الجانب الآخر من الدفاع الذاتي
حسين شاويش
يتركز مصطلح الدفاع حول العمل المسلح المشروع بهدف الحماية من الهجمات الآتية من القوى المهيمنة والغازية، وغالبية الدراسات والتحليلات المتعلقة بهذا الموضوع تركزت على تنظيم الجيوش وقوى الدفاع المسلحة لصد الهجمات. لاشك بأن هذا الجانب له أهمية قصوى وضرورة لابد منها خصوصاً في هذه المرحلة وفي ظل الهجمات الدموية التي تقوم بها العصابات الفاشية تحت مسميات متعددة في الشرق الأوسط بشكل عام وكردستان بشكل خاص. ولكن هناك جانب آخر لهذه العملية المسماة بالدفاع أو الدفاع المشروع الذاتي وهذا الجانب له أهمية تاريخية ومرتبط بالوجود الاجتماعي من ناحية الهوية الثقافية والأخلاق والفكر ولم يتم التركيز عليه كثيراً حتى الآن. هذا الجانب من الدفاع الذاتي يكمل الجانب المسلح ويغذيه ويكسبه الاستمرارية و يكاد يكون الأساس والجوهر والإرادة في عملية الدفاع المشروع. هذا النوع من الحماية يمكن تسميته بالحماية الفكرية والثقافية والمعنوية والأخلاقية وبالتالي الطبيعية للمجتمع، لأن المجتمع الذي لا يتمكن من حماية نفسه من هذه النواحي ليس بمقدوره أن يصمد كثيراً في مواجهة الهجمات الدموية والتصفية الجسدية، بينما إذا ترافقت عملية الدفاع الذاتي المسلح بنضال ذهني- ثقافي ومعنوي فإن المجتمع بمقدوره أن يصمد حتى النهاية عبر مرحلة طويلة.
*الحماية الفكرية والثقافية للمجتمع:
القمع والاستبداد والإرهاب عمل فكري وذهني قبل أن يكون عسكرياً أو سياسياً. الهجمات الدموية والإبادة تبدأ من الذهن قبل ترجمتها عملياً وممارساتياً. الذين يسعون إلى إبادة الشعوب جسدياً أو ثقافياً يخططون ويهيئون الأجواء الفكرية المناسبة لذلك. كل الوثائق التاريخية تشير إلى أن حكومة الاتحاد والترقي العنصرية مهدت لمذابح الأرمن والمسيحيين بشكل عام منذ سنوات 1880 وذلك عبر الفتاوى الدينية للطرق المتعاملة مع » تشكيلاتي مخصوصانة » وكالة الاستخبارات العثمانية والتي حاولت توجيه العواطف الدينية ضد الأرمن والمسيحيين وإباحة المذابح ونشر الكراهية والحقد الديني والقومي بين الشعوب والثقافات والمذاهب والأديان. حاولت النقشبندية وبعدها النورجية )فتح الله غولن( نشر الأفكار التي ترفع من شأن القومية التركية تحت غطاء الأمة العثمانية وتصوير المذهب السني الإسلامي بأنه الأسمى حقيقة ومرتبة، كما أضفوا صفة الشرعية على تهمة الكافر- كاور على كل من لا ينتمي إلى هذا الإطار السني والتركي )الإسلاموية القوموية التركية(.
