مزكين غورسيه
م يتوقّع “داوود” وشقيقاته الأربع، أن تُباع عقاراتهم أمام أعينهم في يومٍ من الأيام، وتتشتت عوائلهم في دروب النزوح والتهجير القسري، بعيداً عن مسقط رأسهم، يتذكّر الشاب المقيم حاليا في مدينة حلب، ما حلَّ به وبأخواته في عفرين التي غزاها الجيش التركي والفصائل السورية الموالية له في ال 18-03-2018.
يصف الشاب الكُردي كيف استولت عناصر من فصيل الحمزات على بناءٍ مؤلّفٍ من أربعة طوابق تعود ملكيته لعائلته، وبيع الشقق السكنية بأسعارٍ زهيدة بعد فترةٍ وجيزة من سيطرتهم على حي الأشرفية بمدينة عفرين، ناهيك عمّا تعرّضت له العائلة من سجنٍ وتنكيل، الأمر الذي اضطرّهم في نهاية المطاف للخروج من ديارهم مُكرَهين.
يقول ل (شار): «بعد ستة أشهر من الاحتلال، بات العيش لا يطاق، وكأنك تعيش في الجحيم، الخوف القتل والسلب هي السمة الأبرز».
ويرى “داوود” أن ما مورِس بحقهم من انتهاكات، ترقى لجرائم حرب وفق القانون الدولي، وهي ناتجة عن سياسةٍ تركية ممنهجة لتفريغ عفرين من سكانها الأصليين، يُضيف: «كلما تعرّضنا لانتهاكات على يد عناصر الفصائل، كان مُسلّحو الحمزات يقولون لنا (أنتم الكرد، ليس لكم مكانٌ في عفرين)».
أساليب عدة للتغيير الديموغرافي
ما تعرّضت له عائلة “داوود”، هو فصل يومي من الانتهاكات التي تعرّض لها أبناء عفرين بعد الاحتلال، والتي وثقتها العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، لكن بعد نحو ثلاث سنوات من سيطرة الدولة التركية على عفرين، يرى ناشطون وسياسيون كُرد، أن حجم الانتهاكات الكبير والمستمر في المدينة، «يهدف إلى تثبيت التغيير الديموغرافي الذي رافق الغزو العسكري التركي، وتهجير نحو 350 ألف مدني».
فالرئيس التركي “رجب طيب أدوغان” صرّح قبل بدء الغزو التركي، أن عفرين مدينة عربية تركمانية وليست كردية، وأن نسبة الكرد فيها لا تتعدَّ 35%، هذه التصريحات كانت سباقة للهدف التركي من غزو المدينة واحتلالها.
ووفق عدة منظمات وناشطين حقوقيين، باتت اليوم نسبة الكُرد في عفرين لا تتجاوز 20%، بعد أن كانت المدينة كُرديّة الطابع بشكلٍ شبه كامل، ويندر وجود العرب أو التركمان فيها.
اليوم دخل التغيير الديموغرافي طورا أكثر وضوحا، بدءاً من تغيير أسماء القرى والبلدات والساحات العامة، مروراً بإدراج اللغة التركية كمادة أساسية في المدارس، وصولاً لدعم وتشجيع استيطان المسلحين وعوائلهم من المكونين العربي والتركماني، وإقامة مجمّعات سكنية وقرى كاملة، بهدف توطين العرب والتركمان الوافدين إلى المدينة.
«التغيير الديموغرافي في عفرين، يسير على قدمٍ وساق، بعد أن نجح الاحتلال التركي والفصائل الموالية له، في إجبار نحو مئة ألف نسمة من سكانها على النزوح، بسبب ما تعرضوا له من انتهاكات، فضلاً عن تهجير أكثر من 300 ألف آخرين بفعل العملية العسكرية»، يؤكّد “إبراهيم شيخو” الناطق الرسمي باسم منظمة حقوق الإنسان في عفرين.
دعمٌ خليجي
وصل عدد الوافدين والمستوطنين في عفرين إلى 450 ألف نسمة من ضمنهم 500 عائلة فلسطينية جيئ بها من أرياف حمص، وفق إحصاءاتٍ غير رسمية.
