الجانب الثقافي في حركة الحرية
حسين شاويش
من أهم أسباب عدم الاستجابة لمهمات العصر والقيام بما هو ضروري في اللحظة المناسبة واغتنام الفرصة المواتية هو عدم وجود متنورين ومثقفين وقادة حقيقيين يوجهون المجتمع نحو الصواب. يمكن اعتبار هذا الأمر مصيبة حقيقية بالنسبة لأي مجتمع أو شعب، ولكنها مصيبة مضاعفة بالنسبة للشعب الكردستاني. ففي مرحلة الحرب العالمية الثانية تصدرت كل الانتفاضات والعصيانات والمقاومات الكردية قيادات أرستقراطية لم تكن تمتلك لغة العصر وأفقه ولا تعي متطلبات المرحلة.استمر هذا الوضع حتى سنوات 1970 . هذه القيادات التقليدية كانت إما بعيدة عن المجتمع وتعيش في المهجر أو منغلقة على ذاتها عشائرياً وعائلياً ومحلياً وبعيدة عن التنظيم والتدريب العسكري والسياسي والدبلوماسي.
استسلمت بعض هذه القيادات وهربت من ساحة النضال وقدمت مصالحها الشخصية والعشائرية والعائلية على مصلحة المجتمع. ففي الوقت الذي تزعمت فيه شخصيات مثل غاندي وحوشي مينة وماو وكاسترو نضالات شعوبها كانت الأرستقراطية الكردستانية تعيش حالة من الاغتراب عن العصر والمرحلة. لا شك بأن جذور المشكلة موجودة في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الكردستاني الذي فقد طاقاته وقوته وفاعليته ضمن إطار عملية الاقتتال الداخلي والانقسام والتشرذم جغرافياً واجتماعياً وسياسياً وأفقياً وعمودياً. بالإضافة إلى هدر الطاقات وفقدان الثقة والأمل بالمستقبل بعد انهيار كل مقاومة وانتفاضة وعصيان. افتقار المجتمع إلى الوعي والتوجيه، وعدم القدرة على التفريق بين العدو والصديق وعدم رؤية ألاعيب الدول الاستعمارية العالمية والإقليمية وعدم كشف المخاطر المحيطة ومصدرها فتح الطريق أمام المذابح كما حصل في منطقة كلي زيلان وديرسم وحلبجة وأخيراً شنكال.
ثقافة المقاومة الوطنية وإنشاء تنظيم وطني واجتماعي وتدريب المجتمع على قاعدة الدفاع المشروع والتمسك بالهوية في مواجهة العبودية العصرية والإبادة الثقافية هو عنوان حركة الحرية بقيادة حزب العمال الكردستاني في بداية السبعينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا. اعتبر القائد آبو في مرافعته «تحت اسم الإبادة الثقافية » الثقافة ثمرة العمل الجماعي والحياة الاجتماعية الكومونالية. وهي فاعلية اجتماعية تمتاز بالاستمرارية والإبداع من أجل حماية الصيرورة الجماعية وأساسها المادي والمعنوي.
ولكن هناك الجانب الملموس في تجسيد الثقافة عبر مؤسسات ديمقراطية متعددة. لا يمكن للثقافة أن تستمر في صيرورتها وحيويتها إلا عبر هذه المؤسسات التي يبنيها المجتمع كحاجة ضرورية.
الجانب المعنوي للثقافة والذي يمثل جوهر وروح المجتمع له أهمية قصوى في فلسفة القائد آبو. لأن الثقافة هي إعطاء المعنى لكل شيء معنوي ومادي اخترعه أو أنتجه الإنسان كحاجة وضرورة ولإضفاء المعنى والجمالية على الحياة. لم يستطع المجتمع الكردستاني الخروج من هياكله التقليدية غير المتجاوبة مع روح العصر إلا مع حركة الحرية بقيادة حزب العمال الكردستاني. البنى العشائرية والمحلية والعائلية لم تستطع الوصول إلى مستوى من الوعي والتنظيم والممارسة الوطنية منذ الوجود الفارسي القومي على عرش دولة ميديا وحتى الآن. لأن هذه البنى إما أنها اتبعت طريق الإنكار والابتعاد عن الهوية الأصلية والوطنية الكردستانية أو انغلقت على ذاتها وابتعدت عن روح العصر.
