حسين جمو
تشهد الساحة السياسية التركية جملة من التغيرات سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي , فمنذ استلام حزب العدالة و التنمية(akp) للحكم في خريف 2002و الحديث عن نقلة نوعية في السياسة الخارجية و الداخلية ما زال مستمراً .
ولأول مرة تشهد تركيا هذا الانفتاح على الشرق الأوسط , و بما أن الوضع العراقي برمته تنظر إليها تركيا كمشكلة بحد ذاتها , فمن الطبيعي أن تشهد العلاقات التركية –السورية تحسناً على صعيد التعاون الأمني أولاً , وذلك بدءاً من اتفاقية أضنة عام 1998 وما استتبع ذلك من تحسن في المجالات الأخرى و التي تفرضها ضرورة تخفيف الصبغة الأمنية على هذه العلاقات . هذا التحول حدث في العلاقات مع إيران أيضاً , وكل ذلك من مبدأ جديد في السياسة الخارجية التركية و التي تقوم على تصفير (من الصفر) المشكلات مع دول الجوار الجغرافي لتركيا , وهذا سيخرج تركيا من كونها بلداً طرفاً له مشكلات متواصلة مع جيرانه لأن تركيا يجب أن تُعرف في المرحلة الجديدة على أنها بلد مركز حسبما يرى أحمد داوود أوغلو مستشار رئيس الحكومة التركية .
لكن الشرق الأوسط منطقة غير مضمونة سياسياً , و يمكن إقامة العلاقة معها كورقة ضغط بديلة عن الساحة الأوروبية في حال تعثر مساعي تركيا للانضمام إلى التحاد الأوروبي , أما إقامة علاقة استراتيجية قائمة على خطط بعيدة المدى كما يطرحا أوغلو و السياسيون الجدد في أنقرة هي مخاطرة بحد ذاتها , فالعلاقة مع سوريا قائمة أساساً على النظرة الإيديولوجية المشتركة للقضية الكردية , و بالتالي لا يمكن لنقطة التقاء أيديولوجية أن تولد علاقة استراتيجية .فتصفير المشكلات مع دول الجوار لا تعني سوى المواجهة المشتركة لهذه الدول (تركيا - سوريا – إيران ) لما يعتبرونه بالخطر الكردي على الأمن القومي لهذه الدول و المستندة على الأيديولوجيا الأحادية في الداخل و الإلغائية للأكراد .
وهناك مثال قريب حول عدم ملاءمة الشرق الأوسط لهذه السياسة التركية . ففي 3 أيار 2005قام رئيس الحكومة أردوغان بزيارة إلى إسرائيل للقيام بجهود وساطة بين الإسرائيليين و الفلسطينيين , إلا أن هذه الجهود فشلت بشكل مزدوج : حيث رفض الإسرائيليون الوساطة التركية , و احتج موردخاي كيداف و هو أستاذ في جامعة بارايلان بأنه لا يعرف لماذا يحتاج الفلسطينيون إلى وسطاء مثل الأتراك ليتفاوضوا معنا , ومن ناحية أخرى شن الإعلام العربي و الإسلامي حرباً على هذه الزيارة , ونددت أحزاب و مؤسسات سياسية و ثقافية بالزيارة تلك , مما دفع ايجه أوغلو النائب عن حزب العدالة و التنمية في البرلمان إلى الاستغراب في لقائه مع قناة الجزيرة بأن الإعلام في العلم الإسلامي يتحدث كثيراً عن زيارة أردوغان إلى إسرائيل , لكنهم لا يتحدثون مثلاً عن زيارة أردوغان إلى الفلبين !
و بالتالي فإن جهود ثلاث سنوات من تصفير المشكلات قد انهارت خلال زيارة واحدة إلى تل أبيب , ذلك أن هناك احتياطي سيكولوجي في المنطقة لا يمكن أن يتقبل الأتراك بسهولة , بالإضافة إلى ما يعنيه ذلك من زيادة رصيد تركيا لمشكلاتها مع دول أخرى خاصة الولايات المتحدة نتيجة هذا التصفير , حيث أن لتركيا رصيد ثابت من المشكلات . وهذا يعني أن تصفيرها من جهة يعني تفاقمها من جهة أخرى , وهذه المعادلة تصبح غير قابلة للشك عندما نعرف أن نشاط السياسة الخارجية لا تحركها دينامكية الوضع الداخلي , بل يمكن اعتبارها طريقة تتبعها النخبة الجديدة في تركيا و الرافضة حتى الآن للحل الديمقراطي للقضية الكردية لمواجهة الدينامكية تلك و التي تضغط باتجاه الحل الديمقراطي .