وتتوزّع هذه العوائل التي قَدِمت إلى عفرين، بتشجيعٍ من تركيا والفصائل المسلحة، في مركز المدينة والقرى والبلدات التابعة لها، والغالبية العظمى تقيم داخل مساكن أبنائها الذين هُجِّروا منها.
فيما يقطن البعض الآخر، في مخيماتٍ عشوائية شيّدتها منظماتٌ تركيّة وأخرى مرتبطة بتنظيم الإخوان المسلمين بمدينة عفرين، ونواحي جنديرس، شيخ الحديد وراجو.
فبدعمٍ ماليٍ قَطَريٍ وكويتي، شيَّدت تركيا بلدات وقرى في مواقع عدة ضمن المدينة، هذا المشروع التركي لإقامة المدن والقرى بحجة إيواء النازحين السوريين، ليس محصوراً في منطقة عفرين فحسب؛ بل سبق أن أُنشِئت مدنٌ أخرى بدعمٍ ألماني وأوروبي في إدلب وإعزاز والباب، إلا أن ما يحدث في عفرين، يُعدُّ أكثر خطورة.
يؤكّد “شيخو” أن القرى التي تُشرف تركيا على تشييدها، وبالتحديد في الشريط الحدودي، ستُمنَح غالبيتها للعوائل التركمانية التي تحمل الجنسية التركية والسورية معاً.
ويرى “شيخو” أن هذه القرى التي وصفها ب «المستوطنات» تُشكّل خطورة على مستقبل سوريا عامة وليست على عفرين فقط، فهذه الممارسات الاستيطانية تُهدّد وحدة الأراضي السورية، عبر تهيئة الظروف لضمِّ الشمال السوري، وعفرين على وجه الخصوص، للأراضي التركيّة، كما حدث في لواء إسكندرون. «فإنشاء حزامٍ تركماني على طول الحدود مع سوريا، هو ما تهدف إليه تركيا» وفقاً ل “شيخو”.
مشاريع قيد التنفيذ
بدأت المنظمات المموّلة من قطر والكويت، بتنفيذ سبعة مشاريع ينظر إليها أبناء عفرين على أنها «استيطانية»، ففي “مريمين” شرق مدينة عفرين، شُيّدت قرية سُميت ب «القرية الشامية»، وفي “بافلون” ذات الغالبية الإيزيدية، وُطِّنَ نحو 70 عائلة من ريف حلب والغوطة، مع تقديم الدعم المادي لها، وبناء مسجد في القرية التي لم يقطنها أي مسلم في السابق.
كما شُيِّدت ثلاثة مجمعاتٍ استيطانية في ناحية “شيخ الحديد”، وبالتحديد بقرى (أرندة- سهل قرية سنارة- سهل شاديا) أي على طول الخط الحدودي، وصولاً إلى ناحية راجو، إلى جانب بناء مجمعاتٍ سكنية في كل من (أفرازة وحج حسنة) بعد تجريف أشجار الزيتون، أما في قرية “باصلحايا” جنوب عفرين، فبُنيَّ مجمعٌ سكني آخر هناك.
«أعداد الوافدين الغرباء إلى المنطقة، بات لا يُصدّق، فكل حارة من حارات بلدة “شيه”، لم يبقَ فيها إلا عائلة كردية، والباقي تعرض للتغيير الديموغرافي»، يقول “محمد حسن” /اسمٌ مستعار/ من سكان إحدى قرى ناحية شيخ الحديد/شيه.
ويتابع خلال حديثه ل (شار): «فصيل العمشات، يمارس سياسة عنصرية في ناحية “شيه”، بهدف تثبيت التغيير الديموغرافي»، مؤكّداً صحة التقارير التي تحدّثت عن بناء مجمعات سكنية في ناحية “شيه”، «وهي مخصصة لعوائل المسلحين وبعض التركمان»، بحسب قوله.
ممارساتٌ عنصرية
ليس ببعيدٍ عن ناحية شيخ الحديد، شيّدت الدولة التركية عدة مخيمات على تخوم الحدود التركية السورية (بلبل- قرية سوركة بناحية راجو- قرية المحمدية ودير بلوط) التي استوطنت فيها نحو 600 عائلة، أتت من جنوب دمشق بينهم 325 عائلة فلسطينية ضمن صفقةٍ روسيّة تركيّة.
