ثورة روج آفا ثورة الدفاع الجوهري
ستيرك كلو
بعد الصدى الإقليمي والعالمي للحراك الشعبي الذي امتد إلى جميع بلدان الشرق الأوسط كالنار في الهشيم، اندفع الجميع إلى التساؤل عن الأسباب الحقيقية وراء ما يجري، وتفاوتت الآراء واختلفت في أسباب هذا الحراك ونتائجه وخاصة بعدما انخرطت جميع القوى الإقليمية والدولية في هذه الدوامة التي لم تشهد منطقتنا مثلها منذ زمن غابر ليبقى الكل في حيرة من تحديد مسار التغييرات والتطورات التي تحدث انقلابات كسفينة فقدت شراعها ولم يتبقَ لبر الأمان طريق سوى خبرة وضمير القبطان للنجاة من هذه الفوضى. لذا نجد الكل يبحث في أوراقه ليعيد حساباته ويخرج من هذه الدائرة منتصراً، كما تفعل قوى السلطة الدولتية سواء الإقليمية أو الخارجية في كل حلبة صراع مثلما حصل في الحرب العالمية الأولى والثانية والتي دفعت بالشرق الأوسط إلى كيان آخر عانى الويلات من بعدها إلى اللحظة.
إن إفرازات ما وطدته الذهنية السلطوية منذ تسلطها على رقاب المجتمع والمتجسدة في النظام الدولتي الذي قسم المنطقة بالمسطرة بعد الحرب العالمية الثانية باتت تشكل حجر عثرة أمام التطورات التي يشهدها العصر، وجردت المجتمع من كافة المقومات الأولية لسير الحياة الطبيعية. سعت الحداثة الرأسمالية بكل قوتها إلى ترسيخ الذهنية الدولتية كسلطة في الشرق الأوسط. وما تعانيه الشعوب اليوم من اضطهاد وتعذيب وإنكار وإبادة هو فاتورة هذه المحاولات البائسة والعقيمة. والملفت للنظر في هذه المرحلة أنه لم يبقَ أي مكون إلا وأصبح بشكل من الأشكال ضحية لهذه الذهنية النمطية التي لا تعترف سوى بسيادة لغة وعلم وقومية ودين واحد.
إن استغلال السلطة لجميع القيم الاجتماعية ووضعها في خدمة مصالح الأقوى في كل مرة جعل المجتمع يفقد كل مقوماته في حماية قيمه المادية والمعنوية، وهذا بدوره أدى إلى فقدانه لمناعته في التصدي لمحاولات استنزاف قوته وجعله مغترباً عن هويته وتاريخه. وهذا ما عانت منه شعوب منطقتنا لقرون طوال، حيث تمت صياغة تاريخه في الملفات الرسمية وتشكيل أنظمة دخيلة من دون أن يكون لإرادته أي قيمة. إن بقاء المجتمع تحت سيادة النظام الدولتي الذي فرض بقوته كل أنواع التعسف والظلم باسم الإدارة أدى إلى تشكيل اعتقاد لدى المجتمع بأنه من دون الدولة لا يمكن للمجتمع أن يدير نفسه، أي أن آلية دفاع المجتمع عن نفسه بقيت بيد الدولة وأينما توجهت يجب السير نحو ذاك الاتجاه. استخدم النظام الدولتي قوة المجتمع في الاحتلال والاستغلال تحت شعارات عديدة وأكثرها كانت باسم حماية الأمن القومي والعلم. وإذا ما نظرنا إلى حقيقة هذه الشعارات التي قامت بخداع المجتمع لسنين طويلة سنجد بأنها لم تكن في حقيقتها سوى نوع من التضليل لصالح فئة سلطوية معينة سواء أكانت سلالاتية أم دينوية أم فئوية أم طبقية، ونجد أمثلة ساطعة على ذلك في الشرق الأوسط في هيكلية كل دولة.
سعى المجتمع إلى الحفاظ على مقوماته الطبيعية حتى وإن كانت هذه المساعي لا تتخطى حدود الطرف المغلوب على أمره في الكثير من الأحيان. بعد محاولات دامية للحداثة الرأسمالية لتوطيد نفوذها في منطقتنا تحديداً اختارت أكثر الآليات فعالية في تخدير ذهنية المجتمع أولاً ومن ثم تقييده بضوابط وقواعد عبر استغلال التعددية والتنوع سواء من ناحية القيم المادية أم المعنوية والتي تمتد إلى آلاف السنين. فشارف الجميع على التصديق بأن التعددية والغنى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخ العريق لمنطقتنا بلاء على رؤوس شعوبها، لأن النظام المركزي وصل إلى درجة أنه قد فرض نفسه كقوة حتمية ومطلقة ولا يمكن الاستمرار بدونه وتبدى ذلك من خلال هجماته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتخذ من القيم الديمقراطية هدفاً ثابتاً في كل عراك.
