِ الاجتماعيِّ فرصةَ التعبيرِ عن نفسِه. أما تعاريفُ الأممِ الأخرى، فجميعُها تحتلُّ أماكنَها بين هذَين النموذجَين الرئيسيَّين.
بالرغمِ من التعاريفِ متراميةِ الآفاقِ بصددِ نماذجِ إنشاءِ الأمة، إلا إنه بالمستطاعِ صياغةُ تعريفٍ عامٍّ يشملُها جميعاً. ألا وهو التعريفُ القائلُ بكَونِ الأمةِ معنيةً بالذهنيةِ والوعيِ والعقيدة. والأمةُ في هذه الحالةِ هي مجموعُ الأناسِ الذين يتشاطرون عالَماً ذهنياً مشتركاً. وعليه، فحدودُ الدينِ واللغةِ والثقافةِ والسوقِ والتاريخِ والسياسةِ ليست مُعَيِّنةً في تعريفِ الأمةِ هذا، بل تؤدي دورا مُجَسِّما لا أكثر. وتعريفُ الأمةِ في الأساسِ بناءً على حالةٍ ذهنيةٍ ما، يتسمُ بطابعٍ ديناميكيّ. وبينما تتركُ القومويةُ بصماتِها على الذهنيةِ المشتركةِ لدى أمةِ الدولة، فإنّ ما يضفي صبغتَه على الأمةِ الديمقراطيةِ هو وعيُ الحريةِ والتعاضد. لكنّ تعريفَ الأممِ بالحالاتِ الذهنيةِ فحسب، يُبقي ذاك التعريفَ معلولاً ناقصاً. فكيفما أنه لا وجود للذهنياتِ من دونِ جسد، فالأممُ أيضاً غيرُ ممكنةٍ إلا بوجودِ الجسد. وجسدُ الأممِ ذاتِ الذهنيةِ القوموية، هو مؤسسةُ الدولة. وبالأصل، تسمى مثل تلك الأممِ بالدولةِ القوميةِ انطلاقاً من بدنِها ذاك. وعندما تطغى المؤسساتُ القانونيةُ أو الاقتصادية، فبالمقدورِ تمييزُ مثل تلك الأممِ بنعتِها بأمةِ السوقِ أو أمةِ القانون. أما بدنُ الأممِ المتمحورةِ حول الحريةِ والتعاضد، فهو شبهُ الاستقلالِ الديمقراطيّ. أي إنّ شبهَ الاستقلالِ الديمقراطيّ يعني أساساً قيامَ الأفرادِ والمجموعاتِ التي تتشاطرُ ذهنياتٍ متقاربةٍ بإدارةِ نفسِها بإرادتهِا الحرة. هذا وبالإمكانِ تسميةُ ذلك بالإدارةِ الديمقراطية أو الاقتدارِ الديمقراطيّ. وهو تعريفٌ منفتحٌ على الكونية.
المتواصلة. حيث يستحيلُ تفعيلُ قوانين التكديسِ الرأسماليّ، أو تأمينُ سيرورةِ الصناعوية؛ في حالِ غيابِ تنظيمٍ عنفيٍّ من قبيلِ نمطِ الدولةِ القومية. وعليه، يواجهُ المجتمعُ والبيئةُ حالةَ تناثرٍ وتبعثرٍ تامٍّ في عصرِ الرأسماليةِ الماليةِ العالمية، التي تُعَدُّ آخِرَ مرحلةٍ تمَّ بلوغُها. فالأزماتُ التي كانت دوريةً في بدايتهِا، اكتسبَت طابعاً دائمياً وبنيوياً. وفي هذه الحال، فقد تحولَت الدولةُ القوميةُ بعينِها أيضاً إلى عائقٍ يُغلِقُ النظامَ القائمَ ويَسُدُّه كلياً. وهكذا فحتى الرأسمالية، التي تُعتَبَرُ بنفسِها بنيةً متأزمة، قد أدرجَت موضوعَ الخلاصِ من عائقِ الدولةِ القوميةِ على رأسِ أجندتِها. إنّ حاكميةَ الدولةِ القوميةِ ليست فقط مصدراً للقضايا الاجتماعية، بل وهي في الوقتِ عينِه حجرُ عثرةٍ أساسيٌّ على دربِ حلِّها. وقيامُ الطبقةِ الرأسماليةِ الحاكمةِ بتَصَوُّرِ نظامٍ كهذا على أنه أداةُ الحلِّ بالنسبةِ إلى المجتمعِ والشعوبِ والكادحين، هو أمرٌ يخالفُ طبيعةَ المجتمع، بل ويعني إنكارَها. بناءً عليه، يتعينُ اتخاذُ النموذجِ الديمقراطيِّ أساساً في حلِّ القضايا الوطنيةِ التي هي أهمُّ جزءٍ من القضايا الاجتماعية؛ وذلك انطلاقاً من طبيعةِ المجتمعِ والشعوبِ والكادحين من جهة، وبسبببِ عائقِ الدولةِ القوميةِ للنظامِ المهيمنِ من الجهةِ الثانية.
إنّ نموذجَ الحلِّ الديمقراطيِّ ليس مجردَ خيارِ حلٍّ فقط، بل وهو أسلوبُ الحلِّ الأول. ولَئِنْ كانت الحركاتُ الاشتراكيةُ والتحرريةُ الوطنيةُ ترومُ إلى إحرازِ النجاح، فعليها بعدمِ البحثِ عن الحلِّ خارجَ نطاقِ الديمقراطية. بينما كافةُ الميولُ الديكتاتورية، بيمينِها ويسارِها ومركزِها، لن تَقومَ إلا بتجذيرِ وتوطيدِ حالةِ العقم، وبتصييرِ الرأسماليةِ نَهّابةً وسَلاّبةً وافتراضيةً أكثر. هذا وينبغي عدمُ تَصَوُّرِ نموذجِ الحلِّ الديمقراطيِّ على أنه دولةٌ قوميةٌ موحَّدةٌ صائرةٌ في هيئةٍ فيدراليةٍ أو كونفدرالية.
أي إنّ الحالةَ الفيدراليةَ أو الكونفدراليةَ للدولةِ القوميةِ ليست بحلٍّ ديمقراطيّ. بل إنها حلولٌ مرتكزةٌ إلى أشكالٍ مختلفةٍ من الدولة، ولن تذهبَ في دورِها أبعدَ من زيادةِ وطأةِ القضايا مرةً أخرى. قد يكَونُ تحويلُ الدولةِ القوميةِ المركزيةِ الصارمةِ إلى أشكالٍ فيدراليةٍ أو كونفدرالية، سيُطَوِّعُ القضايا ويجلبُ حلولاً نسبيةً لها وفق مَنطقِ النظامِ الرأسماليّ؛ ولكنه محالٌ أنْ يفضيَ إلى حلولٍ جذرية. بالإمكانِ اختبارُ وتجريبُ الأشكالِ الفيدراليةِ والكونفدراليةِ كأدواتِ حلٍّ فيما بين قوى الحلِّ الديمقراطيِّ وقوى الدولتيةِ القومية. لكنّ عقدَ الأملِ على الحلولِ الجذريةِ تأسيساً على استخدامِ تلك الأدوات، لا يعني سوى خداعَ الذاتِ وتضليلهَا ثانيةً. ونحن على علمٍ بأنّ شكلَ الدولةِ الذي أَسمَيناه بالدولةِ التحرريةِ الوطنيةِ أو بدولةِ الاشتراكيةِ المشيدة، ما هو سوى دولةٌ قوميةٌ مُمَوَّهةٌ بالقناعِ اليساريّ. حيث تبدى للعيانِ جلياً أنها أنظمةٌ أكثر ديكتاتوريةً وانفتاحاً على الفاشية.
من عظيمِ الأهميةِ التبيانُ بأنّ نموذجَ الحلِّ الديمقراطيِّ ليس منفصلاً كلياً عن الدولةِ القومية. إذ بمقدورِ الديمقراطيةِ والدولةِ القوميةِ أنْ تلعبا دورَهما كسيادتَين تحت السقفِ السياسيِّ عينِه. والدستورُ الديمقراطيُّ هو الذي يرسمُ الحدودَ الفاصلةَ بين مساحتيَ نفوذِهما. وإلى جانبِ خطوِ الاتحادِ الأوروبيِّ بعضَ الخطواتِ في هذا المنحى، إلا إنّ الجانبَ الطاغيَ هنا هو سيطرةُ الدولةِ القومية. لكنّ المَيلَ السائدَ في عمومِ أرجاءِ العالَم، هو في اتجاهِ تجاوُزِ الدولةِ القومية. ويستندُ أهمُّ تحولٍ سياسيٍّ يشهدُه العالَم، إلى تخطي الدولةِ القوميةِ نظرياً وعملياً. وبقدرِ ما يُصَيِّرُ الحلُّ الديمقراطيُّ نفسَه نظامياً وشبهَ مستقلّ، فسيُساهمُ بالمِثلِ حينها في إنجازِ التحولِ السياسيّ. وتحوُّلُ الدولةِ في الاتجاهِ الإيجابيّ، إنما هو متعلقٌ عن كثبٍ بتحقيقِ الدمقرطة، وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، وإنشاءِ الأمةِ الديمقراطية، وإحلالِ الديمقراطيةِ المحلية، وإرساءِ ثقافةِ الديمقراطيةِ في المجالاتِ الاجتماعيةِ قاطبة.
