البنية الحقوقية في روج آفا
حسين شاويش
في البداية علينا أن نعطي تعريفاً صحيحاً لمصطلح )الحقوق( حيث يحوم حولها الكثير من الغموض، فعندما يجري الحديث عنها, يتخاطر في أذهان الناس أن الحقوق هي إطار أو صيغة شرعية للكل بما في ذلك المجتمع. مع العلم أن مصطلح )الحقوق( هو خدعة من اختراعات مؤسسة الدولة، والسبب هو محاولة الدولة شرعنة نفسها عن طريق الحقوق. ومن هذا المنطلق يمكن القول بسهولة: إن الحقوق هي أداة لشرعنة مؤسسة الدولة وممارساتها القمعية ضد المجتمع. فعلاقة الحقوق والدولة علاقة تناسب طردي مع بعضهما، كلما تمكنت الدولة من الوصول إلى مستوى من التحكم والسيطرة رتبت صيغاً أو أطراً حقوقية ناضجة متناسبة مع قوتها وتحكمها وهيمنتها. ففي عهد الملك )أورنامو( أبدع السومريون مواداً حقوقية متناسبة مع هيمنتهم وسيطرة مؤسستهم حسب تلك المرحلة من مراحل تطور مؤسسة الدولة. قبل الميلاد بنحو 2300 سنة تمكن السومريون من إبداع المواد الحقوقية المتناسبة مع نضوج هيمنة الدولة وذلك لضمان شرعنة مؤسستها وتمكين هذه المؤسسة من فرض نفسها على المجتمع بسهولة أكثر عن طريق المواد القانونية. ولكن الحملة الكبيرة للإبداع الحقوقي كانت في مرحلة الدولة البابلية، وفي عهد الملك الحقوقي المشهور )حمورابي( حيث تمكن قبل الميلاد بقرابة1750 سنة من تطوير مواد حقوقية شاملة تقريباً في تلك المرحلة و متناسبة مع نضوج وسيطرة الدولة وتحكمها بكل مقدرات المجتمع. المواد الحقوقية التي أعطت الشرعية لثنائية السيد والعبد- أو لثنائية الملك الإله والعبد المأمور- والمتجانسة في نفس الوقت مع فكرة –الفاعل والمفعول- أو الذات الفاعلة والموضوع )المفعول به( والذي لا حول له ولا قوة ولا يملك الإرادة كانت الجوهر الأساسي والحقيقي لحملة حمورابي الحقوقية. هذه الثنائية أبدعها الرهبان السومريون وزرعوها في ذهنية المجتمع كقانون إلهي مقدس يجب القبول بها، وتحولت هذه الثنائية إلى آيات إلهية مقدسة على يد )أورنامو( ومن ثم على يد حمو رابي. جميع الثنائيات الآنفة الذكر تعتبر الركن الأساسي للذهنية الحقوقية التي تطورت في المرحلة العبودية من مؤسسة الدولة. بمعنى آخر، تحولت المواد الحقوقية والقانونية إلى آيات إلهية لا يمكن مناقشتها ولا الاجتهاد فيها ولا النقاش عليها بقصد إعطاء الشرعية للنظام العبودي و مؤسسة الدولة المبنية على أساس
ثنائية –الحاكم والمحكوم- من الناحية الجنسية ومن الناحية الطبقية ومن النواحي القومية والمذهبية والدينية بعد ذلك.
إذا سألنا السؤال التالي: كيف تمكن الرهبان السومريون الذين اخترعوا مؤسسة الدولة من إفساح المجال أمام هذه المواد الحقوقية والقانونية على يد )أورنامو( وبعد ذلك على يد )حمورابي(؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التطرق لمسألة أساسية وهي الأخلاق الاجتماعية.