بالطبع لم يصل الصراع بين قيم الحداثة الرأسمالية والقيم الديمقراطية في أي وقت مضى إلى الدرجة التي وصل إليها في عصرنا هذا، على الرغم من أنه كانت له أشكال متعددة.
لكن الأمر الذي يفرض نفسه كضرورة حتمية وخاصة بعد زيادة الهجمات الوحشية من قبل المجموعات الإرهابية أمثال داعش ضد الشعوب هو الحاجة إلى الحماية والدفاع الذاتي.
إن التصدي للمخاطر يحتاج أولاً إلى وعي بكيفية دفاع المجتمع عن قيمه سواء أكانت مادية أم معنوية، لذا نجد بأن حماية الفرد والمجتمع لنفسه يقتضي أولاً التسلح بذهنية حرة، كون الحماية لا تقتصر على الوجود الفيزيائي لوحده بالنسبة للإنسان وحده بل ينبغي أن تكون ذات بعد شمولي حتى يتمكن المجتمع من تحقيق حياة حر وديمقراطية. وأثبتت التغييرات الحاصلة بأنه متى ما تخلف أي فرد أو مجتمع عن آلية الدفاع الذاتي أو الجوهري سيكون سلفاً عرضة لكافة أنواع الانتهاكات التي تودي به إلى المصير المحتوم مثل ما نعانيه في راهننا وخاصة بعد هذه المرحلة التي سماها القائد «عبدالله أوجلان » بمرحلة الحرب العالمية الثالثة. إن تجريد الفرد من كافة آليات الدفاع عن نفسه كإنسان حر، وإحداث خلل في التوازن في علاقته مع المجتمع يعتبر أقوى الأسلحة التي تستخدمها الحداثة الرأسمالية في الشرق الأوسط بعد ترسيخها في أوربا باسم الحقوق الفردية والتي أدت في نتيجتها إلى خلق فرد ومجتمع هش لا يقوى على الدفاع عن نفسه مثلما تدافع وردة عن نفسها بأشواكها.
من هنا يبرز دور الدفاع الجوهري في كل مكان وزمان، وليس شرطاً أن يكون الدفاع في زمن الحروب فحسب، لأن الإنسان بحاجة إلى حماية قيمه المادية والمعنوية وإحياء هويته بإرادة حرة في كل عصر. لذا فإن الدفاع الجوهري أحد أهم المبادئ الأساسية لتحقيق مجتمع حر وديمقراطي خاصة إذا كان معرضاً في كل لحظة إلى إبادة جسدية وثقافية. من دون تنمية هذه الذهنية لن تتمكن أية قوة عسكرية مهما كانت عظمتها من الدفاع عن الشعوب، وتم الإثبات من خلال الهجمات الوحشية التي تعرضت لها شعوب المنطقة وخاصة الشعب الكردي بأن هذا المبدأ يشكل حجر الزاوية في استمرار المجتمع بمكوناته الأخلاقية والسياسية. إن الحماية الجوهرية حق طبيعي، واكتساب هذا الوعي يحتاج إلى معرفة الهوية الحقيقية والتصدي لكافة أشكال الاغتراب عن الذات والحقيقة الاجتماعية والتاريخية. ولكن مع تطور مفهوم السلطة والدولة فقدت المجتمعات قابلية السير على هذا المبدأ، وفي هذا يذكر هيتلر: «الشعوب كالقطيع » أي أينما وجهتها القوى الحاكمة فسوف تسير خلفها. ولكن تبين من خلال ثورة روج آفا بأن هذا التعريف لا صحة له في حال وجود مبدأ الدفاع الجوهري.
حيث استطاع الشعب الكردي بعد تسلحه بالوعي الديمقراطي الحر أن يتصدى لكافة الهجمات التي تستهدف قيمه المادية والمعنوية، ولن يبخل بذلك خلال سنوات الكفاح في سبيل قضيته.