KCK هو التعبيرُ الملموسُ للحلِّ الديمقراطيِّ في سياقِ القضيةِ الكردية. وهو مختلفٌ عن المواقفِ التقليدية. ولا يرى الحلَّ في اقتطاعِ حصتهِ من الدولة. بل وحتى إنه لا ينساقُ وراء دولةٍ للكردِ بمعناها شبهِ الاستقلاليّ. وكيفما أنه لا يتطلعُ إلى بناءِ دولةٍ فيدراليةٍ أو كونفدرالية،، فهو أيضا لا يعَتبَرِها حلاً خاصا به. ومطلبهُ الأوليُّ من الدولة، هو اعترافُها بحقِّ الكردِ في إدارةِ أنفسِهم بأنفسِهم وبإرادتهِم الحرة، وعدمُ زرعِها العراقيل على دربِ تحولِهم إلى مجتمعٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ. فإذا كانت الدولُ القوميةُ الحاكمةُ ملتزمةً بالمبدأِ الديمقراطيٍّ فعلاً، لا قولاً؛ فحتى لو لَم تناصرْ المجتمعَ الديمقراطيّ، فعليها ألا تعيقَه أو تفرضَ عليه الحظر. لا تطَُوِّرُ الدولُ أو الحكوماتُ الحلَّ الديمقراطيّ. بل إنّ القوى الاجتماعيةَ بالتحديد هي المسؤولةُ عن الحلّ، حيث تبحثُ عن الوفاقِ مع الدولِ أو الحكوماتِ على هدى الدستورِ الديمقراطيّ. أي إنّ تشاطُرَ الإدارةِ والتوجيهِ بين القوى الاجتماعيةِ الديمقراطيةِ وقوى الدولةِ أو الحكومةِ المعنية، يتمُّ تحديدُه وعلى ضوءِ هذه التعاريفِ العامةِ بشأنِ الأمة، فإنّ KCK يرفضُ المواقفَ الدولتيةَ القوميةَ في حلِّ القضيةِ الوطنيةِ الكردية، ويعملُ أساساً بمقتضى تجسيدِ النموذجِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ وحقِّ الكردِ في التحولِ إلى أمةٍ أو إلى ظاهرةِ المجتمعِ الوطنيِّ مُجَسَّماً في هيئةِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ. ما يَسري هنا هو تعريفُ أمةٍ بجسدٍ واحدٍ منفتحٍ على تعريفِ أمةٍ عليا تتألفُ بِمَعيّةِ الأممِ الأخرى كالأمةِ التركيةِ على سبيلِ المثال. هذا وبالإمكانِ توسيعُ نطاقِ تعريفِ الأمةِ العليا، بحيث تحتضنُ العديدَ من الأممِ بين طواياها. وباستطاعتنِا تصَوُّرُ الأمةِ الإسلاميةِ نموذجاً بِدئياً لهذا التعريف. وترجحُ كفةُ الاحتمالِ باتجاهِ توحيدِ الثقافاتِ الاجتماعيةِ للشرقِ الأوسطِ في بوتقةِ مِلةٍّ – أمةٍ مشتركة، أي أمةٍ مستحَدَثة، عاجلاً كان أم آجلاً. بالمقدورِ التفكيرُ أولاً ببُعدَين اثنَين، فيما يخصُّ تحولَ الكردِ إلى أمةٍ على هدى تلك المصطلحاتِ الأساسية. أولُهما البُعدُ الذهنيّ. نتكلمُ هنا عن البُعدِ الوجوديِّ لِمَن يتشاطرون عالَماً ذهنياً )عالَم الذهنية المشتركة( عامراً بمشاعرِ التعاضدِ والتكافلِ المشترك، ويوحِّدُ حالاتِهم الواعيةَ المعنيةَ بحقولِ اللغةِ والثقافةِ والتاريخِ والاقتصادِ والتوزعِ السُّكّانيّ، دون إهمالِهم لآفاقِهم الأساسيةِ الخاصةِ بهم ضمن إطارِ تلك الحقول. والقسطاسُ الأوليُّ في هذا البُعد، هو التشاطرُ الذهنيُّ لخيالِ أو مشروعِ عالَمٍ حرٍّ ومتساوٍ مرتكزٍ إلى الاختلافِ والتباين.
كما وبمقدورِنا وصفُ عالَمِ الذهنيةِ ذاك بالعالَمِ الكوموناليِّ أو اليوتوبيا الكوموناليةِ للأفرادِ الأحرار. المهمُّ هنا هو الإحياءُ الدائمُ لذهنيةِ المساواةِ والحريةِ التي لا تدحضُ أَوجُهَ التباين، وتحقيقُ انتعاشِها في الحيزِ العامّ، وفي العالَمِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ للمجتمع. أي، العيشُ بالذهنيةِ الديمقراطيةِ على مدارِ الساعة. البُعدُ الثاني هو الجسدُ الذي سيَركُنُ إليه العالَمُ الذهنيّ. المقصودُ من البدن، هو إعادةُ ترتيبِ الوجودِ الاجتماعيِّ بموجبِ العالمَ الذهنيّ. كيف سيُعادُ ترتيبُ المجتمعِ بموجبِ عالَمِ ذهنيةِ الأمةِ التي يشتركُ الجميعُ في تشاطُرِها؟ أيُّ معيارٍ معماريٍّ سيُطَبَّقُ على الوجودِ الجسديّ؟ باقتضاب، فتعريفُ البُعدِ الجسديِّ يتمثلُ في إعادةِ ترتيبِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ )وبيئتِها( المتبقيةِ من الماضي الغابرِ والتقاليدِ القديمة، والتي رتَّبَتها – أو بَعثَرَتها ونَثَرَتها – الحداثةُ الرأسمالية، بحيث صَيَّرَتها مَريضةً ومتأزمةً وقمعيةً واستغلاليةً إلى أقصى الدرجاتِ )بما في ذلك الممارساتُ التي تبلغُ حدَّ الإبادةِ الثقافية( بما يتماشى ومآربَها المُغرِضة.
يتطلبُ البُعدُ الذهنيُّ فرزاً محدوداً، نظراً لاهتمامِه بعالَمِ الفكرِ والخيالِ ومشاعرِ التعاضدِ فيما بين مجموعِ الأفرادِ والمجموعاتِ الطامحين في التحولِ إلى أمة. وما يتصدرُ هذه الأنشطةَ العمليةَ في سبيلِ ذلك، هو إعطاءُ التدريبِ العلميِّ والفلسفيِّ والفنيِّ )والدينيّ أيضاً(، وافتتاحُ المدارسِ اللازمةِ لهذا الغرض. ذلك أنّ شحذَ الذهنِ والعاطفةِ فيما يتعلقُ التحولَ إلى أمة، هو وظيفةُ تلك المدارس. وبقدرِ الاعتناءِ بالوجودِ التاريخيِّ والاجتماعيّ، فإنّ المحورَ الأساسَ هنا هو وعيُ الحاضرِ والثقافةِ الاجتماعيةِ المعنيةِ بالعصرِ الحاليّ، وتشاطُرُ جوانبُها الصائبةُ والفاضلةُ والجميلةُ على شكلِ أفكارٍ ومشاعر مشتركة. باختصار؛ فالمَهَمّةُ الذهنيةُ الأوليةُ المتجسدةُ في هيئةِ KCK ، هي تَصَوُّرُ الكردِ أمةً قائمةً بذاتِها، على صعيدِ عالَمِ الفكرِ والمشاعرِ الفاضلةِ والصحيحةِ والجميلةِ المُشتركةِ فيما يخصُّ نشوءَهم. وبتعبيرٍ آخر، إنها خلقُ كينونةِ الأمةِ لدى الكردِ بالثورةِ العلميةِ والفلسفيةِ والفنية، وإبداعُ عالَمِ الفكرِ والمشاعرِ الأساسيِّ لهذه الكينونة؛ والتشاطرُ الحرُّ لانفراجِ وانشراحِ الحقيقةِ العلميةِ والفلسفيةِ )الأيديولوجية( والفنيةِ للواقعِ الكرديّ. والسبيلُ إلى ذلك هو التفكيرُ الذاتيّ، وتلَقَيّ التدريبِ الذاتيّ، وتشاطُرُ الفاضل، والعيشُ بجمالية.
والنقطةُ الأوليةُ التي يُمكنُ مطالبةُ الدولِ القوميةِ الحاكمةِ بتلبيتِها على الصعيدِ الذهنيّ، هي الالتزامُ التامُّ بحريةِ الفكرِ والرأيِ والتعبير. ولئَنِ كانت الدولُ القوميةُ ترغبُ في العيشِ المشتركِ مع الكردِ في ظلِّ معايير مشتركة، فعليها احترامُ قيامِ الكردُ بتكوينِ عالَمِهم الفكريِّ والعاطفيِّ الخاصِّ بهم، وبالارتقاءِ بأنفسِهم إلى منزلةِ مجتمعٍ وطنيٍّ مُحَصَّنٍ بفوارقِهم وتبايناتِهم؛ وعليها تضمينُ حريةِ الفكرِ والرأيِ والتعبيرِ بدستور، كشرطٍ لا بدّ منه. ذلك إنّ الطريقَ المؤديةَ إلى تشكيلِ أمةٍ مشتركة، تمرُّ من الامتثالِ الكاملِ بحريةِ الفكرِ والرأي.
الطريقُ الثاني على دربِ التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية، هو إعادةُ ترتيبِ النشوءِ الجسديّ. هذا ويتسترُ شِبهُ الاستقلالِ الديمقراطيِّ في رُكنِ البُعدِ الجسديّ. وبالمقدورِ صياغةُ تعريفٍ عامٍّ وآخر ضيقٍ بصددِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ. فهو بمعناه الواسعِ يعني الأمةَ الديمقراطيةَ التي لها أبعادُها المتوزعةُ على مساحاتٍ أوسع. إذ يُمكنُ تعريفُه بنطاقٍ عامٍّ من خلالِ أبعادِه الثقافيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والقانونيةِ والدبلوماسيةِ وغيرِها. أما بالمعنى الضيق، فشبهُ الاستقلالِ الديمقراطيِّ يفيدُ بالبعُدِ السياسيّ، أو بعبارةٍ أخرى: إنه يدلُّ على الاقتدارِ الديمقراطيِّ أو الإدارةِ الديمقراطية. هذا ويعاني بعُدُ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ على دربِ التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطيةٍ من إشكالياتٍ أكثر استعصاءً مع الدولِ القوميةِ الحاكمة، التي عادةً ما تطعنُ بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ وتدحضُه، ولا تَميلُ إلى الاعترافِ به كحقٍّ مشروع، ما لمَ تستدعِ الضرورة. من هنا، فالاعترافُ والقبولُ بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ بالنسبةِ إلى الكرد، يكمنُ في أساسِ الوفاقِ مع الدولِ القومية. ذلك أنه يُشَكِّلُ الحدَّ الأدنى للعيشِ المشتركِ مع الدولِ القوميةِ للأثنياتِ الحاكمةِ تحت سقفٍ سياسيٍّ جامع. وأيُّ اختيارٍ أدنى منه مرتبةً، لن يعنيَ حلَّ القضية، بل تجذُّرَ العقمِ وتصعيدَ أجواءِ الصراعِ والاشتباك. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ الرأسماليةَ الإنكليزيةَ قد صاغَت مؤخَّرا مشروعَ «الحقوق الفردية والثقافية » الليبراليّ، كي تتمكنَ من توجيهِ طبقتِها العاملةِ ومستعمَراتِها بسهولةٍ أكبر؛ وتعملُ على تنفيذِه داخل الجمهوريةِ التركيةِ أيضاً بِيَدِ .AKP إلا إنّ هذا المشروعَ الغريبَ عن ثقافةِ الشرقِ الأوسط، لن يجُديَ نفعا سوى في تصعيدِ أوساطِ الصِّدامِ والنزاع. أما شبهُ الاستقلالِ الديمقراطيّ، فهو أفضلُ مشاريعِ الحلِّ المُصاغةِ لصالحِ الدولةِ القومية. وأيُّ فكرةٍ أو تجربةٍ أَقَلُّ مستوى منه، لن تفيدَ سوى في خدمةِ أجواءِ الحربِ والصراعِ المستفحلة.