دون تصفية الأخلاقيات الاجتماعية العريقة لا يمكن تطوير الحقوق التي تعطي الشرعية لمؤسسة الدولة وبنفس الوقت للسيطرة والهيمنة والقمع والتحكم والاستغلال والمجازر الجماعية. لماذا؟ لأن مؤسسة الدولة تطورت على أساس تحويل المجتمع إلى قطيع، أي مفعول به, وتحويل الراعي أو الملك الإله أو السيد إلى صاحب لهذا القطيع، بمعنى إلى الفاعل و الذات الفاعلة. وحتى تستطيع هذه المؤسسة الوصول الى مبتغاها، لابد لها من تصفية الأخلاق الاجتماعية من الصداقة والجيرة والتعاون والتضامن والتسامح والتجانس والوئام بين أفراد المجتمع، أو تفتيت المجتمع. تعتبر الأخلاق الإسمنت المسلح للمجتمع، وحتى تتمكن الدولة من تفتيت المجتمع وتحويله إلى قطيع مجرد من هذه الأخلاقيات يجب كسر الإسمنت المسلح الذي يربط بين أفراد المجتمع وشرائحه المتعددة حتى تستطيع تفريقه وتفتيته وبالتالي تحويله إلى قطيع لا حول له ولا قوة, فلا بد من القضاء على أخلاقية المجتمع. نقطة الانطلاق والخطوة الأساسية على طريق إبداع الحقوق هي القضاء على الأخلاق الاجتماعية العريقة. الأخلاق الاجتماعية هي القانون أو الحقوق غير المدونة للمجتمع وهي في نفس الوقت الذاكرة السياسية للمجتمع والمرتبطة بالإدارة الاجتماعية. كان المجتمع يمتلك إدارة وإرادة عن طريق ذاكرته السياسية بمعنى عن طريق أخلاقياته، ولتصفية هذه الذاكرة السياسية لا بد من اغتصاب الإدارة الاجتماعية وتصفية الإرادة الاجتماعية الحرة للوصول إلى نقطة مفادها تصفية الوعي الاجتماعي برمته، وبالتالي تحويل المجتمع إلى جموع من العبيد يتلقون الأوامر وينفذونها إما بالقمع أو عبر تشريع السيطرة والهيمنة في أذهانهم.
هناك تناسب طردي بين تطوير المواد الحقوقية وتصفية الأخلاق الاجتماعية، فكلما تمكنت الدولة من تصفية الأخلاق الاجتماعية كلما تمكنت من تشريع نفسها عبر المواد الحقوقية, وكلما تمكنت الدولة من تطوير المواد الحقوقية كلما استطاعت الوصول إلى نتيجة مفادها تصفية الأخلاق الاجتماعية العريقة، فالمجتمع ومن خلال قوانينه الطبيعية غير المدونة والمتمثلة بالأخلاق الاجتماعية, استطاع وعبر تاريخ طويل يتجاوز عشرات الآلاف من السنين إدارة نفسه بنفسه، ولكي تستطيع مؤسسة الدولة تكوين نفسها لابد لها من القضاء على الإرادة الاجتماعية الحرة والسبيل إلى ذلك هو القضاء على الإدارة الاجتماعية وبالتالي تصفية الإرادة الاجتماعية والقضاء على الذاكرة السياسية للمجتمع والمتمثلة في الأخلاق. لا شك، أن المواد الحقوقية المطورة من قبل الدولة لتشريع نفسها وصلت لدرجة عالية من النضج في مرحلة الامبراطورية الرومانية، فاللوحات الاثنتي عشرة المشهورة في روما كانت نقطة انعطاف في مرحلة تطور الحقوق نحو الصفة الكونية، فقد تحولت الحقوق في روما إلى صفة كونية كون الامبراطورية الرومانية كانت امبراطورية كونية حسب مواصفات تلك المرحلة.
وحتى الآن عندما يتم البحث في الحقوق يتم الحديث عن مرحلة تطور الحقوق في روما واللوحات الاثنتي عشرة بعد )أورنامو( و)حمورابي(.