إذا الهجوم والمذابح والإبادة بدأت بالفكر والذهنية، كما أن تصوير الأناضول على أنه وطن قومي تركي من الناحية التاريخية والاجتماعية رافقته حركة تنظيرية عثمانية وكمالية بهدف تحريف حقيقة الأناضول والميزوبوتاميا من الناحية التاريخية والاجتماعية والمعنوية. حيث تم تدريس التاريخ والجغرافية واللغة حسب نظرية «لغة الشمس » الطورانية والتي تعتبر كل اللغات والثقافات منبثقة من آسيا الوسطى كمركز للحضارة، حتى أنها حاولت خلق نظرية غريبة عجيبة مفادها أن السومريين أيضاً أتراك وأن النبي محمد أيضاً ينتمي إلى قبيلة قريش كوريش التركية حسب أصحاب هذه النظرية العنصرية والشوفينية. أما بالنسبة إلى الإسلاموية العروبية البعثية فإن نظرية البعث العفلقية التي تنسجم مع النظرية الطورانية التركية من الناحية الذهنية والفكرية حاولت خلق فكرة أن كل من يعيش في إطار الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج عربي ومسلم، حتى وإن لم يكن عربياً ومسلماً فهو مجبر ومضطر لقبول هذا الانتماء. لأن نظرية من المحيط إلى الخليج أساسها العروبة والإسلام حسب عفلق! بمعنى آخر؛ اختصار تاريخ وثقافة هذه الجغرافية الواسعة في الإسلام والعروبة التي لا يتجاوز تاريخها ألف وأربعمائة سنة. وهكذا فإن اختصار التاريخ وتحريفه وإنكار الحقائق هي أهم الميزات الفكرية والذهنية التي تبنتها الإسلاموية العفلقية المتمثلة في البعث. حسب هذه النظرية كل الثقافات والحضارات التي ظهرت في بلاد الرافدين بدءا بالسومريين ومرورا بالأكاديين والبابليين والكلدانيين والسريانيين وصولاً إلى الآشوريين والفينيقيين كلها ثقافات وحضارات عربية بحتة. كما تم اختصار كل الديانات الإبراهيمية التوحيدية في الإسلام، وإنكار حقيقة أن الإسلام بحد ذاته هو مرحلة الصيغة الثالثة لفكرة التوحيد الإبراهيمية! كما أن القوموية الكردية البدائية والمستندة إلى العشائرية والعائلية بدلاً من فكرة الأمة تختصر تاريخ الكرد وكردستان الممتد إلى 15 ألف سنة في عائلة وسلالة وتيار سياسي نخبوي معين وكأن المجتمع ليس له أي دور في التاريخ والثقافة والفكر.
يمكن القول: إن القوموية الكردية القبلية والعائلوية متخلفة ومتلاعبة على الحقائق أكثر من البعث والطورانية الإسلاموية في هذا المجال.
هذه اللوحة المزيفة والتي تجسد هجوماً على حقيقة المجتمع ودوره وثقافته وتاريخه وهويته من الناحية الفكرية والثقافية يجب مواجهتها بنهضة فكرية وثقافية كمشروع لحماية المجتمع من هذه الناحية. ولكي تتحول النهضة الفكرية والثقافية إلى مشروع لحماية المجتمع من الحداثوية المتمثلة في القوموية والأصولية الدينية وما شابهها من المشاريع المناهضة لحقيقة المجتمع والطبيعة والإنسان والتاريخ فلا بد من جهود مكثفة لتوجيه المجتمع بكل مكوناته نحو الثقافة الديمقراطية التي تتخذ من الجذور)الهوية( والارتباط بالإرث التاريخي الشعبي والتسامح وقبول الآخر أساساً لها. يتعرض المجتمع الآن لحرب خاصة من الناحية الفكرية والذهنية عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة والهدف منها خلق حالة من انعدام الثقة والأمل وتحريف الحقائق وتعكير الأذهان وتسميمها لكي تبقى مشلولة.
ولمواجهة هذه الحرب المعنوية- الفكرية القذرة لابد من حماية ذاتية من قبل كل المؤسسات التي تمثل المجتمع وتهمها حماية ثقافته وذهنيته. الأكاديميات الفكرية والثقافية تتحمل مسؤولية كبيرة في هذا المجال. تدريب الكوادر القادرة على تدريب المئات وبالتالي توجيه الناس فكرياً وثقافياً وحمايتهم ممكن من خلال فتح الأكاديميات في كل قرية وحي. لأن نظام الحرب الخاصة المتمثلة في القوى الدولتية- السلطوية والظلامية تدخل كل بيت عبر التلفاز والشبكة الإلكترونية وتحاول التأثير على مشاعر وعواطف وأذهان الناس عبر أساليب مختلفة ومتعددة لا تعد ولا تحصى. يسخرون كل شيء لخدمتهم ويصرفون الملايين في هذه الحرب القذرة، وشعارهم هو تصويرالكذبة كأنها حقيقة من خلال تكرارها كل يوم وكل ساعة وحتى كل دقيقة.