بالوسعِ تطبيقُ حلِّ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ عن طريقَين: يعتمدُ الطريقُ الأولُ الوفاقَ مع الدولِ القومية، ويَجِدُ تعبيرَه الملموسَ في حلِّ الدستورِ الديمقراطيّ. وهو يحترمُ ميراثَ الشعوبِ والثقافاتِ التاريخيَّ – الاجتماعيّ، ويعَتبَرُِه أحدَ الحقوقِ الدستوريةِ الأساسيةِ التي لا استغناء لها عنها للتعبيرِ عن نفسِها وتنظيمِ ذاتِها ونيلِ حريتِها. وشِبهُ الاستقلالِ الديمقراطيّ مبدأ رُكنٌ لهذه الحقوق. وأولُ شرطٍ لهذا المبدأ الثابت، هو تراجُعُ الدولةِ القوميةِ الحاكمةِ عن شتى سياساتِها في الإنكارِ والإبادة، وتخلي الأمةِ المضطهَدةِ أيضاً عن فكرةِ بناءِ دولتيتِها القوميةِ الذاتيةِ الخاصةِ بها. بمعنى آخر، من العصيبِ للغاية أنْ يرَى مشروعُ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ النورَ على أرضِ الواقع، ما لَم تتخلَّ كِلتا الأمتَين عن ميولِها الدولتية. والمحطةُ التي بلغَتها بلدانُ الاتحادِ الأوروبيِّ بعد خبرةٍ طويلةٍ على دربِ الدولةِ القوميةِ دامت ثلاثةَ قرونٍ بحالِها، هو قبولُها بكونِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ هو أفضلُ نموذجٍ لحلِّ القضايا الإقليميةِ والقوميةِ وقضايا الأقلياتِ التي تعاني منها الدولُ القومية.
وفيما يخصُّ حلَّ القضيةِ الكرديةِ أيضاً، فالسبيلُ الأساسيُّ المبدئيُّ والثمينُ والذي لا يستندُ إلى الانفصاليةِ أو العنف، إنما يمرُّ من القبولِ بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ. وجميعُ الطرقِ عدا هذا السبيلِ تؤدي إلى إرجاءِ القضايا وإمهالهِا، وبالتالي إلى توطيدِ الانسدادِ العقيمِ أكثر، أو تفضي إلى تصعيدِ الاشتباكاتِ وحصولِ الانفصال. وتاريخُ القضايا الوطنيةِ عامرٌ بالأمثلةِ على هذا الصعيد. ونعَيمُ بلدانِ الاتحادِ الأوروبيِّ بالرفاهِ والغنى ضمن أجواءٍ يعمُّها السلام خلال العقودِ الستةِ الأخيرة، بعدما كانت مهدَ الاشتباكاتِ والنزاعاتِ الوطنية؛ إنما أصبحَ ممكناً بقبولِها لشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، وبتطويرِها المواقفَ والممارساتِ المرنةَ والخلاّقةَ لحلِّ قضاياها الإقليميةِ والوطنيةِ وقضايا الأقلياتِ لديها. أما في الجمهوريةِ التركية، فالعكسُ هو الذي سرى. فالدولةُ القوميةُ المُرادُ إكمالهُا وتتويجُها بسياسةِ الإنكارِ والإبادةِ بحقِّ الكرد، قد زجّت الجمهوريةَ في معمعانِ إشكالياتٍ ضخمةٍ لا تطُاق، وأقحمَتها في أجواءٍ من الأزماتِ المتواصلة، والانقلاباتِ العسكريةِ التي يُلجَأُ لها كلِّ عشرِ سنوات، ونظامِ الحربِ الخاصةِ المُسَيرَّةِ على يدِ الغلاديو. وعليه، فلن تستطيعَ الدولةُ القوميةُ التركيةُ بلوغَ الرفاهِ والسعادةِ والغنى، أو ترسيخَ أجواءِ السلامِ الوطيدِ كجمهوريةٍ علمانيةٍ وديمقراطيةٍ طبيعيةٍ قانونية؛ إلا تماشياً مع مدى تخليها عن كلِّ ضروبِ سياساتِها الداخليةِ والخارجيةِ تلك، وتراجُعِها عن ممارساتِ نظامِها ذاك، واعترافِها بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ لجميعِ الثقافاتِ عموماً )بما في ذلك الثقافتان التركمانيةُ والتركية(، وللوجودِ الثقافيِّ الكرديِّ على وجهِ الخصوص.
طريقُ الحلِّ الثاني لشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، هو تطبيقُ مشروعِه بشكلٍ أحاديِّ الجانبِ ولا يعتمدُ على الوفاقِ مع الدولِ القومية. حيث يطبِّقُ أبعادَ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ على أرضِ الواقعِ بمعناها العامّ، مُؤَمِّناً بذلك حقَّ الكردِ في التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية. لا جدالَ أنه في هذه الحالةِ ستزدادُ الاشتباكاتُ حِدّةً مع الدولِ القوميةِ الحاكمة، التي لن تعترفَ بطريقِ التحولِ أحاديِّ الجانبِ إلى أمةٍ ديمقراطية. ومقابلَ هجماتِ الدولِ القوميةِ فُرادى أو جَمعا )إيران – سوريا – تركيا(، فإنّ الكردَ في هذه الحالِ لن يجَِدوا أمامَهم خيارا سوى «الانتقال إلى وضعِ الحربِ والنفيرِ العامِّ بهدفِ صونِ وجودِهم والعيشِ بحرية ». ولن يتقاعسوا عن تسخيرِ قواهم الذاتيةِ في تحقيقِ وتطويرِ تحوُّلِهم إلى أمةٍ ديمقراطيةٍ بكلِّ أبعادِها على خلفيةِ الدفاعِ الذاتيّ؛ إلى أنْ تفُرزَ الحربُ وفاقا ما، أو يتوطَّدَ الاستقلال.
أما الأبعادُ التفصيليةُ للأمةِ الديمقراطيةِ التي قد تُنشَأُ على أرضيةِ هذَين الطريقَين، فبالإمكانِ ترتيبُها على النحوِ التالي:
– ثقافة الأمة الديمقراطية: البُعدُ الثقافيُّ عاملٌ هامٌّ في نشوءِ الأمم.
وبالمعنى الضيق، تُعَبِّرُ الثقافةُ عن الذهنيةِ التقليديةِ والحقيقةِ العاطفيةِ للمجتمعات. ويُشَكِّلُ الدينُ والفلسفةُ والميثولوجيا والعلمُ ومختلفُ الحقولِ الفنيةِ ثقافةَ مجتمعٍ ما بالمعنى الضيق، ويَعكسُ حالتَه الروحيةَ والعقلية. بينما يتعرضُ العالَمُ الثقافيُّ لتحريفٍ وتحطيمٍ كبيرَين، أثناء تشييدِ الدولةِ القوميةِ أو تكوينِ الأممِ بِيَدِ الدولة. فالحداثةُ الرأسماليةُ لا تَقبلُ بالتقاليدِ بكلِّ ما تملكُ من حقائق كما هي عليه. بل تنتهلُها منها، بعدَما تصطفي ما ينفعُها منها، وتُطرئُ التحولَ عليها بناءً على مصالحِها هي. وهكذا، فما تَمهرُه بمُهرِ التاريخِ الثقافيِّ عارضةً إياه على المجتمعِ والفرد، إنما هو شيءٌ مختلفٌ كلَّ الاختلاف. إنه اللاتاريخُ باسمِ التاريخ، واللاثقافةُ باسمِ الثقافة. وبعبارةٍ أخرى، إنها تنتقي من بين تاريخِ وثقافةِ البشريةِ بالكاملِ ما يلائمُ المنظورَ المنفعيَّ والغرائزَ المصلحيةَ للرأسمالية، لتسردَه أمامنا وكأنها ترسمُ لوحةً جديدةً تماماً. وبهذا المعنى، فالحداثةُ الرأسماليةُ والدولةُ القوميةُ التي تعُدُّ المُكَوِّنَ الأهمَّ لديها، تشُكِّلان حركةً مُريعةً في تعتيمِ وتشويهِ التقاليدِ والثقافة. إنهما ضربةٌ قاضيةٌ تلحقُ بالتاريخِ والثقافةِ على صعيدِ الحقيقة. حيث لا يُمكنُها البتة شرعنةُ قاعدةِ الربحِ الأعظميِّ وتكديسِ رأسِ المالِ المتحققةِ بمنوالٍ آخر. أي إنّ الحداثةَ والدولةَ القوميةَ عاجزتان عن تحقيقِ كينونتِهما، من دونِ إعادةِ إنشاءِ التاريخِ والثقافةِ حسبما تشاءان. بمعنى آخر، فحقيقةُ الحداثةِ والدولةِ القوميةِ البارزةُ إلى الوسط، هي واقعٌ مغاير، بل وحقيقةٌ مختلفةٌ كلَّ الاختلافِ عن التاريخِ والثقافة.