علينا الحديث عن ثنائية مسألة الحقوق, فهناك حقوق ديمقراطية إلى جانب المواد الحقوقية الهادفة إلى تشريع القمع والاستغلال والاستبداد والمجازر، ولكن الحقوق الديمقراطية تطورت عبر مقاومات الشعوب والثورات الاجتماعية والحملات الفكرية الهادفة إلى الحرية على مر خمسة آلاف سنة من نضال المجتمع البشري ضد مؤسسة الدولة. الثورة الفكرية والوجدانية والأخلاقية التي قام بها سيدنا ابراهيم، كانت في نفس الوقت، ثورة ضد المواد الحقوقية التي أعطت الشرعية للعبودية، فعندما قال سيدنا ابراهيم : «إننا بشر وعلينا أن لا نعبد أحداً آخر مثلنا، وبما أن نمرود إنسان مثلنا فليس هناك شرعية لكي نعبده، لأن الإنسان حر بطبيعته وعليه أن لا يعبد أحداً من بني جنسه » وهكذا كانت هذه الثورة الفكرية والوجدانية والمعنوية والأخلاقية لسيدنا ابراهيم ثورة ضد المواد الحقوقية التي كانت تعطي الشرعية لعبودية الإنسان للقوى الاجتماعية أو الرموز الاجتماعية المستبدة كفرغون ونمرود. وليس من باب الصدفة أن يكون هناك تطابق في الزمان فيما بين حملة حمو رابي الحقوقية وحملة سيدنا ابراهيم الفكرية، فسيدنا ابراهيم أيضاً ظهر في ميدان النضال الاجتماعي والفكري في نفس القرن الذي تمكن فيه حمورابي من القيام بحملته الحقوقية وفي نفس المنطقة ونفس الجغرافية – جغرافية الإمبراطورية البابلية- أو الدولة البابلية أو ميزوبوتاميا أو كردستان. الثورات الاجتماعية والانتفاضات الاجتماعية وحركات الشعوب المضطهدة والمقاومات التي ظهرت ضد مؤسسة الملك الإله من قبل شعوب الشرق الأوسط جميعها تنصب في مجرى تطوير الأرضية الخصبة لظهور الحقوق الديمقراطية. عندما نتحدث عن الحقوق الديمقراطية نتذكر )ماغنا كارتا( أي الوثيقة الكبرى الدستورية الإنكليزية والتي نظمت العلاقة فيما بين الملك والأرستقراطيين في القرن الثالث عشر في انكلترا، ونتذكر أيضاً الوثيقة الإنكليزية للحريات العامة إبان الحركات والانتفاضات التي حصلت في إطار الثورة الإنكليزية الشعبية في القرن السابع عشر. كما نتذكر الصيغ الحقوقية والقانونية للثورة الفرنسية وبعدها نضالات الطبقة العاملة والشعبية الكادحة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين خصوصاً الثورة البلشفية وصولاً إلى مواثيق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وموازين )كوبنهاغن( المتعلقة بالحريات العامة وحقوق الإنسان ضمن الاتفاقيات التي اندرجت أو تندرج في إطار الاتحاد الأوروبي. ولكن هناك تناقض في تقييم مسألة الحقوق الديمقراطية هذه! كثير من الباحثين وعلماء الاجتماع يتذكرون الحملات الحقوقية التي تدخل في إطار الحقوق الديمقراطية على مر تاريخ القارة الأوروبية، ولكنهم لا يتذكرون نضالات الأنبياء والرسل والعبيد ومقاومات الفلاسفة والطرق المذهبية النصف دينية والنصف فلسفية في الشرق الأوسط والتي هيأت الأرضية الخصبة والمناسبة لتطوير الأطر الحقوقية الديمقراطية.