الحرب الفكرية واالذهنية موجهة على الأكثر ضد الشبيبة والأطفال والنساء وتتركز حول ثلاث نقاط أساسية؛ أولاً: إضعاف الروح الوطنية من خلال خلق حالة من الاغتراب عن الأرض والفلكلور والهوية التاريخية عبر أفكار استهلاكية حداثوية مادية تحت اسم العولمة أو التقدم أو حتى العصرنة ! طبعاً الهدف منها هو إفراغ المنطقة من سكانها الأصليين وتسهيل عمليات الهجرة كشكل آخر من أشكال الإبادة.
ثانياً: إضعاف روح المقاومة والحماية من خلال التشهير بعمل المقاومين والتشويش عليه أو تشويهه أو تصويرهه كعمل غير ضروري وغير مجدٍ. فيبثون البرامج والأفكار التي تروج لفكرة عدم قدرة المجتمع على الدفاع عن نفسه، لذا لابد له من أن يهرب من مقاومة القوى الظلامية والسلطوية أو يطلب العون من القوى الخارجية التي تقف هي نفسها وراء هذه
الهجمات.
ثالثاً: الاستهتار بمكتسبات الثورة وإضفاء أجواء ضبابية عليها بهدف إبعاد المجتمع عن احتضانها والتمسك بها وتطويرها. إلى جانب ذلك استخدام أسلوب » النقد » الهدام )النقد السلبي( كوسيلة للحد من التأثير الإيجابي لهذه المكتسبات على رفع مستوى ثقة المجتمع بنفسه وبطليعته وبطاقته وبإدارته، وهذا ما نشاهده في تجربة ثورة روجآفا.
إذا هناك ضرورة وحاجة ماسة إلى إحياء الروح الوطنية الصادقة، وإلى نهضة ثقافية- معنوية مستندة على الافتخار بالأرض والجغرافيا والقرية والآثار والقيم المعنوية كبديل عن الاغتراب، بالإضافة إلى برامج اجتماعية توجه الناس من كل المكونات نحو الثقة بالقوة والطاقة الذاتية بدلاً من الاعتماد على القوى الخارجية أو الهروب. هذه البرامج يجب أن تبعث الأمل في النفوس وتكشف عن قوة وطاقة المجتمعات وقدرتها على الدفاع الذاتي عن نفسها عبر تاريخ خمسة آلاف سنة من عمر الصراع بين قوى الشر المتمثلة في الدولة والسلطة والعصابات الظلامية من جهة والمجتمع بكل مكوناته من جهة ثانية. يجب تعميق الطاقة الذهنية للمجتمع لكي يتمكن من إعطاء المعنى المناسب لما يتحقق من منجرات وانتصارات لصالحه ضد القوى المعادية له والمتمثلة في الدول القوموية والعصابات الداعشية المدعومة من قبلها حتى يستطيع المجتمع الوصول إلى مستوى من الوعي والإدراك السليم يفضل عن طريقه خبز تنوره وزرع حقله وحفنة ترابه على كل الأسواق العبودية الاستهلاكية وأسواق النخاسة في أسطنبول وباريس…وغيرها من المراكز التي تقتل المعنى والروح والمعنويات وتحول الإنسان إلى كائن بيولوجي يأكل ويشرب وينام وينجب لا يفكر ولا يملك القيم والروح الاجتماعية.
