حسين جمو
أزمنة نداءات الدماء والصور السوداء التي لم تفارق مخيلتهم قبل مئات السنوات , عندما كانوا يعلقون على الخوازيق ويرمى بهم للجوارح والضباع. كانوا سعداء بوحدتهم وجبالهم التي زرعوها بالأطفال والجوع والقسوة.
هذا المشهد التاريخي التراجيدي شكل الخلفية التاريخية التي سردت الروائية السورية سمر يزبك أحداث روايتها صلصال التي تقع في 242 صفحة , الصادرة عن دار الكنوز الأدبية عام 2005, تدخل الكاتبة عبر قصة حب إلى نبش علاقة المجتمع بالسلطة القاهرة عبر التاريخ , منذ أيام الحجاج وحتى يومنا رغم أن من كان يحرقهم الحجاج أصبحوا اليوم في موقعه.
حيدر علي , بطل الرواية الذي لم يحقق أي بطولات كالتي يتطلع إليها الطامحون , يعيش صراعاً عنيفاً بين ما يريده من قيم الفارس النبيل وهو سليل العائلة الإقطاعية المرهوبة الجانب , وبين ما يقدمه له الواقع من مجد لا يمكن بناؤه إلى على جثة أحلام الفارس المشبع بالظلم , وهنا تدور الوقائع النفسية, فما الذي يجعل حيد علي يشعر بالظلم رغم نفوذ عائلته الطاغي على المنطقة ؟ إنه تاريخ الطائفة التي تضج بالدماء المراقة . ورغبة حيدر بقطع صلة المجتمع مع الظلم عبر حكم الأخيار ومحبي السلام للبلاد التي آلت حكمها لأبناء جلدته , وهو التاريخ الذي يتقاطع مع تسلم العلويين حكم البلاد عام 1970 , وارتقاء أبناء الطائفة والحزب لمناصب الدولة , ورسمهم لخط هجرة ما زالت مستمرة حتى اليوم على شكل نزيف يتقطر من الريف إلى المدن التي ليست من تاريخهم في شيء.
هذه التناقضات دفعت حيدر يهجر دمشق , كان حيدر قد عاد بعد غياب طويل , تزوج وأنجب بنتاً كالقمر , وصار ضابطاً كبيراً في الجيش. عاد فجأة , وحيداً , بلا قبعة عسكرية. لكن موت حيدر علي لم يكن صاخباً كمولده ,ونجحت الرواية في رسم تأثير الأحداث السياسية في المنطقة بقوة على تلك القرية التي لم يكن نساؤها يعرفن كيف هو البحر. عندما أفاق الناس على صياح محيمود وهو يلطم وجهه ويلوب في دروب القرية , كان العالم مشغولاً بأخبار سقوط بغداد على أيدي القوات الأميركية ... لذلك ظلوا متحلقين حول شاشات التلفزيون.
علي حسن , الذي يعبر أكثر عن شخصية القروي البائس الذي وجد فرصته في الحياة , ويعيش هاجس الخوف من عودة التاريخ إلى سابق عهده فيحتمي بالظلم , وتأتي خيانة زوجة حيدر سحر النصور مع علي حسن لتعيد الأحداث مرة أخرى إلى القرية المعزولة , ورهام ابنة حيدر علي و سحر النصور تعيش مأساتها العاطفية مع فادي ابن علي حسن , فخيانة سحر النصور لزوجها في البداية مع علي حسن دفعت رهام الثمن الأكبر بعد شكوك حول والدها الحقيقي. وتعثر رهام على قصاصات كتبها والدها الميت , علها تعثر على إجابات شافية لشكوك تأكلها.
دلا , الفتاة البسيطة , ابنة الخوف , كانت تحفظ الأغاني القديمة عن ارتحالات ودماء أجدادها , وترث في روحها لوثة الأسى. كانت سليلة الهروب واللوعة . قضت طفولتها مع حيدر في الأحراش , لتكتشف فيما بعد أن حيدر هو ابن سيدها ابراهيم بك , لتقضي بقية حياتها مع زوجها في خدمة حيدر الفارس العائد من دمشق كقروي لفظته المدينة بعيداً بأحلامه. وترسم هذه الشخصية مشكلة المرأة حتى في مجتمع يعيش بعيداً عن التراتبيات الاجتماعية المعروفة , شخصية دلاً توحي بقسوة انه حتى في أكثر الأماكن البائسة تكون المرأة أكثر بؤساً.