منذ ظهور المجموعة الأولى لحركة الحرية بقيادة القائد آبو تم اتخاذ أسلوب التدريب والمناقشة والتحليل والدراسة أساساً في النهضة الفكرية. هذه النهضة الفكرية اتضحت معالمها في بداية الثمانينات ووصلت إلى الذروة مع مرافعات القائد المدونة تحت عنوان مانيفستو الحضارة الديقمراطية. لا شك أن هذه النهضة الفكرية رافقتها نهضة ثقافية انتشرت في جميع أجزاء كردستان والمهجر. وفي يومنا الراهن هناك إشارات للتأثير العالمي لهذه النهضة. هذه هي النهضة الكردستانية المعاصرة بعد الثورة الزراعية والقروية الأولى «قبل 15 ألف سنة » وبعد حركة الميديا « ق.م 600 – 700 سنة »
النهضة الثقافية:
لأول مرة تحولت الهوية الكردستانية وتاريخها إلى موضوع للبحث من قبل فئات واسعة من أبناء كردستان المهتمين بالثقافة. ولأول مرة تحولت الهوية والتاريخ إلى موضوع يهم المجتمع كله ويخرج من احتكار الأرستقراطية الكردية النخبوية. وبعد قفزة 15 آب سنة 1984 انتشرت أدبيات حركة الحرية من كتب ومجلات وجرائد باللغات التركية والكردية والعربية في الكثير من المناطق وبين فئات واسعة من طلبة المدارس الثانوية والجامعية مما خلق جواً من النقاشات الفكرية العميقة وجذب المجتمع نحو الدراسة والبحث عن الجذور والهوية والتاريخ وتلمس الواقع المرير والتقرب نحو يقظة وطنية كردستانية صادقة بدلاً من الولاءات المحلية والعشائرية والعائلية والسلالاتية. لقد كان ل كتاب قضية التحرر الوطني الكردستاني، وطريق الحل والمسألة الشخصية، والمقاومة حياة، ومجلة برخودان، وسرخبون تأثيرها الفكري لجر المجتمع نحو مناقشة تاريخه وهويته وواقعه وبالتالي التوجه نحو النتاجات الثقافية. العشرات بل المئات من الندوات والاجتماعات ذات المحتوى الفكري والسياسي، ولأول مرة في تاريخنا وبعد سبات عميق دام مئات السنين، كانت مؤشراً إلى نهضة ثقافية قادمة. النهضة لها علاقة وثيقة بالجذور التاريخية، فمثلاً النهضة الأوروبية بدأت في فلورانسا الإيطالية مع نتاجات رافائيل الشعبية والفلكلورية والأدبية إلى جانب النقاشات الفكرية الأساسية حول الفلسفة وخصوصاً فلسفة ابن الرشد.
لقد تمكنت قيادة حركة الحرية من توجيه المجتمع الكردستاني رويداً رويداً نحو حقيقته المتمثلة في الفن والأدب والفلكلور واللغة …الخ. لأول مرة اتجه الفن الكردي نحو التنظيم والتعبئة لدعم المقاومة في بوطان وتأسست كوما برخودان على مستوى أوروبا وانتشرت فروعها في كردستان وخصوصاً في روجآفا.
إضافة إلى إحياء ذاكرة المجتمع الوطنية التاريخية من ناحية استخدام المصطلحات التي تعبر عن حقيقة الهوية والجذور مثل مصطلح كردستان وباكور وباشور وروزهلات وروجآفا وبرخودان وسرخوبون ونشر روح الصداقة والتعاون والمحبة والرفاقية بين أبناء الشعب والتواصل بين المكونات الموجودة في الأجزاء الأربعة بعد انقطاع طويل على يد المستعمرين الذين مزقوا الجغرافيا والمجتمع في لوزان وسايكس بيكو. لقد تمت إزالة الحدود المصطنعة في العقول والأذهان أولاً ومن ثم تربية جيل جديد على المقاومة والروح الوطنية النضالية في كل مكان من كردستان بدون تمييز على الرغم من هجمات التشويش والديماغوجية من قبل الأرستقراطية الكردية. إلى جانب هذا كله تم نشر صور شهداء الحرية في كل بيت وشارع كقيم مقدسة بدلاً من النسيان وفقدان الذاكرة التي أصابت العقول تحت نير الاستبداد والسياسات الخاطئة للأرستقراطية الكردية العشائرية ونخبتها التي ادعت الثقافة زوراً وبهتاناً. مرة أخرى استعاد مجتمعنا ثقافة الارتباط بالطبيعة والجبل والنوروز والتراث والمساواة بين الجنسين كتقاليد عريقة مستمدة من المجتمع الطبيعي والثورة الزراعية- القرية الأولى في التاريخ، وكثقافة زردشتية كردستانية تميزت بها العائلة قبل ظهور الدولة وفي مرحلة ظهور الزردشتية كدين وفلسفة. هذه الثقافة جمعت بين المسيحي والمسلم السني والعلوي والايزيدي في نفس الخندق والمؤسسة والجيش والمجلس والتنظيم. هذه هي ثقافة الحرية والمجتمع الديمقراطي بدلاً من ثقافة العشيرة والقبيلة أو ثقافة الأغا والخادم، أو الأمير والخادم أو الأرستقراطي والكورمانج التي تبنتها الحركات التقليدية السابقة والتي انهزمت خمسين مرة دون أن تقدم نقدا ذاتياً.