تسعى الأمةُ الديمقراطيةُ إلى تكوينِ نفسِها، بإعادةِ المعنى الحقيقيِّ إلى التاريخِ والثقافة. أي، وكأنّ التاريخَ والثقافةَ المُعَرَّضَين للتشويهِ والإبادةِ يشهدان النهضةَ في خضمِّ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيّ. وبالأساس، فالنهضةُ المُعاشةُ في أوروبا أثناء طويِ صفحةِ العصورِ الوسطى، كانت تعني عودةَ انتعاشِ أو انبعاثِ التاريخِ والثقافةِ الإغريقييَّن والرومانييَّن. ثم حذَت كافةُ البلدانِ والأقوامِ الأوروبيةِ حذوَ المثالِ الإيطاليّ، وانطلقَت لإنجازِ نهضتِها، مسجِّلةً النجاحَ في تحولِها الوطنيِّ الديمقراطيّ. لقد كان مفادُ ذلك عودةُ التقاءِ كلِّ شعبٍ بتاريخِه وثقافتِه الذاتيَّين من خلالِ تجاوزِ النزعةِ الكاثوليكية العالمية، وعودةُ إنشاءِ نفسِه أمةً ديمقراطية. أي إنّ العناصرَ النابعةَ من التاريخِ والثقافةِ هي التي كانت سائدةً بدايةَ التحولِ الوطنيِّ في أوروبا. وتلك العناصرُ كانت أساسا تشُكِّلُ تاريخَ الشعوبِ والأقوامِ وثقافاتهِا. وعليه، كانت الميولُ الديمقراطيةُ هي الطاغيةُ ضمن الأممِ الناشئة. لكنّ تصاعدَ الميولِ الطبقيةِ لدى البورجوازيةِ فيما بعد، وبسطَها هيمنتَها في الثورةِ الفرنسيةِ خصيصاً؛ قد حوَّلَ طابعَ الأمةِ الديمقراطيةِ إلى أمةِ دولةٍ ممهورةٍ بخاتمِ السلطةِ والدولة. وفي واقعِ الأمر، فما حصلَ في جميعِ الثوراتِ الأوروبيةِ تتصدرُها الثورةُ الفرنسيةُ الكبرى
– بما في ذلك الثورةُ الروسيةُ أيضا،ً ولو أتت متأخرا – كان نشوبَ الثورةِ المضادةِ على يدِ الدولةِ القوميةِ في وجهِ الأمةِ الديمقراطيةِ وثورةِ الأمةِ الديمقراطية. أي إنّ الدولةَ القوميةَ كانت أكبرَ حركةِ ثورةٍ مضادةٍ مُنجَزةٍ ضد الثوراتِ الديمقراطيةِ الكبرى التي أطلقَها الكادحون والشعوبُ الأوروبية. وبتعبيرٍ آخر، فكلُّ دولةٍ قوميةٍ أو كلُّ نزعةٍ قوميةٍ مُحَقَّقةٍ بِيَدِ الدولةِ في عمومِ أوروبا ثم في كافةِ أرجاءِ المعمورة، هي حركاتُ ثورةٍ مضادةٍ كبرى شنتَّها الرأسماليةُ والبورجوازيةُ ضد الاشتراكيةِ والبروليتاريا وثوراتِ الأمةِ الديمقراطيةِ التي أطلقوها، وضد تعاونِ وتعاضدِ الأممِ والشعوبِ الثوريةِ وأممياتهِا. باقتضاب، كلُّ دولةٍ قوميةٍ هي ثورةٌ مضادة. إنها ديكتاتوريةُ وفاشيةُ الرأسماليةِ والبورجوازيةِ وشركائِهما. فبالرغمِ من تَقمُّصِ النظامِ الرأسماليِّ والطبقةِ البورجوازيةِ المؤسِّسةِ إياه وتموُّهِهما بالقناعِ الثوريِّ ضد النظامِ الإقطاعيِّ الأقلَّ عطاء، وضد ممثليه من إماراتٍ وممالك إقطاعية؛ إلا إنّ الشعوبَ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ الشعبيةَ الثوريةَ هي مَن حاربهَ في واقعِ الأمر. وعليه، فالنصرُ كان من حقهِّا هي.
لكنّ البورجوازيةَ تسللَت بين صفوفِ جميعِ الثوراتِ الشعبيةِ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ تلك. حيث استخدمَت قوتَها الاقتصادية، وصَعَّدَت ثورتَها المضادةَ من جهاتٍ عدةٍ متمثلةً في القومويةِ والدولةِ القومويةِ والأمةِ الدولتيةِ في وجهِ ثوراتِ الأمةِ الديمقراطية؛ تاركةً بذلك بصماتِها على العصرِ الذي بات منضوياً تحت هيمنتِها. وهكذا، رصفَت الأرضيةَ لصعودِ هيمنةِ المدنيةِ الجديدة، أي الحداثةِ الجديدةِ للعصرِ الرأسماليِّ على صعيدِ العالم.
أفدحُ خطأٍ ارتكبَه مؤسِّسا الاشتراكيةِ العلميةِ كارل ماركس وفريدريك أنجلز، هو دعمُهما –بدلاً من مناهضتِهما– للثوراتِ المضادةِ التي شنتها الدولةُ القوميةُ التي تكللت بالنصرِ الظافرِ في ألمانيا وإيطاليا كآخِرِ حلقةٍ لها في أواسطِ القرنِ التاسعِ عشر. وهكذا، أمسى هذا الخطأُ ثاني أكبرِ ضربةٍ قاضيةٍ لحقَت بثوراتِ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ التي أطلقَتها الشعوبُ حتى يومِنا الراهن، بعدَما سلطََّت البورجوازيةُ الضربةُ الأولى ضدها. وقد عانت جميعُ الشرائحِ الكادحةِ والشعوبِ والأممِ من الآلامِ الأليمةِ والخسائرِ الجسيمةِ حصيلةَ ذلك.
لقد كانت ثوراتُ الأمةِ الديمقراطيةِ المتناميةُ في بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا فيما بين عامَي 1919 – 1922 ثمرةً من ثمارِ الشعوبِ بالفعل. وتحالفُ الشعوبِ هو الذي كان كَللَّ تلك الثوراتِ بالنصرِ المؤزر. وكافةُ التصريحاتِ التي أدلى بها حينذاك قائدُ هذه الثوراتِ مصطفى كمال، إنما تُشيدُ بهذه الحقيقة. لقد كان الشعبان التركيُّ والكرديُّ يُشَكِّلان العنصرَين الأصليَّين المُكَوِّنَين للثورةِ الوطنية. وعلى الصعيدَين الأيديولوجيِّ والسياسيِّ أيضاً، كانت التياراتُ التركيةُ والكرديةُ واليهوديةُ )حركة الدونمة( والشركسيةُ الوطنيةُ من جهة، والتيارات القوميةُ الإسلاميةُ والشيوعيةُ من الجهةِ الأخرى ضمن تحالفٍ فيما بينها. بالتالي، فالنصرُ المُحرَزُ بهذا التحالف، كان عبارة عن ثورةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ ضد الإمبرياليةِ وأزلامِها المتواطئين معها.
حسناً، وما الذي فعلَته الزمرةُ التي بمقدورِنا تسميتُها بالبورجوازية؟ أي، مِمّن كانت تتشكلُ البورجوازيةُ الماسونيةُ المسماةُ ب »تركيا الفتاة » )التي لا علاقة لغالبيتِها الساحقةِ بالتركياتية(، والتي لمَّت شملَها تحت مسمّى «جمعية الاتحاد والترقي »، وبأيةِ مؤامراتٍ طَبعََت السلطةَ والثورةَ الوطنيةَ ببصماتِها؟
إذ إنّ جميعَ المعنيين بالعلمِ والمتنورين المُنصِفين وذوي الضميرِ الحيّ، يعلمون جيداً أنّ جمعيةَ الاتحاد والترقي تنظيمٌ تآمريٌّ وانقلابيّ. وكلُّ المعنيين بالأمرِ يعرفون بوجهٍ حسنٍ أنها تركَت بصماتِها على ثورةِ المشروطيةِ الثانيةِ أولاً بعد استحواذِها على السلطة، ثم على كافةِ أجهزةِ السلطةِ مع اندلاعِ الحربِ العالميةِ الأولى. من هنا، ينبغي المعرفة على أكملِ وجهٍ كيف تسللوا إلى صفوفِ الثورةِ الوطنيةِ الناشبةِ فيما بين 1919
– 1922 ، وإدراك حقيقةِ المؤامراتِ والاغتيالاتِ والانقلاباتِ التي دبّرَها ونفَّذَها المتعاونون مع الهيمنةِ الإنكليزيةِ بصورةٍ خاصة. فهؤلاء هم مَن حاكَ المؤامرةَ لخنقِ رئيسِ «الحزب الشيوعيّ التركيّ »TKP مصطفى صبحي مع كافةِ أعضاءِ اللجنةِ المركزيةِ المؤلفةِ من خمسةَ عشر شخصاً في مياهِ البحرِ الأسود. بيَدَ أنّ البلاشفةَ الذين كانوا يمثلونهم، كانوا أصحابَ دورٍ استراتيجيٍّ في إنجاحِ الثورةِ الوطنية. فضلاً عن أنّ أدهم الشركسي وقواتهِ التي أكَرَهوها غدرا وتآمرا على الالتجاءِ إلى الجيشِ اليونانيّ، كانت نفسُها القواتِ التي دَرأَت وسَحقَت العديدَ من تمرداتِ الثوراتِ المضادةِ المزروعةِ على دربِ الثورةِ الوطنية. كما إنّ السَّوادَ الأعظمَ ممّن قتلوهم بذريعةِ أنهم رجعيون ومتشددون، كانوا من المسلمين القوميين الذين أدوا دورا استراتيجيا في التحررِ الوطنيّ. زِدْ على ذلك أنّ محمد عاكف وسعيد النورسيّ اللذَين أُرسِلا إلى المنفى بعدَ إحرازِ النصر، كانا في خدمةِ الثورةِ الوطنيةِ إلى أنْ تكلَّلَت بالنصر. أما الكردُ العَلوَيون والسُّنةُّ الذين لبَوّا نداءَ مصطفى كمال للتحالفِ الاستراتيجيّ، بدءاً من كوجكري إلى ديرسم، ومن السليمانيةِ إلى ديار بكر، وبالرغمِ من الدورِ الاستراتيجيِّ الذي لعبوه في تتويجِ الثورةِ الوطنيةِ بالنصر؛ إلا أنّ القوى التآمريةَ تلك هي نفسُها مَن أنكَرَهم وأبادَهم عن بكرةِ أبيهم بلا هوادةٍ أو رحمة، سواء أثناء الثورةِ أو بعدَها. علاوةً على أنّ هؤلاء أيضاً هم مَن شلَّ تأثيرَ مصطفى كمال وزَجَّ به في أزمةٍ خانقةٍ غائرة، بتدبيرِ محاولةِ اغتيالِه في إزمير أولاً، ثم بإحاطتِه بهالةٍ من الألوهيةِ الميثولوجية.