استطاع الشعب الكردي في روج آفا أن يحقق نجاحات هامة اعتماداً على مبدأ الدفاع الجوهري، لأن هذا الدفاع جاء كرد فعل طبيعي تجاه كل ما لا يتناسب وطبيعته الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، لذا نجده يتقوى في جميع هذه الميادين بعد تعرضه لقرون طويلة لأشد أنواع السياسات إنكاراً وإمحاءً وإلى أخطر أنواع الإبادة العرقية والمجازر الجماعية. لم يُسمح للكردي بالتحدث بلغته ولا إحياء ثقافته والأفظع من ذلك أنه عومل معاملة الجاهل والفاشل والمنكر إلى حد وصل بالكردي إلى أن يخجل من كردياتيته وأصله ولغته ودينه بعدما كانت أرضه مهد ثقافة المجتمع الطبيعي «ثقافة الآلهة الأم ». وصل الحال بالشعوب إلى الانفجار جراء ما اتبعته القوى التسلطية التي حرمتها من أكثر الخصائص الطبيعية الموجودة فيها. فلم يعد بإمكان الفرد أن يثبت هويته وإرادته عبر مجتمعيته وذلك باسم حقوق الفرد التي يطبل لها النظام الرأسمالي، وظهر في النتيجة بأن ما يحصل هو فقدان الفرد لمجتمعيته وبالتالي خصائصه في حماية قيمه المجتمعية والدفاع عنها.
إن حقيقة المجتمع في بناء نفسه على أسسه الطبيعية التي تؤمن حاجته تتناسب مع جميع المقومات الطبيعية وبالتالي ترجح كفة الميزان دائماً تجاه ما هو مفروض للحفاظ على هذه الحقيقة، وقد تبدى ذلك في حقيقة ثورة روج آفا التي اعتمدت في جوهرها على ميراث تركته الحركة التحررية الكردستانية في ذات المجتمع الكردي الذي عرف النهوض من بعد سبات امتد سنين طويلة من تاريخه. إن حقيقة الثورة في روج آفا تمدنا بالكثير عن كيفية دفاع المجتمع عن قيمه الأخلاقية والسياسية وكيف يتحول إلى درع لحماية مكتسباته المادية والمعنوية ويصبح حاميها المخلص. إن مفهوم الحماية والدفاع الجوهري لم يأتِ من العدم بل جاء بعد التسلح بوعي ديمقراطي وذلك عبر معرفة القيم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتمكن من بعث التلاحم وإعادة صياغة التاريخ المدفون في قبور الحداثة.
إن ثورة روج آفا ثورة الدفاع الجوهري، فعلى الرغم من جميع الهجمات الوحشية التي يتعرض لها الشعب الكردي يومياً من قبل المرتزقة وقوى الإرهاب المتمثلة فيما يسمى بداعش وبدعم الكثير من القوى الإقليمية والعالمية إلا إنه استطاع أن يلم حلقاته المفقودة ليتصدى لها عبر تشكيل نظام دفاعي يعتمد على نفسه وبإرادته الحرة. إن إعلان الشعب الكردي عن إدارة ذاتية ديمقراطية وترسيخ هذه الإدارة بدءاً من تشكيل الكومينات والمجالس إلى إتمام هيكليته الهرمية هو إعلان ضد كافة هجمات الحداثة الرأسمالية على قيم الحضارة الديمقراطية ،قيم جميع المكونات التي تعيش في روج آفا وسوريا وليس قيم الشعب الكردي فحسب. وقد أثبتت هذه الحقيقة في المشهد الحالي الذي تعيشه مكونات روج آفا في جميع المدن والقرى. يقود الشعب الكردي هذا النظام اعتماداً على المساواة والتشارك رغم الذهنية التسلطية والشوفينية التي روج لها النظام الدولتي. استطاعت الحركة التحررية الكردستانية تحت ريادة القائد «عبدالله أوجلان » بترسيخها براديغما المجتمع الديمقراطي الأيكولوجي والمرأة الحرة أن تكون السبب في إبداء الشعب الكردي وجميع المكونات الأخرى كفاحاً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وخاصة بعد أن اشتدت حدة الصراع وأعلنت الحركات الشعبية عن ثورتها، حيث أبدى الشعب الكردي في روج آفا استعداده للاستمرار بهذه الثورة من كافة النواحي لأنه صاحب تاريخ نضالي يمتد إلى أكثر من أربعين عاماً. كان هذا الشعب الأقرب إلى ثقافة المقاومة التي تشكل روح الثورة والشريان الحيوي في استمرارها، ليس ضد شوفينية البعث وحدها بل ضد كافة العناصر التي تغذي مفهوم الهيمنة والنزعات الطائفية والعرقية التي تحاول قوى الإرهاب فرضها كواقع لا مفر منه عن طريق رسم خطوط لا تعرف سوى التجزئة والتفرقة تحت شعار الدين. في الحقيقة كشف الشعب الكردي الستار عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع، وقد كانت مقاومة كوباني من أكثر الأمثلة دلالة على الخصوصية الذاتية التي يتحلى بها الشعب الكردي ويحاول نشرها بين جميع مكونات المنطقة بعربها وتركمانها وآشورييها وسريانها ودروزها.