عملية النقد والنقد الذاتي التي تعد أهم أسس الديمقراطية وتصحيح المسار والسعي نحو الأفضل ظهرت مع شخصية القائد آبو. لأنه بدأ من ذاته وانتقد نفسه وعائلته ومحيطه وناضل من أجل علاقات اجتماعية حرة وعائلة ديمقراطية بدلاً من العلاقات القائمة على الملكية والعبودية وانعدام الاحترام. وإحلال المحبة والصداقة والجيرة والتعاون كأخلاقيات اجتماعية كومونالية متجذرة في تاريخ البشرية.
بدلاً من الاستناد والاعتماد على الغير اعتمد القائد آبو على نفسه في مواجهة كل المصاعب وحولت الحركة هذه الخاصية إلى ثقافة حزبية في صفوف حركة الحرية كما انتشرت في المجتمع أيضاً. في يومنا الراهن يعتمد المجتمع الكردستاني على نفسه وقوته الذاتية إلى حد كبير ويستطيع إعطاء قرارسياسي مستقل لأنه بات يثق بنفسه بدلاً من ثقافة الاعتماد والتعاون مع القوى المهيمنة على حساب مصالح المجتمع أو مصالح جزء آخر من كردستان والتي اعتمدتها الأرستقراطية الكردستانية النخبوية كطراز وأسلوب في العمل السياسي.
اتباع أسلوب وطراز من الحياة يتخذ من الإدارة الحرة والهوية الاجتماعية والوطنية قاعدة له، لم يكن معتمداً قبل ظهور حركة الحرية بقيادة القائد آبو. ولكن مثل هذا الطراز من الحياة التي تأخذ المساواة بين الجنسين أساساً لها تحول في يومنا إلى ثقافة شعبية عصرية يفتخر بها الإنسان.
انضمام المرأة الكردستانية إلى النضال العسكري والسياسي واتخاذها مكانها على جميع المستويات بتنظيماتها الخاصة بها خلق فيها ثقافة ثورية لا مثيل لها في تاريخ الثورات السابقة. هذا هو ميراث الآلهة الأم «نينخورساك » في ميزوبوتاميا العليا «كردستان .»
وضع الفئة المثقفة:
جاهد القائد آبو مرارا وتكرارا من أجل تنظيم الفئات المثقفة في المجتمع الكردستاني وصب طاقاتهم في خدمة ثقافة الثورة الاجتماعية الديمقراطية. ولكن على الرغم من الجهود الحثيثة لم يتجرأ قسم من هذه الفئة على الانضمام إلى حركة الثورة بل هربوا من المسؤولية والنضال وكأنهم يهربون من وباء وفضلوا العيش بمفردهم تحت اسم الحرية الفرية! حتى إن بعضاً منهم تحول إلى أبواق للحرب الخاصة تحت اسم الفن أو الأدب أو الثقافة في المهجر. هذه الحالة عاشها المثقف الكردي في نهاية الحرب العالمية الثانية أثناء انهيار الإمبراطورية العثمانية حيث كانت هذه الفئة تعيش في اسطنبول ودمشق وبيروت ولم تتجرأ على الدخول بين صفوف المجتمع لكي تلعب دورها كمثقفين بل ارتبطوا بأنانيتهم النخبوية وفرديتهم الأرستقراطية وتركوا شعبهم يعاني من سياسة التنكيل والتهجير.
تمكنت بعض الشخصيات من لعب دورها إلى حد ما وبجهود شخصية مثل نوري ديرسمي وعثمان صبري وجكرخوين وجلادت بدرخان وشيركو بيكس ودلدار، ولكن الغالبية العظمى من هذه الفئة مازالت تعيش في المهجر وتغني وتبكي على جراح الآخرين ناسية جراح مجتمعها ووطنها.