ومَن هم هؤلاء؟ إننا نسمّي غالبيتهَم بالأتراكِ البيِض الذين ليسوا بأتراك، وببقايا «جمعية الاتحاد والترقي ». ليس مهما اسمُهم، بل مضمونهُم هو المهمّ. واضحٌ وضوح الشمسِ أنّ هؤلاء هم أصحابُ الثورةِ المضادةِ المُنادون بنزعةِ الدولتيةِ القومية، والذين تبَرَجَزوا بوساطةِ سلطةِ الدولةِ التي استولوا عليها، وألَحقوا من خلالِ مؤامراتهِم وانقلاباتهِم واغتيالاتهِم التي حبكوها ضرباتٍ كبيرةً بالحركاتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ المتصاعدةِ خلال سياقاتِ الحُكمِ الدستوريِّ وتشييدِ الجمهوريةِ على السواء، فانتزعوا زمامَ المبادرةِ فيها وتحكّموا بها. وهم أنفسُهم الذين لَم يترددْ حتى هتلر بالإقرارِ بأنه اقتفى أثرَهم وحذا حذوَهم. من هنا، ولَئِنْ كنا نودُّ فعلاً استيعابَ التاريخِ المعاصرِ لبلادِ الأناضول وميزوبوتاميا، أي لتركيا وكردستان؛ وإذا كنا نريدُ فهمَ ثورتِهم الوطنيةِ المتحققةِ بفضلِ التحالف، وإدراكَ كَنَهِ مجتمعِهم الوطنيِّ الديمقراطيِّ بعينٍ واقعية؛ فعلينا معرفةُ حقيقةِ الثورةِ المضادةِ التي شنّتها الدولتيةُ القومية، وماهيةِ أصحابِ هذه الثورةِ المضادةِ على أتمِّ وجه. وإلا، فلن نتمكنَ بأيِّ شكلٍ آخر من استيعابِ التاريخِ الحديثِ وتاريخِ الجمهوريةِ بمنوالٍ صحيح. ونخصُّ بالذّكرِ أننا حينها لن نستطيعَ التحصنَ بالمعرفةِ الكافيةِ والصائبةِ لتواريخِ وثقافاتِ شعوبِ الأناضولِ وميزوبوتاميا العريقةِ عراقةَ تاريخِ البشرية، والتي تتعرضُ للإنكارِ والإبادة. وفي حالِ عجزِنا عن معرفةِ ذلك وهضمِه وتبَنَيّه، فلن يكَونَ بوسعِنا إحرازُ النجاحِ في إنشاءِ وتطويرِ تحالفاتِ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ لشعوبِنا التي تتشاطرُ نفسَ الثرى.
يتعلقُ حلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ في القضيةِ الكرديةِ أولاً بالتعريفِ الصحيحِ للتاريخِ الكرديِّ والثقافةِ الكردية. وهذا ما سيجلبُ معه التعريفَ الصحيحَ للوجودِ الاجتماعيِّ الكرديِّ أيضاً. ذلك أنّ التحولَ إلى مجتمعٍ وطنيٍّ مفادُه امتلاكَ الوعيِ والروحِ اللازمَين بصددِ التاريخِ والثقافة. وإنكارُ وإبادةُ الكردِ في تاريخِ الجمهورية )ثمة ممارساتٌ مماثلةٌ في تواريخُ الدولِ القوميةِ الأخرى أيضا(ً، قد بدأ أولاً بإنكارِ التاريخِ الكرديِّ وإبادةِ وجودِه الثقافيّ. حيث قُضِيَ بادئَ ذي بدءٍ على المقوِّماتِ الثقافيةِ المعنوية، ثم على مقوماتِ الثقافةِ المادية. ولهذا السببِ بالضبط، كان شروعُ PKK بإنشاءِ نفسِه بالتحصنِ بالوعيِ التاريخيِّ والثقافيِّ بدايةً في محلِّها. فسعيُه إلى إيضاحِ وشرحِ التاريخِ والثقافةِ الكرديَّين بمقارنتِهما مع تاريخِ وثقافةِ شعوبِ العالمِ قاطبة، وإفصاحُه عن ذلك متجسداً في المانيفستو المعنونِ باسمِ «طريق الثورة الكردستانية »؛ قد لعبَ دورَ النهضةِ الثوريةِ لبعثِ الحياةِ ثانيةٍ في التاريخِ الكرديِّ والثقافةِ الكردية.
وبالمقدورِ القولُ أنّ الكردَ حققوا بدايةً راديكاليةً مع هذا المانيفستو على دربِ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيّ. أما الوجودُ الثقافيُّ الكرديُّ المُجَرَّبُ مع الحربِ المُعلَنةِ تزامناً مع حملةِ آب 1984 ، فقد أثبتَ جدارتَه في السيرورةِ والحياةِ مدعوماً بالكثيرِ من أحداثِ البطولةِ الباسلة. ذلك أنه ما كان بإمكانِ الكردِ الاستمرارُ بوجودِهم، لولا النهجُ الأيديولوجيُّ – السياسيُّ لpkk وللحربِ الشعبيةِ التي رادَها، ولولا عكسُه للتاريخِ والثقافةِ الكرديَّين بعينٍ سليمة. علماً أنّ العديدَ من المجموعاتِ والشخصياتِ تناولَت القضيةَ بطموحاتٍ مماثلةٍ حينئذ، ولكنها لَم تستطعْ إنقاذَ نفسِها قاطبةً من التعرضِ للتصفيةِ والزوال، نتيجةً لعدمِ تَبَنّيها للتاريخِ والثقافةِ الكرديَّين بمنظورٍ قويمٍ وصائب. إنشاءُ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ مختلفٌ نوعاً عن إنشاءِ الأمةِ التي يُرادُ تطويرُها بمواقفَ قومويةٍ ودولتية. وكيفما أنه مغايرٌ لقومويةِ الدولةِ القوميةِ الحاكمة، فإنه يختلفُ أيضاً عن المواقفِ القومويةِ والدولتيةِ الكردية؛ مُظهِراً مقابل ذلك إلى الوسطِ إنشاءَ الأمةِ الديمقراطيةِ كبديلٍ يرتكزُ إلى تواريخِ وثقافاتِ الشعوبِ والكادحين.
يتبنى KCK ضمن عمليةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ الدورَ الذي أداه الكردُ كعنصرٍ أصليٍّ مشارِكٍ في الثورةِ الوطنيةِ خلال الفترةِ ما بين 1919 – 1922 ، والذي جرى إنكارُه على مدى تاريخِ الجمهورية. فهو يَعتَبِرُ هذه الثورةَ الوطنيةَ ثورةً وطنيةً بالنسبةِ للكردِ ولبقيةِ الحلفاءِ المشاركين فيها، بقدرِ ما هي كذلك بالنسبةِ للأتراك. كما إنه ينظرُ إلى إقصاءِ الحلفاءِ وإنكارِ تواريخِهم وثقافاتهِم في الفتراتِ اللاحقةِ على أنه انقلابٌ على الطابعِ الشعبيِّ للثورة. وعليه، فهو يَعتَبِرُ مقاومةَ الكردِ ضد ذاك الانقلابِ شرعيةً وتقدميةً وتحررية. فضلاً عن إفصاحِه علناً بأنّ التحالفَ الكرديَّ – التركيَّ الاستراتيجيَّ المبتدئَ مع معركةِ ملازكرد ) 1071 ( يستندُ إلى مبدأ الطواعية، وأنّ الكردَ والأتراكَ ظلوا شركاء أساسيين ضمن تشكيلاتِ السلطةِ والدولةِ منذ ذلك التاريخِ بالرغمِ من تعرضِهم لفتراتِ انقطاعٍ مختلفة، وأنه ثمة شراكةٌ منيعةٌ وتداخلٌ حصينٌ بين تاريخِ وثقافةِ كِلا الشعبَين تأسيساً على ذلك. هذا ويَقبلُ بكونِ الأتراكِ والكردِ لعبوا دوراً استراتيجياً مشتركاً طيلةَ الأعوامِ الألفِ الأخيرةِ من تاريخِ منطقةِ الشرقِ الأوسط. وعليه، فقد ازدادَت مواقفُ PKK و KCK الأيديولوجيةُ والسياسيةُ وضوحاً وشفافية، وتعزَّزَت آراؤُهما التي ازدادَت انفراجا في آفاقِها مع هذه المرافعةِ فيما يتعلقُ بالتاريخِ الكرديِّ والثقافةِ الكردية.
فهي منفتحةٌ على الاتحاداتِ والتحالفاتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ الأوسع نطاقاً، انطلاقاً من منظورِ الأمةِ الديمقراطيةِ المنفتحِ على الشعوبِ الأخرى. علاوةً على أنها تعَتبَرُِ استحداثَ وإعادةَ إنشاءِ الاتحاداتِ والتشكيلاتِ الكونيةِ المُعاشةِ ضمن الثقافةِ الشرقِ أوسطيةِ على مدى سياقِ التاريخ )الأمةُ الإسلاميةُ خيرُ وأفصحُ مثالٍ على ذلك(، سبيلاً إلى الخلاصِ والحريةِ والتحررِ الحقيقيِّ لشعوبِ الشرقِ الأوسطِ جمعاء.