التاريخ والجغرافيا يرويان لنا قصة مقاومة المجتمع بأفضل الأشكال ضد أشرس الهجمات من قبل القوى الدولتية-السلطوية والرجعية . فهل نحن بحاجة إلى دليل تقدمه لنا وسائل الإعلام المضللة لكي تثبت عكس ذلك !؟ مقاومة قلعة دمدم ومقاومة الشعوب في سلسلة طوروس وزاغروس وسهولهما من رستم زالة إلى فيروشاه ومقاومة درويش عفدي في دشتا ماردين حتى جبل كزوان وجبل شنكال تقدم لنا أروع الأدلة والبراهين.
*آليات الحماية الفكرية والثقافية :
القوى التي تهاجم المجتمعات في الشرق الأوسط تملك مئات بل آلاف المدارس والأكاديميات والمواقع الإلكترونية والمحطات التلفزيونية والإذاعات. كل الآليات الفكرية والإعلامية التابعة للدول القوموية والقوى العالمية المهيمنة تخدم القوى الداعشية الرجعية في المنطقة تحت مسميات عديدة وبأشكال مختلفة. القنوات السلفية لا حصر لها، مدارس النورجية )فتح الله غولن( يصل عددها إلى المئات في أكثر من 80 دولة إسلامية وغير إسلامية. كل هذه المراكز الفكرية والإعلامية تقوم بغزوات ذهنية وفكرية وعاطفية ضد حقيقة المجتمع وهويته في المنطقة، بالإضافة إلى هدم الآثار وإزالة الرموز الثقافية والتاريخية بهدف تصفية ذاكرة الشعوب وقطع جذورها تماماً عن الجغرافيا والعمق الاجتماعي.
ماهي تدابيرنا أمام هذا الغزو الفكري الحداثوي الرأسمالي )المادي(!؟ إذا قارنا تدابيرنا بحجم التحديات نراها ضعيفة ولا تلبي الحاجة المطلوبة لأن قنواتنا لا تتعدى أصابع اليد، كما أن مدارسنا وأكاديمياتنا لا تتعدى العشرات. بالإضافة إلى أن مؤسساتنا لم تصل إلى مستوى خلق البديل المعنوي والثقافي الديمقراطي بدلاً من مشروع الحداثوية المادياتية الذي يحاول فرض نفسه كبديل من خلال القوموية والليبرالية والأصولية الدينية.
إذا ما العمل !؟ لا بد أن يتحول كل بيت وكل مسجد وكنيسة ومعبد زردشتي ومؤسسة إلى مركز لإشعاع الثقافة الديمقراطية وثقافة الحياة الجماعية والتشاركية والتعايش السلمي المشترك بدلاً من الأنانية والفردية والقوموية والتعصب الديني أو المذهبي وما شابه من الأفكار والذهنيات الهدامة والمعادية لحقيقة تاريخ الشرق الأوسط والإنسانية. علينا قبل كل شيء أن نبدأ من الأطفال والشبيبة، لأن القوى الداعشية تفتح آلاف المدارس تحت اسم الدين لتربية الأطفال على سفك الدماء وهم في عمر البراعم. ما هو عدد مراكز تربية الأطفال على ثقافة التسامح والصداقة والمحبة والتعاون والجيرة والروح الجماعية عندنا !؟ قليلة جدا والقلة الموجودة لا تتمتع بخبرات مناسبة وناضجة، كما أن الشبيبة أيضاً لا تملك مراكز مؤهلة ومناسبة لحماية نفسها فكرياً وثقافياً وبالمستوى المطلوب. قد تكون المرأة كقوة ريادية هي نقطة الحسم والبديل الأقوى والطاقة المحركة لحماية المجتمع كله في هذه المرحلة، وهذا ما أثبتته ثورة روجآفا في شخصية آرين ميركان و جيندا و سلافا وآزادي ووارشين….الخ. لذلك تستطيع المرأة بأكاديمياتها ومراكزها الثقافية أن تحمي المجتمع ثقافياً وذهنياً كبديل عن العبودية وكأفق مفتوح على الحرية إلى مالا نهاية له. في النتيجة يجب القول إن توجيه المجتمع نحو المعنويات والروح الاجتماعية الكومونالية )الجماعية( هو الطريق المؤدي لحمايته كروح ومحتوى.[1]