ومازال بعضهم يعمل ليلاً نهاراً لكي يلصق تهمة الإرهاب بوحدات حماية الشعب والمرأة وبتنسيق مباشر مع وكالات الاستخبارت العالمية تحت حجة إننا مثقفون «مستقلون » ولنا الحق في عدم قبول أي شيء ولو كان مقدساً لدى أكثر من نصف المجتمع، كما يحق لنا المتاجرة بالقضية كما نتاجر بالأغنية والقصيدة الشعرية تحت اسم الثقافة. بالنسبة لموقف هؤلاء من القائد آبو بالذات وادعائهم بأنهم «مستقلون »، هناك تناقض صارخ حيث أنهم لا يستطيعون إخفاء وجههم الحقيقي مهما حاولوا ذلك لأن العداء للحركة الآبوجية وللقائد آبو بالذات مسألة مرتبطة بتحالف دولي مهيمن له مشاريع وأجندات معروفة ولا يمكن لأي مثقف أن يكون مستقلاً وهو يوجه فوهة بندقيته نحو حركة الحرية وقائدها، بل إن مثل هذا الإنسان ليس له علاقة لا بالثقافة ولا بالمثقفية، وهو يعمل لصالح جهة معينة ويعيش حياته الشخصية مقابل محاربة قيم الشعب الكردستاني ومقدساته وهو في خندق العدو حتى ولو كان فناناً أو أديباً بالتسمية فهو يتاجر بهذه الأمور لا أكثر.
أما بالنسبة للاستقلالية فهي أمر نسبي ولا يوجد أي شيء أو أي كائن مستقل بشكل تام عن الآخر «عن الكل والجزء » . لذا يجب ألا نقبل هذه الأكذوبة «أنا مستقل » لأنها غير منطقية لا علمياً ولا فلسفياً ولا…الخ. فالذي يسكن في هولير ويدق على طبول الغير بعد القيام عن مائدته غير مستقل بل هو ديماغوجي ومزيف وعديم الإرادة، لأنه يهاجم أقدس مقدسات هذا الشعب بتوجيه صاحب العرش مقابل دار ودولار وحياة شخصية هادئة. لقد تحول عنوان «المثقف المستقل »في أوروبا وروجآفا وباشور وباكور إلى شمسية لتغطية النشاطات المعادية للثورة والانحياز إلى البترودولار الكردي والعمل من أجل تأمين الدلائل والبراهين ضد YPG/YPJ بهدف لصق تهمة الإرهاب بهم في المحافل الأوروبية في الوقت الذي تحولت فيه وحدات الحماية إلى أسطورة عالمية ضد إرهاب داعش وأخواتها. هؤلاء الذين يدقون على هذا الوتر حاولوا تجميل وجه داعش عندما ارتكب المذابح في الموصل وشنكال حيث سموهم بثوار العشائر وثوار سوريا بينما اتهموا وحدات الحماية بالإرهاب. هذا هو وضع «المثقف المستقل » في كردستان وأكثريتهم يعيشون في المهجر ويهربون من الوطنية والوطن والمجتمع وينتظرون الأوامر من القوى المعادية لطموحات المجتمع الكردستاني. هل هذه استقلالية أم تبعية حتى النخاع؟ إنها عداء سافر لكلمة المثقف والثقافة. هؤلاء يدعون أنهم أحرار ومناهضون للديكتاتورية ولكنهم في خندق فرعون ضد موسى وفي خندق الداعشية السياسية ضد وحدات الحماية وفي خندق الإسلام السياسي التركي والعربي ضد طموحات الشعوب بما فيها الشعوب الكردستانية. إنهم يقولون نحن لا نتدخل في السياسة ولكنهم تخندقوا في جبهة السياسة الأرستقراطية الكردية النخبوية ضد حركة الحرية وقيادتها. وهم يناقضون أنفسهم، حيث يقولون إن الثقافة غير مرتبطة بالسياسة، ولكنهم يمارسون السياسة تحت سقف الثقافة بامتياز. مع العلم أنهم يعرفون جيداً بأنه لا توجد ثقافة مستقلة لا تخدم سياسة معينة حتى على سطح المريخ. ولكنهم يحاولون إقناع الآخرين بهذا التحريف وهم أصلاً غير مقتنعين بذلك لأن البعض منهم يقبض راتبه كل شهر بالإضافة للإكراميات من الملك وصاحب الجلالة والسلالة.
بقي أن نقول إن الثقافة منحازة وغير مستقلة، منحازة إلى الحقيقة والمجتمع والحرية والمقاومة والإرادة الحرة مع نوع من الاستقلالية النسبية. لذلك فإن الفنان والأديب والشاعر والكاتب منحاز بكل معنى الكلمة. منحاز إلى مصالح المجتمع إلى الحقيقة إلى المقاومة إلى الوطنية الصادقة إلى العدالة إلى الحرية إلى الإنسانية إلى السياسة الصحيحة وبالتالي إلى الثورة وليس الثورة المضادة مع نوع من الاستقلال النسبي.[1]