فكما ذكرنا آنفاً إن مقاومة سيدنا ابراهيم كانت ثورة وجدانية ومعنوية وأخلاقية ضد القوانين التي أعطت الشرعية لثنائية ،السيد والعبد, كما أن مقاومة الفيلسوف والنبي )زرادشت( كانت مقاومة فلسفية وفكرية واجتماعية وأخلاقية ضد العبودية. قال زرادشت : »إن الإنسان يجب أن يكون حرا في اختياره فهو يملك الإرادة الحرة ويستطيع من خلالها أن يختار ما بين الجيد و السيئ » . كما أن سيدنا عيسى قاوم المواد الحقوقية للإمبراطورية الرومانية من خلال ثورته الوجدانية والمعنوية عندما أشار إلى فكرة التسامح والأخوة والمساواة فيما بين جميع الأجناس والقوميات. كما أن محاولات )ماني( كفيلسوف وكرسول القيام بالإصلاح في النظام السياسي للإمبراطورية الساسانية كانت محاولة لتغيير المواد القانونية والحقوقية التي تعطي الشرعية للسيطرة والهيمنة والاستغلال ولفتح الطريق أمام القوانين الديمقراطية.
انطلاقاً من هذا كله، فإن الحقوق الديمقراطية تعني تلك المواد الحقوقية التي تقبل بالتعدد والتنوع وتحاول فرض المساواة فيما بين الشرائح والفئات الاجتماعية وتقبل بطبيعة المجتمع ولا تتناقض مع الأخلاق الاجتماعية. الحقوق الديمقراطية منسجمة مع الأخلاق الاجتماعية العريقة مثل الجيرة والتعاون والتسامح والصداقة والصميمية وقبول الآخر والعيش المشترك ولا تتناقض معها.
فالانسجام فيما بينها أمر ملفت للنظر وطبيعي جدا،ً لأن الصيغ الحقوقية الديمقراطية أو المواد الحقوقية الديمقراطية تطورت عبر النضالات التي حاولت إرجاع المجتمع إلى طبيعته وسابق عهده وتحريره من العبودية للقوى الاجتماعية المهيمنة والمتحكمة بمقدراته. من هذا المنطلق فإن الأمة الديمقراطية تعتمد على الأخلاق الاجتماعية والحقوق الديمقراطية معاً.
الأمة الديمقراطية بطبيعتها تقبل التنوع والتعدد في الأديان والأفكار والمذاهب والقوميات والثقافات واللغات والرموز. وبما أن الأخلاق الاجتماعية نابعة من طبيعة المجتمع والإرادة الاجتماعية والإدارة الاجتماعية الطبيعية فهي منسجمة مع مشروع الأمة الديمقراطية الذي يهدف إلى بناء مجتمع أخلاقي وسياسي وديمقراطي وبالتالي بناء مجتمع طبيعي. عندما نقول كلمة بناء ليس القصد أن يقوم أحد ما أو مجموعة ما بدور المهندس في بناء المجتمع, لا، بل نعني ببناء المجتمع: إرجاع المجتمع إلى طبيعته كإرجاع النهر إلى مجراه الحقيقي ليسير بشكل طبيعي دون تناثر أو فقدان الطاقة.