تحاول الرواية فض عذرية الحياة اليومية لمجتمع قروي في الجبال , وفيها الكثير من القصص المتداخلة مع الأحداث الرئيسية , مثل قصة عبد الله ,وأستاذ التاريخ . النقطة الأهم في الرواية هي الطريقة التي عالجت بها تجليات حيدر علي الذي يشم رائحة شواء لحمه بعد أن أحرقه الحجاج , في متوالية تاريخية أشبه بالدائرة تكشف عن علاقة المجتمع الذي يبدو في تجليات حيدر من خلال رائحة الشواء والنار والتنور وغير ذلك , والسلطة التي تجسدها شخصية الحجاج قديماً وحديثاً , ألم يكن الحسن البصري من قال : ما سمعت الحجاج يخطب إلا ظننت أن أهل العراق يظلمونه .وأنت منذ الأزل كنت وستبقى ,وتمتد أبعد من حدود الشام , وستقف شامخاً بسجونك , وفقرائك وعسسك. وكأن الكاتبة تريد القول أن تاريخ الظلم هو تاريخ السلطة ذاتها وليس فقط تاريخ حاكم ظالم , هذه التجليات التي كشفتها الرواية أكثر من خلال رسائل حيدر علي التي كانت تقرؤها رهام , دخلت أكثر فأكثر إلى عمق العقيدة , والتي كانت إحداها قصيدة للأمير العلوي مكزون السنجاري ورسالة أخرى منقولة عن الخصيبي أحد أشهر العلماء لدى الطائفة العلوية . المستور في الرواية أنها تناقش عمق المعتقدات التي يؤمن بها العلويون , وهي الحلول والتجايل (من الجيل) , أي انتقال الأرواح بعد مفارقتها لجسد الميت إلى جسد آخر , وهي معالجة فريدة للتجليات التي كان سيعالجها أي روائي آخر بعيد عن الحياة الروحية لهذا المجتمع بأنها هلوسات ومشكلات نفسية. وهنا يأتي نجاح الرواية بأن وازنت بين البيئة الاجتماعية وعلاقتها بمحيطها من المدن والبيئة الروحية وعلاقتها بظواهر غير ملموسة. الخرق الذي سجلته الرواية من هذا الجانب أنها أعطت الطابع المأساوي للتجيّل , بينما المعروف أن من يعيش تعيساً في جيل يكون سعيداً في آخر . ..إلخ , والعدالة الإلهية تتحقق بهذا الشكل. وبالتالي يصح القول أن الاحتجاج على بعض المعتقدات لدى المجتمع لا تتم بطريقة الإنكار كما هو متبع لدى الكثيرين , بل عن طريق تحميلها ما يفوق طاقتها على التفسير , وهذا هو السؤال الذي تركته الرواية.
يمكن تسجيل مأخذ على الروية بتجميدها غير المبرر لرهام ابنة حيدر العلي , التي تبقى في حالة إغماء وصحو ثقيلة مدة لا بأس بها من الزمن الواقعي , الناس يصيحون في الخارج ثم يتوافدون ويواجهون مشكلة في دخول القصر الذي فيه جثة حيدر , وطيلة هذا الزمن الطويل روائياً تكون رهام بعيدة عن الأحداث بسبب صدمتها لوفاة والدها المفاجئ.
الرواية هي توثيق للتاريخ الاجتماعي لبيئة تسكنها طائفة , والتمزق الذي يعيشه هذا المجتمع حالياً كغيره من المجتمعات بين من هاجر من أبنائها إلى المدن ولم يعودوا متأقلمين مع القرية المتغيرة أيضاً والتاريخ الذي تختزنه هذه القرية. يقول حيدر العلي مخاطباً دلاّ بعد أن عاد من دمشق : أسوأ شيء , دلاّ , أن الحرش اختفى من الضيعة.[1]