إنّ الأمةَ الديمقراطيةَ الكردية، التي ستكتسبُ مزيداً من الماهيةِ البنيويةِ تدريجياً خلال سياقِ KCK ، ستُقدمُ بكلِّ أبعادِها تجربةَ إعادةِ الإنشاءِ الوطنيّ، التي ستغدو نموذجاً تقتدي به شعوبُ الشرقِ الأوسط. ومقابل نزعةِ إنكارِ التاريخِ والثقافة، التي تتبناها الدولُ القوميةُ العاجزةُ عن تخطي دورِ العمالةِ والتواطؤِ مع الحداثةِ الغربية؛ فإنها ستبتدئُ عصراً جديداً، أي ستطلقُ العنانَ لصعودِ وسموِّ عصرِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ تزامناً مع نهضةِ الأمةِ الثوريةِ والديمقراطية.
– نظام الدفاع الذاتي في الأمة الديمقراطية: لكلِّ نوعٍ في عالَمِ الكائنات الحيةِ نظامٌ دفاعيٌّ خاصٌّ به. وما من كائنٍ حيٍّ واحدٍ فقط يخلو من آليةِ الدفاع. بل وبالمقدورِ اعتبارُ المناعة، التي يُبديها كلُّ عنصرٍ أو جُسَيمٍ في الكونِ للحفاظِ على وجودِه، دفاعاً ذاتياً. إذ من الساطعِ جلياً أنّ المناعةَ التي يبُديها إزاء أيِّ عطلٍ أو خروجٍ من الكينونة، لا يمُكنُ إيضاحُها إلا بمصطلحِ الدفاعِ الذاتيّ. وفي حالِ فقدانِ تلك المناعة، فإنّ ذاك العنصرَ أو الجُسَيمَ يفسد، ويخرجُ من كينونتِه، ويتحولُ إلى عنصرٍ آخر مغاير. أما في عالَم الكائناتِ الحية، فبمجردِ تحطمِ جدارِ حصنِ الدفاعِ الذاتيّ، فإنّ ذاك الكائنَ الحيَّ يصبحُ فريسةً سهلةً لكائناتٍ أخرى، أو يموت.
هذا ويَسري النظامُ عينُه على النوعِ البشريِّ والمجتمعِ البشريِّ زيادةً عن اللزوم. إذ لا يستطيعُ نوعٌ لطيفٌ كالإنسانِ وكيانٌ منفتحٌ على المخاطرِ كمجتمعِه الحفاظُ على وجودِهما مدةً طويلةً من الزمن، في حالِ غيابِ الدفاعِ الذاتيِّ المنيع. والدفاعُ لدى النوعِ البشريِّ اجتماعيٌّ بقدرِ ما هو بيولوجيّ.
يعملُ الدفاعُ البيولوجيُّ من طرفِ غرائزِ الحمايةِ والدفاعِ الموجودةِ في كلِّ كائنٍ حيّ. أما في الدفاعِ الاجتماعيّ، فجميعُ أفرادِ الجماعةِ يلوذون عن نفسِهم بشكلٍ مشترك. بل ويطرأُ التغيرُ باستمرارٍ على تعدادِ المجموعةِ وشكلِ تنظيمِها، وفق ما توفرُه فرصُ الدفاعِ عن الذات. وعليه، فالدفاعُ وظيفةٌ أصيلةٌ في المجموعة. ومحالٌ الاستمرارُ بالحياةِ من دونِه. وكما هو معلوم، فالوظيفتان الأصليتان الأُخريتَان في عالمَ الأحياء، هما تأمينُ المأكلِ والتوالد. وكيفما يستحيلُ على الكائناتِ الحيةُ مواصلةُ حيواتِها من دونِ مأكلٍ أو توالد، فمحالٌ عليها الاستمرارُ بالحياةِ في حالِ غيابِ الدفاعِ الذاتيِّ أيضاً.
النتيجةُ الهامةُ الأخرى التي بإمكانِنا استخلاصُها من موضوعِ الدفاعِ الذاتيِ لعالمَ الأحياء، هو أنّ هذا الدفاعَ يهدفُ – فقط وفقط – إلى حمايةِ الوجود. وهو يخلو من نظامِ الاستعمارِ وبسطِ النفوذِ على أبناءِ الجنسِ الواحدِ أو الأنواعِ الأخرى من الكائنات. ولأولِ مرةٍ طُوِّرَت أنظمةُ الاستعمارِ والحاكميةِ عند الجنسِ البشريّ. وما يلعبُ دورُه في ذلك هو النماءُ الذهنيُّ لدى النوعِ البشريّ، والاستحواذُ على فائضِ الإنتاجِ ارتباطا بذلك؛ مما يفضي إلى توفيرِ فرصِ الاستغلال. وهذا ما يؤدي إلى ضرورةِ حمايةِ قِيمَ الكدحِ إلى جانبِ اللوذِ عن الوجود. أي أنه يؤولُ إلى إشعالِ فتيلِ الحروبِ الاجتماعية.
لَطالما تحلى الدفاعُ الذاتيُّ بأهميةٍ عظيمةٍ بالنسبةِ للكردِ على مرِّ التاريخ، نظراً إلى الظروفِ الملموسةِ التي مروا بها. حيث تعرضوا للهجماتِ المتواصلة، كونهم الوارثين الأوائل للمجموعاتِ التي شهدَت الثورةَ النيوليتيةَ بأعمقِ حالاتِها وأطولهِا أجَلاً. ففوائضُ الإنتاجِ الناجمةُ عن الثورةِ الزراعيةِ المندلعةِ في الهلالِ الخصيب، كانت تفتحُ شهيةَ المُغيرين وتستجلبهُم على الدوام. وقد مرّت آلافُ الأعوامِ بهذا المنوال.
حيث، وكلما تطورَت نُظُمِ المدنيةِ المرتكزةُ إلى فوائضِ الإنتاج، بدأَ بالظهورِ عهدُ الهجومِ الممنهجِ والمدروسِ والمخططِ من قِبَلِ القوى المعتمدةِ على بُنى المدينةِ والطبقةِ والدولة. وهكذا، لَم تَغِبْ أبداً الهجماتُ المباشرةُ والملتويةُ لعددٍ لا حصرَ له من قوى المدنية، والتي استهدفَت المنطقةَ والأراضي نفسَها، بدءا من المدنيةِ السومريةِ ووصولاً إلى أمريكا بصفتِها آخرَ قوةٍ مهيمنةٍ في المدنيةِ السائدةِ في يومِنا الحاليّ.
اكتَسَبَت هجماتُ القرنَين الأخيرَين المتصاعدةُ بِمَعِيّةِ الحداثةِ الرأسماليةِ طابعاً مختلفاً. حيث إنّ أنظمةَ حمايةِ الوجودِ وآلياتِ الدفاعِ الذاتيّ، التي طوَّروها على شكلِ وحداتٍ عشائريةِ وقبائليةٍ اعتماداً على المناطقِ الجبليةِ التي قطنوها منذ العصورِ الأولى؛ لَم تَفِ بالغرضِ مقابلَ وسائلِ الهجومِ المعتمدةِ على النظامِ الرأسماليّ. ولأولِ مرةٍ دخلَ في الأجندةِ خطرُ خُسرانِهم لوجودِهم. ذلك إنّ بنيةَ الدولةِ القوميةِ في الحداثةِ الرأسمالية، لَم تسفرْ عن فقدانِ الكردِ لحرياتِهم وحسب، بل وآلتَ إلى مواجهتهِم مخاطرَ فقدانهِم وجودَهم أيضا.ً فبرنامجُ وممارسةُ خلقِ «لغةٍ واحدة » و »أمةٍ واحدة » و »وطنٍ واحد » ضمن نفسِ الحدودِ السياسية، قد أفرزَ معه بقاءَ اللغاتِ والأممِ والأوطانِ الأخرى المنضويةِ تحت لواءِ تلك الحدودِ وجها لوجهٍ أمام مخاطرِ الإنكارِ والإبادة. لقد أخُضِعَ الكردُ لسياقِ الإبادةِ والإنكارِ على يدِ الدولِ القوميةِ ضمن كافةِ أجزاءِ الوطنِ التي عانوا الانقسامَ عنوةً ضمنها. والدولُ القوميةُ المدعومةُ من قِبَلِ القوى المهيمنة، قد جعلَت تصفيةَ الكردِ وكردستان سياسةً أساسيةً لديها. وعندما انكسرَت شوكةُ المقاومةِ حصيلةَ نقصانِ الدفاعِ الذاتيّ، أتى الدورُ حينها على هدمِ المجتمعِ وتقويضِه وصهرِه بغيةَ تصفيتِه وحسمِ أمرِه.
وحركةُ PKK ، التي وُلِدَت كَرَدّةِ فعلٍ على هذا السياقِ المُمارَسِ بكلِّ شدتهِ وعنفوانهِ، هي أساسا من حيث البدايةِ حركةُ دفاعٍ ذاتيٍّ عن الشعبِ الكرديّ. فحركةُ الدفاعِ الذاتيِّ التي كانت تُمارَسُ بدايةً على الصعيدَين الأيديولوجيِّ والسياسيّ، قد انتقلَت في غضونِ فترةٍ وجيزةٍ إلى طورِ دفاعٍ ذاتيٍّ يعتمدُ على العنفِ المتبادل. بمعنى آخر، فالكفاحُ المسلَّحُ المرتكزُ إلى حمايةِ وجودِ الكوادرِ والمؤيدين فحسب بادئَ ذي بدء، قد اتسعَ نطاقُه محتضناً الشعبَ أيضاً بين ثناياه مع حملةِ 15 آب 1984 . وعليه، فالحركةُ المتحولةُ إلى حربِ الدفاعِ الذاتيِّ عن الشعب، قد تعرضَت للهجماتِ المدروسةِ التي خططَت لها كافةُ القوى المهيمنةُ المعنية، وبالأخصِّ قوى الغلاديو التابعةِ لحلفِ الناتو. وقد لقيَت تلك الهجماتُ مساندةَ جميعِ القوى المرتابةِ والمتخوفةِ من قيامِ الكردِ بقلبِ موازينِ المنطقةِ رأساً على عقبٍ بعدَ أنْ يتمكنوا من تقريرِ مصيرِهم بأنفسِهم في كردستان.