المواد الحقوقية الديمقراطية هي الأطر القانونية التي ستعتمد عليها الأمة الديمقراطية، ولكن إلى جانب الأخلاق الاجتماعية. الأمة الديمقراطية كمشروع سوف يعتمد على الأخلاق الاجتماعية أكثر من الحقوق الديمقراطية. والسبب في ذلك هو عدم وجود ضرورة أو حاجة ملحة إلى اعتماد هذا النموذج من الأمة على المواد الحقوقية لأن المجتمع سوف يصل إلى مستوى من الوعي والإرادة والإدارة يستطيع به مناقشة مشاكله وحلها بقوته الذاتية وطاقته الطبيعية دون الحاجة للمواد القانونية أو الحقوقية. الأمة الديمقراطية كروح وكجوهر للمجتمع الطبيعي تعتمد على آلية عملية نسميها بالإدارة الذاتية الديمقراطية. وباختصار إن الإدارة الذاتية الديمقراطية تعني إدارة المجتمع نفسه بنفسه وبقوته الذاتية وبطاقته الخلاقة وبالاعتماد على إمكاناته الذاتية وتنظيم المجتمع لنفسه عبر المجالس والمؤسسات الاجتماعية المدنية وإدارة نفسه عبر هذه المؤسسات والتي تتضمن المجالس الشعبية والأكاديميات السياسية والتعاونيات الاجتماعية. كل هذه المؤسسات سوف تعتمد على حل مشاكلها بنفسها، وسوف تقبل بالتنوع والتعدد على قاعدة الإدارة المحلية للبلدات والقرى والأحياء والمدن وصولاً إلى المقاطعات أو )الكانتونات( ويمكن أن يكون هناك تمايز من ناحية الأخلاق الاجتماعية بين مقاطعة وأخرى وهذا يعطي الحق للمجموعات السكانية بأن يحلوا مشاكلهم عبر هذا التمايز دون الدخول في الفوضى.
لا يمكن الحديث عن الاستقرار بدون القوانين المبنية على قاعدة الأخلاق الاجتماعية أو الحقوق الديمقراطية. وبالرغم من وجود هذه القوانين والمواد الحقوقية الديمقراطية أو الأخلاق الاجتماعية فإن مسألة التمايز فيما بين المجموعات السكانية هي حقيقة موجودة وطبيعية وهذا يخلق معه التمايز في التعامل مع القضايا العالقة وسبل حلها. طالما هناك تمايز في المجتمع وفي الجغرافية سيكون هناك تمايز في الأخلاق الاجتماعية والمواد القانونية الديمقراطية. والتمايز لا يعني الصراع أو التنافر، على العكس تماماً فهو يعني الانسجام والوئام الموجودين في طبيعة الكون وطبيعة المجتمع وفي طبيعة المناطق من الناحية الجغرافية والسكانية والاجتماعية والتاريخية.
هناك من يتهم الإدارة الذاتية الديمقراطية بأنها ستخلق الفوضى إذا لم يكن هناك مواد حقوقية صارمة مثل المواد الحقوقية لمؤسسة الدولة. ولكن هذا الاتهام باطل وفي غير محله لأن النسبية سوف تكون موجودة إلى جانب الثوابت. بمعنى آخر بما أنه هناك قاعدة فهناك استثناءات أيضاً لتلك القاعدة. طالما هناك قوانين ثابتة أو أخلاق اجتماعية ثابتة فإذاً هناك قوانين حقوقية وأخلاق اجتماعية لها تمايز أو استثناءات حسب الوحدات السكانية وحسب الجغرافية وحسب المقاطعات. فحتى الدول التي تدعي بأنها دول ديمقراطية متطورة توجد عندها مسألة التمايز والفروقات في المواد الحقوقية والقانونية. على سبيل المثال؛ في الولايات المتحدة الأمريكية تختلف هذه الحقوق بين ولاية وأخرى، ففي ولاية تكساس توجد أحكام بالإعدام أما في واشنطن فهي غير موجودة، ويبرر الأمريكيون ذلك بالأوضاع الاجتماعية الموجودة أو بسبب التمايز في الأوضاع الاجتماعية فيما بين ولايتي واشنطن وتكساس، فتبرير هذا الوضع هو تبرير التمايز فيما بين المقاطعات والأخلاق الاجتماعية لكل مقاطعة.
الخلاصة: إن الأمة الديمقراطية سوف تعتمد على ثنائية قانونية منسجمة فيما بينها؛ الأخلاق الاجتماعية والتي تعتبر بمثابة مواد قانونية غير مدونة ولكنها موجودة في ذاكرة المجتمع إلى جانب المواد القانونية الديمقراطية والتي تتبناها المواثيق الحقوقية الديمقراطية على الصعيد العالمي والتي تم تطويرها عبر نضالات وثورات اجتماعية بدءاً من انتفاضة سيدنا إبراهيم وصولاً للثورة البلشفية ومروراً بكومونة باريس.