لا تقتصر الحماية الجوهرية على حماية الوجود الفيزيائي كمفهوم بل تشمل حماية جميع القيم المادية والمعنوية التي يحتاجها أي مجتمع للحفاظ على وجوده كبدن وروح، ويسعى الشعب الكردي إلى ترسيخ هذا المبدأ لحماية ذاتيته بكل فئاته وأجناسه وأقوامه منذ اندلاع الثورة في روج آفا وعموم سوريا. إن ثورة الشعب الكردي في روج آفا هي ثورة جميع المكونات التي يتكون منها المجتمع السوري عموماً، ولهذه الثورة خلفية تعتمد على الوعي الديمقراطي وثقافة المقاومة، لذلك لم تتمكن قوى الإرهاب من تصفيتها بل على العكس استطاعت هذه الثورة أن تحرز نجاحات هامة حتى وصلت إلى مستوى أخذت فيه مكانتها في الأجندات العالمية وتحولت إلى أهم عامل من عوامل تغيير موازين القوى في المنطقة. لم تستطع قوى الإرهاب مثل جبهة النصرة ومرتزقة داعش التغلب على هذه القوة الشعبية التي تعتمد على إرادتها وإمكانياتها الذاتية وقد تبين ذلك خاصة بعد الدعم التركي العلني لهذه القوى وكذلك الدعم الإيراني تحت شعار تحقيق الهلال الشيعي. وقد أثبت الشعب الكردي بتنظيمه تحت سقف إدارة ذاتية ديمقراطية بأنه لا يمكن لأية قوة أن تحقق النجاح دون الاعتماد على ذاتها وقوتها الجوهرية. وقد كانت مقاومة كوباني والحملات المنتصرة لقوات حماية الشعب والمرأة في مقاطعة الجزيرة بتحرير جبل كزوان «عبدالعزيز » إلى جانب تفعيل وتحقيق مهام الإنشاء في المقاطعات الثلاث ككل متكامل خير شاهد على ذلك.
وبهذا فإن إحياء ثقافة المقاومة في ذات ثورة روج آفا والتي نسميها ثورة المرأة جاء امتداداً لثقافة المجتمع الطبيعي المتمحورة حول ثقافة الآلهة الأم. إن انضمام المرأة وقيادتها لثورة روج آفا هو ضمان نجاح هذه الثورة لأن المرأة الكردية استطاعت ومن خلال مستوى الوعي الديمقراطي الحر الذي تتمتع به أن تثبت قدرتها على إعادة كتابة التاريخ بإرادة وكلمة حرة. وقد كانت مقاومة الرفيقة آرين ميركان في كوباني ضد مرتزقة داعش مقاومة جوهرية ضد همجية وتسلط الذهنية الذكورية، وكانت مقاومتها استمراراً لمقاومة الرفيقة زيلان «زينب كناجي ». الكثيرون ممن يتابعون هذه المقاومة سواء عن قرب أم عن بعد وقعوا في حيرة من أمرهم تجاه ما تقوم به المرأة الكردية في روج آفا من حيث تضحياتها ودورها الأولي في إنشاء نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية بدءاً من تشكيل الكومينات والمجالس إلى تكوين قوات الحماية الذاتية والجوهرية في كل قرية ومدينة في روج آفا. بات الشعب الكردي الآن يثق بقوته أكثر من أي وقت مضى وخاصة بعد مروره بامتحانات صعبة على كافة الصعد، وعرف كيف يعتمد على إرادته ويفتح أبوابه أمام جميع المكونات الأخرى ويتصدى لجميع الهجمات معهم جنباً إلى جنب. وهنا أريد أن أذكر موقف مواطن عربي عندما عبر عن فرحته بتحرير قرية مبروكة، حيث قال: إنني أؤمن بأن قوات حماية الشعب والمرأة ستحرر جميع الأراضي السورية من المرتزقة وأعوانهم. إن هذه الثقة تدل على تكاتف الصفوف بين جميع المكونات والتعدديات في روج آفا وبالتالي على وجود روح المقاومة والدفاع عن القيم الإنسانية لمجتمعنا.
لم يعد الشعب الكردي ولا أي مكون آخر في روج آفا ينتظر النجاة من الخارج بل بات يعتمد في كل مقومات حياته على نفسه على الرغم من جميع المصاعب، ولم يتردد في تقديم التضحيات إلى اللحظة، لأنه يدرك أكثر من الجميع بأن الاعتماد على الذات عبر تصعيد المقاومة وتشكيل قوات الحماية الجوهرية في كل مكان مهمة ومسؤولية أولية تقع على عاتق كل من يريد العيش الحر.[1]