ومع ذلك، فقد أَلحَقَت حروبُ المقاومةِ تلك ضرباتٍ قاضيةً بسياساتِ الإنكارِ والإبادةِ والصهرِ المفروضة، وحسمَت موقفَها لصالحِ تَبَنّي هويةِ الشعبِ والعضِّ بالنواجذِ على الرغبةِ في الحياةِ الحرة. وعلى الرغمِ من عدمِ وضعِ حدٍّ نهائيٍّ وحاسمٍ للدولِ القوميةِ التي عَوَّلَت على آمالِها التصفويةِ القديمةِ بحقِّ الشعبِ الكرديّ، إلا إنها لَم تَعُدْ تتحلى بعزيمتِها القديمة. إذ تمّ بلوغُ مستوى الاعترافِ بالهويةِ واحترامِ الحياةِ شبهِ المستقلة، مما يشكِّلُ وضعاً جديداً من جهةِ حربِ الدفاعِ الذاتيّ. وقد عملَ PKK على الاستفادةِ من هذا الوضعِ وتقييمِه من خلالِ .KCK
يُشَكِّلُ موضوعُ كيفيةِ ضبطِ الدفاعِ الذاتيِّ بمنهاجٍ دائميٍّ راسخ، البندَ الهامَّ الآخر الذي لا استغناء عنه ضمن برنامجِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ في KCK . فسياساتُ الإنكارِ والإبادةِ والإذابةِ الجديدة، التي لن تتقاعسَ الدولُ القوميةُ عن مزاولتهِا كلما سنحَت لها الفرصةُ بوصفِها احتكارَ القوةِ المسلحةِ الوحيد، قد أرَغَمَت نظامَ الدفاعِ الذاتيِّ في KCK على الاتسامِ بالثباتِ الوطيد. والشرطُ الأدنى منزلةً للعيشِ المشتركِ مع الدولِ القومية، هو تضمينُ الهويةِ الذاتيةِ الكرديةِ وحياتِها الحرةِ بدستور. هذا ولن يكفيَ الضمانُ الدستوريُّ لوحدِه، بل وسيجري البحثُ فضلاً عن ذلك في الظروفِ العينيةِ لذاك الضمانِ من خلالِ ضوابط تحدِّدُها القوانين. وفيما عدا الأمنِ القوميِّ المشتركِ إزاء الخارج، يتعينُ أنْ يَقومَ المجتمعُ الكرديُّ بذاتِ نفسِه على تدبيرِ الشؤونِ الأمنية. حيث إنّ تأمينَ الأمنِ الداخليِّ بأفضلِ صورة، وتلبيةَ متطلباتِه بأنسبِ الأشكالِ غيرُ ممكن؛ إلا في حالِ قامَ المجتمعُ به بذاتِ نفسِه. بناءً عليه، من الضرورةِ بمكان أنْ تقومَ الدولُ القوميةُ المعنية )الدول القوميةُ المركزيةُ التركيةُ والإيرانيةُ والعراقيةُ والسورية( بالإصلاحاتِ الهامةِ في سياساتهِا الأمنيةِ الداخلية. وفي حالِ استتبابِ السلمِ وإرساءِ دعائمِ الحلِّ الديمقراطيّ، يتعينُ على KCK أيضا حينئذ إعادةُ ترتيبِ وفرزِ قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ لديه، أي «قواتِ الدفاعِ الشعبيِّ »HPG . وما لا جدال فيه هو أنّ إعادةَ الفرزِ يقتضي قوانيناً جديدة. كما ومن الجليِّ جلاء النهارِ استحالةُ الحديثِ هنا عن نظامٍ من قبيلِ الألويةِ الحميديةِ القديمةِ أو «حُماة القرى » الجديد. ولكن، بالوسعِ القيامُ بترتيباتٍ وعملياتِ فرزٍ جديدةٍ للقوى، فيما يخصُّ الأمنَ الداخليَّ القانونيَّ والرسميّ، والذي يعتمدُ على الوفاقِ مع الدولِ القومية.
وفي حالِ عدمِ تحقُّقِ الوفاقِ مع الدولِ القوميةِ المعنية، فإنّ KCK سيجهدُ لترتيبِ وضعِ قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ لديه كَمّاً ونوعاً بما يغطي الاحتياجاتِ الجديدة، وذلك تأسيساً على حمايةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ بكلِّ أبعادِها، وبمنوالٍ أحاديِّ الجانب. وهكذا، فقواتُ HPG المُعادُ ترتيبُها وفرزُها، ستُكَلَّفُ بحمايةِ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ في جميعِ الساحاتِ والمجالاتِ وبكافةِ الأبعاد، وستؤسِّسُ أرضيةَ السيادةِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ بجدارة. كما وستكَُونُ مسؤولةً عن أمنِ الإنسانِ والمُلكِ للمواطنِ الفردِ في الأمةِ الديمقراطية. وسوف تظلُّ في حالةِ صراعٍ دؤوبٍ ودائمٍ حيال جميعِ ممارساتِ الدولةِ القومية )تجاه حروبِها العسكريةِ والسياسيةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ والنفسية(، والتي تبلغُ حدَّ الإباداتِ الثقافية. من هنا، فوجودُ وحريةُ كردستان والكرد، مستحيلان من دونِ دفاعٍ ذاتيّ.
– دبلوماسية الأمة الديمقراطية: يُعَدُّ النشاطُ الدبلوماسيُّ بين الدولِ القوميةِ واحدا من أكثرِ الأنشطةِ التي طوَّرَتها الدولةُ القومية. وتُعَرِّفُه على أنه شكلُ النشاطِ الذي يسبقُ اندلاعَ الحروبِ بين الدول. كما وبالمقدورِ اعتبارُه تَوطئةً للحروبِ الناشبةِ في تاريخِ الدولِ القومية. ثمة شعائرٌ محدودةٌ لأشكالِ التعبيرِ التقليديِّ عن علاقاتِ الجوارِ القائمةِ بين وحداتِ المجموعاتِ على اختلافِها طيلةَ سياقِ التاريخ. وهي طقوسٌ محفوفةٌ بالقيمةِ العليا. أما لجوءُ الدولِ القوميةِ إلى مَأسسةِ تلك العلاقة، فيُعزى إلى نزعةِ الربحِ في الحداثةِ الرأسمالية. فإذا كانت تلك العلاقاتُ تدرُّ مزيدا من الربحِ في وقتِ السلم، فلا داعي إذا لإشعالِ فتيلِ الحرب.
وتعُقَدُ العلاقاتُ المُربحةُ دبلوماسيا.ً أما إذا كانت ميولُ الربحِ الأعظميِّ متعلقةٌ بالحرب، فلن تستطيعَ كلُّ القوى الدبلوماسيةِ أنْ تقفَ في وجهِ الحربِ المُربحة، حتى لو تعاضدَت جميعاً في سبيلِ ذلك. وعليه، فعملُ الدبلوماسيةُ قد انتهى هنا. وهكذا، فالدبلوماسيةُ المُختَزَلةُ إلى منطقِ الربح، لَم يَعُدْ لها أيةُ صلةٍ مع نمطِ العلاقةِ القَيِّمةِ والثمينةِ فيما بين المجتمعات، والتي طالما رُصِدَت على مدارِ التاريخ. أي أنّ الدبلوماسيةَ قد صُيرِّت أداةَ تلاعبٍ ومضاربةٍ في ألاعيبِ الحربِ المُربحةِ فيما بين الدولِ القومية. لقد باتت أداةً لتهيئةِ أجواءِ الحروب، وليس لاستتبابِ السلم.
تعُنى الدبلوماسيةُ الصائرةُ مرةً أخرى أداةً لإرساءِ السلمِ والتعاضدِ والتبادلِ الخلاّقِ فيما بين المجتمعاتِ في كنفِ تقاليدِ الأمةِ الديمقراطية، بحلِّ القضايا العالقةِ أساساً. إنّ دبلوماسيةَ الأمةِ الديمقراطيةِ وسيلةٌ لتكريسِ السلمِ والعلاقاتِ المفيدة، لا لإشعالِ فتيلِ الحروب. وهي تُعَبِّرُ عن وظيفةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ نبيلةٍ وثمينةٍ يؤديها الناسُ الحكماء. كما إنها تؤدي دوراً هاماً في تطويرِ وتأمينِ سيرورةِ المراحلِ التي تدرُّ بالنفعِ المتبادلِ وتُعَزِّزُ علاقاتِ الصداقةِ فيما بين الشعوبِ المتجاورةِ ومجموعاتِ الأقاربِ على وجهِ الخصوص. كما تعُتبَرَ قوةَ إنشاءِ المجتمعياتِ المشتركةِ والتركيباتِ الجديدةِ لمجتمعاتٍ أرقى.
لَطالما تواجدَ عددٌ جمٌّ من سياقاتِ العلاقاتِ الدبلوماسيةِ في التاريخِ الكرديّ، سلبيةً كانت أم إيجابية. فشدةُ الانقسامِ ومنعُ التواصلِ بين المجموعات، قد أدى إلى إيلاءِ أهميةٍ عليا لفعالياتِ الوساطة، مما تمخضَ ذلك عن إسهاماتٍ قَيِّمةٍ في الحياةِ الاجتماعيةِ عندما أُدِّيَت بجدارة. أما عندما نُفِّذَت بنوايا ضامرة، أو باندفاعٍ مشحونٍ بمختلفِ المصالحِ الشخصيةِ أو التكتلية؛ فقد دخلتَ في خدمةِ إضرامِ نارِ العداوةِ وتأجيجِ أجواءِ الاشتباك.