ووفقاً لذلك، بلغ نسبة الفلسطينيين في شمالي سوريا بحسب مركز التوثيق المدنيّ للاجئين الفلسطينيين نحو 7500 فلسطيني وُطِّنوا خلال العام المنصرم، بعد أن جُلِبوا من درعا، حمص، حلب ومخيم اليرموك بدمشق.
وفي قرى “شيراوا”، وتحديداً في (دير مشمش وخالتا)، شُيِّدت قرية حملت اسم قرية (كويت الرحمة) بالتعاون مع جماعات الإخوان الكويتية، كما أُنشِئت مجمعاتٌ سكنية في ميدان “إكبس” أقصى الشمال الغربي وفي شمال غربي جنديرس وحي الأشرفية بمركز عفرين.
لا ردود
حاولت (شار) التواصل مع مسؤولين في الجيش الوطني الموالي لتركيا والمجلس المحلي في عفرين، لاستبيان رأيهم حول ما يجري من عمليات تهجير وتوطين، إلا أن البعض منهم اعتذر عن الرد، فيما رفض “يوسف الحمدو” الناطق الرسمي باسم الجيش الوطني السوري، التعليق على الموضوع، بحجّة ضحالة المعلومات لديه، وضرورة مراجعة الإدارة.
وحمّلت منظماتٌ دولية، مثل لجنة تقصّي الحقائق ومنظمة (هيومن رايتس ووتش) في تقارير سابقة، الجيش الوطني السوري المسؤولية عن جملة من الانتهاكات التي وُثِّقت في عفرين، في الوقت ذاته، تغاضت المنظمات ذاتها عن المسؤولية التركية المباشرة عما يحدث من انتهاكاتٍ بحق سكان المدينة الأصليين.
مشروع استيطاني في ريف عفرين/ ناحية شيه، الفيديو من صفحة الشركة المنفذة للمشروع
تحميل المسؤولية
يطالب “شيخو” المنظمات الدولية بضرورة إصدار قرارات ملزمة لتركيا لوقف انتهاكاتها بحق الكُرد في عفرين. مؤكّداً أنهم وثقوا حتى الآن 2000 حالة انتهاك، رُفِعت جميعها بشكلٍ دوري لمنظماتٍ دولية، من ضمنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
ويتابع «لم يُصدَر حتى الآن أيُّ اتهامٍ صريح عن مسؤولية تركيا عما يحدث في عفرين، إلا أنه من الواجب إلزامها على وقف الانتهاكات».
وتعمل نحو 50 منظمة محلية وتركية في عفرين، غالبيتها مدعومة من جماعات الإخوان المسلمين وتركيا وبعض الدول الأوروبية، تساهم جميعها في تعزيز الاستيطان في المدينة على حساب أهالي المنطقة الأصلاء الذين غالباً ما لا يتلقون أيّة مساعدة أو معونات في أماكن نزوحهم خارج عفرين.
اللغة الكردية في خطر
تعمل تركيا على فرض لغتها وعُملَتِها في عفرين وباقي الشمال السوري، وتستهدف بذلك، الأجيال الشابة بهدف خلق نوعٍ من الارتباط بينها وبين اللغة التركية والدين الإسلامي المعتمد وفق النهج الإخواني.
“فلك” اسمٌ مستعار لفتاةٍ في العقد الثاني من عمرها، لم تكن تعرف أي شيء عن اللغة التركية قبل 2018، إلا أنها اليوم باتت تتقنها بشكلٍ جيد، كتابة وقراءة، تقول: «اللغة التركية والديانة الإسلامية، موادٌ مُرسّبة في كافة المراحل التدريسية، لذا نجهد في تعلُّمِها».
وتتطرق “فلك” خلال حديثها ل (شار) إلى الضغوط الممارسة على الطلاب الكُرد ضمن المدارس، من بينها منعهم من الحديث بلغتهم الأم.
تقول: «صرنا على وشك نسيان لغتنا، جيراننا باتوا عرباً أو تركماناً، آباؤنا يخشون التحدّث بالكردية على العلن، ستزول لغتنا إن استمر الحال هكذا».[1]