هناك مثال ونموذج نعيشه يومياً في غرب كردستان، كلجان الصلح في البلدات والأحياء و القرى .هذه اللجان ليست حقوقية بل اجتماعية مرتبطة بالعادات والتقاليد الإيجابية والعريقة للمجتمع، وقامت بحل الكثير من القضايا الاجتماعية التي عجزت محاكم الدولة القمعية والاستغلالية عن حلها، وذلك عبر الطاقة الاجتماعية والإرادة والإدارة الاجتماعية، حتى أن بعض المشاكل التي يتجاوز عمرها الخمسين عاماً تم حلها على يد هذه اللجان والتي نسميها بلجان الصلح والموجودة في بنية المجالس الشعبية في غرب كردستان وهذا دليل على قوة الأخلاق الاجتماعية في مشروع الأمة الديمقراطية.
يمكن الوصول إلى النتيجة التالية؛ إن مشروع الأمة الديمقراطية يتم تطبيقه عملياً عبر آلية الإدارة الذاتية الديمقراطية ويعتمد على القوانين الديمقراطية ويتخذ من الأخلاق الاجتماعية أساساً له. هناك انتقاد من بعض المحامين أو هناك تقرب سطحي غير متواضع من قبل بعضهم ضمن المؤسسات الحقوقية لمسألة لجان الصلح أو المؤسسات الحقوقية للإدارة الذاتية الديمقراطية حيث يقولون إن العاملين في لجان الصلح غير مختصين وغير مؤهلين علمياً وحقوقياً وليس لديهم شهادات حقوقية.
هذا الأمر يعبر عن عدم استيعاب هؤلاء لطبيعة المجتمع. فهل كان هناك محامون أو حقوقيون أو أناس يملكون شهادات عليا في الحقوق ضمن إطار المجتمع الطبيعي؟ لا، لم يكن هذا موجوداً ولكن في نفس الوقت كان هناك لجان صلح يحلون مشاكلهم عن طريقها. فليس بالضرورة أن يكون من يعمل في لجان الصلح مختصاً بالحقوق بل المهم في الأمر أن تكون لديه تجربة اجتماعية وخبرة وعقلية اجتماعية وأخلاقيات وثوابت اجتماعية يتعامل من خلالها مع القضية المطروحة, ويستطيع حلها عبر طاقته الاجتماعية. ولكن في المرحلة التي نعيشها لابد من وجود الحقوقيين والمحامين في مثل هذه اللجان أو في المحاكم المرتبطة بالإدارة الذاتية لكي يستطيعوا التفريق فيما بين المواد الحقوقية الديمقراطية وغير الديمقراطية. ليس من المعيب عدم وجود المحامين في لجان الصلح ولكن يمكن القول بأنه نقص. هناك الكثير من المحامين لديهم شهادات وخبرة حقوقية ولكنهم يستخدمونها لتعقيد المشاكل والقضايا وليس لحلها بقصد كسب المال والمصلحة الشخصية، فالمشكلة ليست مرتبطة بالشهادة وإنما بالذهنية. والأمة الديمقراطية ومشروعها الإدارة الذاتية الديمقراطية تعتمد على الذهنية الديمقراطية، والذي يريد أن يحتل مكانه ضمن البنية الحقوقية لهذه الإدارة عليه أن يتحلى بالذهنية الديمقراطية قبل كل شيء، قبل أن يكون حقوقياً أو محامياً عليه أن يتحلى بالذهنية الديمقراطية، فإذا امتلك تلك الذهنية فسوف تعطيه خبرته الحقوقية تمايزا وطاقة يستطيع من خلالها خدمة هذا المشروع وخدمة المجتمع. فالخبرة الحقوقية وحدها لا تكفي.[1]