يشعرُ الكردُ في حاضرِنا بمسيسِ الحاجةِ إلى دبلوماسيةٍ نفيسة، سواء بينهم وبين جيرانِهم، أم على الصعيدِ العالميّ. حيث للفعالياتِ الدبلوماسيةِ دورٌ عظيمُ الأهميةِ والإيجابيةِ للحفاظِ على وجودِهم ونيلِ حريتِهم. ولَربما كان الكردُ أكثرَ شعبٍ ذهبَ ضحيةً للألاعيبِ الدبلوماسيةِ عالمياً خلال الماضي القريب، أي في عهدِ الحداثةِ الرأسمالية. حيث لعبَ الكردُ دورَ الضحيةِ المُقَدَّمةِ فداءً لتجزيءِ الشرقِ الأوسطِ وإخضاعِه لهيمنةِ النظامِ الرأسماليِّ على مرِّ القرنَين التاسع عشر والعشرين. ونخصُّ بالذِّكرِ أنهم كانوا أكثرَ القرابين مأساويةً خلال الحربيَن العالميتيَن الأولى والثانية. هذا ولطَالما أنُيطوا بدورِ الورقةِ الرابحةِ ضمن سياقِ دبلوماسياتِ الدولِ القوميةِ في الشرقِ الأوسط، مما نَمَّ عن نتائجَ جدِّ وخيمة. فقد واجَهَ الكردُ مشاهد أليمةٍ وصلَت درجةَ التطهيرِ الثقافيّ. وبقدرِ ما للمتواطئين الكردِ من دورٍ في ذلك، فإنّ افتقارَ المقاوماتِ الكرديةِ للأساليبِ العصريةِ أيضاً كان له نصيبُه الوافرُ فيه. وإذا وُضِعَ في الحُسبانِ مدى تدني فرصةِ بناءِ دولةٍ قوميةٍ كردية، سواء طبقيا أم من حيث الأجواءِ والظروفِ السائدة؛ فسيُلاحَظُ أنّ حظَّ الحلِّ قَلَّما يحالفُ مثل هذه الدبلوماسياتِ المنصبةِ في بوتقةِ هذا المرمى. ومعلومٌ أنه لَم تُجْنَ ثمارٌ ناجعةٌ من الأنشطةِ المُزاوَلةِ لهذا الغرضِ خلال القرنيَن الأخيرَين.
فطبيعةُ القضيةِ الكرديةِ لا تساعدُ على إنجاحِ مثلِ تلك الأنشطة. ذلك إنّ دبلوماسيةَ الدولةِ القوميةِ فيما يتعلقُ بالكردِ ليست حَلاّلة، بل كانت شاهدةً على العديدِ من الأدوارِ السلبيةِ التي أسفرَت عن الانسدادِ وتصعيدِ الاشتباكاتِ والنزاعاتِ بين مختلفِ أجزاءِ كردستان، وتثيرُ حفيظةَ الدولِ القوميةِ المعادية. ولهذا السببِ بالتحديد، ثمة حاجةٌ ماسةٌ لدبلوماسيةٍ جديدة. أي، لدبلوماسيةِ الأمةِ الديمقراطية.
يتعينُ على دبلوماسيةِ الأمةِ الديمقراطيةِ أولاً تشكيلُ محفلٍ مشتركٍ بين الكردِ المشتَّتين والمُنقسمين فيما بينهم على اختلافِ مصالحِهم. وعلى هذا المحفل، الذي يشعرُ الكردُّ بأشدِّ وأَمَسِّ الحاجةِ إليه، أنْ يتموقعَ في مركزِ الفعالياتِ الدبلوماسية. ومثلما لوحِظَ حتى الآن، فكافةُ الأنشطةِ الدبلوماسيةِ الأخرى، وبالأخصِّ تلك التي تطَلَّعَ كلُّ تنظيمٍ إلى ممارستِها بمفردِه وفق ما يتماشى ومصالحَه، قد جلبَت الضررَ أكثر من الفائدة، وأفضَت إلى معاناةِ الكردِ من الاشتباكاتِ والانقسامِ والتجزؤِ بدرجةٍ أكبر. بناءً عليه، فتطويرُ دبلوماسيةٍ متكاملةٍ ومتحدةٍ بين الكرد، يعُدُّ إحدى الوظائفِ الوطنيةِ الأولية. وعليه، فتشكيلُ وتفعيلُ «المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيّ » هو المَهَمّةُ الأكثر حياتيةً في سياقِ الدبلوماسيةِ الكردية، ويجبُ أنْ يَكُونَ الهدفَ الرئيسيَّ لجميعِ التنظيماتِ والشخصياتِ الكردية. ومن جانبٍ آخر، ينبغي صياغةُ دبلوماسيةٍ كرديةٍ متمأسسةٍ لها سياسةٌ واحدة موحَّدة، وناطقٌ واحدٌ باسمِها، بحيث تستندُ بدورِها إلى تكوينِ «المؤتمر الوطنيِّ الديمقراطيِّ » لحظةً قبل أخرى.
ولا يحقُّ لأيِّ تنظيمٍ أنْ يُمهِلَ أو يُهمِلَ هذه المهامِّ المصيرية، أيا كانت الذريعة. ومَن يفعلُ ذلك دوما،ً يكَُونُ حينها لاهثا وراء مصالح شخصيةٍ وحزبيةٍ مختلفة. ومن المعروف، أو يجبُ الاطلاعُ جيدا على مدى الأضرارِ والكوارثِ الجسيمةِ التي يتسببُ بها مثلُ هذا النمطِ من العقلياتِ والشخصياتِ ضمن السياقِ التاريخيّ. من طرفٍ آخر، وإلى جانبِ أهميةِ الدبلوماسيةِ المزاوَلةِ على خلفيةِ الدولةِ الفيدراليةِ الكردية، إلا إنها قاصرةٌ عن تغطيةِ احتياجاتِ الكردِ كافة. فلا هي تمتلكُ الكفاءةَ التي تُخَوِّلُها لتلبيتِها، ولا الظروفُ القائمةُ تساعدُها على ذلك. بالتالي، فالدبلوماسيةُ التي ستُشَكِّلُ جواباً لتأمينِ كافةِ جميعِ الكردِ غيرُ ممكنة، إلا اعتماداً على «المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيّ ». انطلاقاً من ذلك، فالمهمةُ الأولى تتجسدُ في ذا جتماعِ «المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيّ »، والإعلانِ عنه تنظيماً ديمقراطياً وطنياً مُوَحِّداً شاملاً ودائمياً. يمكنُ ترتيبُ الوظائفِ الأساسيةِ لهذا «المؤتمر الوطنيِّ الديمقراطيِّ » المفترَضِ على الشكلِ التالي:
a ( يجب أنْ يَكُونَ «المؤتمرُ الوطنيُّ الديمقراطيُّ » تنظيماً دائمياً. وأنْ تَجِدَ كلُّ الشخصياتِ والتنظيماتِ تمثيلَها فيه بِجمعٍ وشَملٍ مناسبٍ يحتضنُ كافةَ الطبقاتِ والشرائحِ الوطنيةِ والديمقراطية. وينبغي هنا عدم إغفالِ التعدادِ السكانيِّ ودورِ أجزاءِ الوطنِ ومدى قوةِ العزيمةِ والثباتِ عن العين.
b ( على المؤتمرِ انتخابُ جهازٍ إداريّ، أي هيئةٍ تنفيذيةٍ دائمةٍ تَكُونُ مسؤولةً عن تسييرِ علاقاتِ السياسةِ الميدانيةِ لجميعِ الكردِ والإشرافِ عليها. كما وينبغي تسييرُ الأنشطةِ الدبلوماسيةِ الداخليةِ والخارجية، وكذلك عقدِ العلاقاتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ مؤسساتياً من قِبَلِ هذه الهيئة.
c ( على جميعِ التنظيماتِ توحيدُ صفوفِ قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ لديها تحت لواءِ تنظيمٍ مشتركٍ من المقاتلين. ويجبُ تشكيلُ «رئاسة قوات الدفاع الشعبيّ المشتركة ». وعلى كلِّ تنظيمٍ التمتعُ بمبادرةٍ محدودةٍ على قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ بما يتناسبُ وقوتَه.
d ( على «مكتبِ أو لجنة العلاقاتِ الخارجيةِ » التابعةِ للهيئةِ التنفيذيةِ أنْ تَكُونَ مسؤولةً بمفردِها عن عقدِ العلاقاتِ مع قوى المجتمعِ المدنيِّ وكافةِ الدولِ القوميةِ تتصدرُها الدولُ القوميةُ التي ينضوي الكردُ تحت لوائِها.
ينبغي ترتيبُ علاقةِ كلٍّ من KCK و »الإدارةِ الكرديةِ الإقليميةِ في العراق » مع «المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ » في ظلِّ أجواءٍ مناسبة. حيث بإمكانِ كِلا الجهازَين العملُ بالتنسيقِ والارتباطِ مع «الهيئةِ التنفيذيةِ للمؤتمرِ » بصورةٍ معينة. والعملُ بالاشتراكِ مع كِلا الجهازَين يُعَدُّ مشكلةً هامةً تقتضي التوقفَ عندها بإمعانٍ والبتَّ فيها. إذ من الساطعِ جلياً أنّ العلاقاتِ والتناقضاتِ ستأخذُ وقتاً طويلاً ضمن إطارِ الفوارقِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ الكامنةِ بين إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ في KCK من جهة، وبين نزعةِ إنشاءِ الدولتيةِ القوميةِ ل »الإدارةِ الفيدراليةِ الكرديةِ في العراقِ » من جهةٍ ثانية.
وبمقدورِ «المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ » أنْ يَكُونَ تنظيماً جامعا وحَلاّلاً في هذا المضمار. هذا وبوسعِ دبلوماسيةِ الأمةِ الديمقراطيةِ أنْ تؤديَ دورا حَلاّلاً وثابتا ووطيدا على أرضيةِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ فيما بين شعوبِ الشرقِ الأوسطِ وأممِه، التي زجَّتها دبلوماسيةُ الدولةِ القوميةِ في فوضى عارمة، وأقحمَتها في اشتباكاتٍ طاحنة.[1]