على أية حال , فإن هذا المبدأ نفسه لم تتبعه تركيا مع العراق , فالأكراد أصبحوا هناك جزءاً دستورياً من الدولة العراقية عبر إقرار الفيدرالية لكردستان , و مع ذلك لم يتم أبداً تصفير المشكلات معهم . ويمكننا القول أن كل هذه السياسات متأثرة بدرجة أو أخرى بتوجهات الإعلام التركي , فلا نكاد نجد صحيفة تركية إلا و تتحدث بصراحة عن نية أميركا و الغرب لشن حرب صليبية على تركيا , و أخرى تتحدث عن مؤامرة أميركية لتقسيم تركيا في حال نجحت في تقسيم العراق . هذا الطرح الإعلامي خلقت موجة عداء شعبية سريعة ضد أميركا مما دفع في نهاية الأمر السفير الأميركي لدى تركيا إريك إدلمان إلى الاستقالة و هو الذي كان يعرف عنه بأنه صديق لتركيا .و نستطيع أن نتحدث عن إرباك سياسي أحدثه الإعلام للسياسة الخارجية , وهذا الإرباك يتجسد في كون الإعلام هو المحرض الأول و الداعم الرئيسي للسياسة التركية الحالية رغم التنوع الموجود فيها , و هذا الإرباك يتوضح من أن التوجهات الجديدة غير قادرة على طرح أي حل لمشكلات تركي بل أصبحت بمثابة مشكلة لكل حل على صعيد حل القضية الكردية , بالإضافة إلى تطوير العلاقات مع أنظمة دول تشهد تغييرات و تهديدات كبيرة .
تستطيع تركيا الحفاظ على مصالحها في وجه التدخل الأميركي في المنطقة عبر طرح برنامجها الديمقراطي على الصعيدين الداخلي و الإقليمي , فأكثر التدخلات الأميركية وحشية في العالم تستند على الأقل على طرح ديمقراطي , بينما نجد أن أكثر التدخلات التركية في المنطقة و خاصة في شمال العراق تعيق أي طرح ديمقراطي حقوقي . و بالتالي فإن التدخل الأميركي و النجاح الأميركي في المنطقة يأخذ شرعيته من أخطاء دول المنطقة و في مقدمتها تركيا وعدم رغبتها في القيام بالتحول الديمقراطي الشامل للجمهورية التركية في الداخل رغم توفر الظروف الذاتية و الموضوعية مما يجعلها أيضاً الوقوف في وجه العمليات الديمقراطية خارج حدودها أيضاً .
وهذا الافتقار إلى التوازن بين تطورات سياسة البلاد الداخلية و الخارجية ي}دي إلى فقدان الاستقرار السياسي الطويل الأمد , لأن ضرورات التغيير الداخلي هو إفراز جانبي للتغيرات الدولية .وسيؤدي إعاقة تركيا للحل الديمقراطي التي تطرحها القوى السياسية الكردية و التركية الليبرالية إلى أن تصبح في النهاية ضحية التغيرات الدولية مستقبلاً . و لا يعني كل ما ذكرناه أن تركيا دولة ليست ديمقراطية , و فالمؤسسات التركية السياسية و العسكرية و الاقتصادية تنتخب و تعين بإجراءات ديمقراطية أو دستورية شفافة , لكن هذه المؤسسات ذاتها تفتقر إلى البرنامج الديمقراطي الخاص بتوسيع المشاركة السياسية للشعب بما يضمن انتخاب الأكراد للمثليهم في البرلمان و و الدخول في ائتلافات حكومية و ضمان الحقوق الثقافية للأكراد .
و يعتبر هاينتس كرامر في كتابه ( تركيا المتغيرة ) بأن القوة الداخلية الأكبر و الأعظم هي الشرط الأهم لأية سياسة خارجية و أمنية ناجحة .و اعتبار اسماعيل جيم وزير الخارجية التركي السابق بأن تركيا تضطر دوماً لتقديم التنازلات كلما اتجهت نحو الغرب على عكس دول أوروبا الوسطى و روسيا ناتج من عدم تحقيق المعادلة السابقة . بالإمكان تجاوز هذا المأزق بتعديل مفهوم الدولة – الأمة التركية و التي لا تتطابق مع الحدود الجغرافية و العرقية للدولة التركية و إشراك الأكراد في إدارة الدولة كما اشتركوا في حرب تحرير تركيا ,ومنع الآخرين بذلك من استغلال هذه القضية للحصول على تنازلات من الطرفين , و أخطرها بطبيعة الحال هو تنازل كل طرف ( الكردي و التركي ) عن الروابط الجامعة فيما بينهم . فالغرب يمارس هنا لعبة شديدة التعقيد على المعنيين بالمشكلة فهو من جهة يحصل على تنازلات من تركيا مقابل غض الطرف عن الحقوق الكردية و كان آخرها قبرص , ومن جهة أخرى تعلن وقوفها إلى جانب الأكراد بطابع حقوق الإنسان ليستمروا في التمرد و إعاقة تركيا نحو التحديث الديمقراطي و بالتالي فقد الطرفان الثقة ببعضهما البعض , وهذه هي المصيدة الأوروبية لكل من الأكراد و الأتراك , لذا فإن استغلال جميع فرص الحل الممكنة عبر الطرح الداخلي تعني الضربة القاضية للبنية التحتية و الذهنية للمشكلة التي تم خلقها .و لعل جزءاً كبيرا من عملية تدويل المشكلة هو الناتج المباشر لموقف أنقرة القمعي منها . فالعديد من الأكراد الذين يحاولون لفت أنظار الجمهور الأوروبي إلى القضية الكردية يفعلون ذلك لأن السلطات التركية أجبرتهم على الفرار من البلاد هرباً من الملاحقة و الاضطهاد . وهذه الممارسات أدت إلى فقدان تركيا لسيادتها من الخارج . و الحل عبر إعادة هيكلة المؤسسات الديمقراطية سيؤدي إلى زيادة فرص تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي . وسبل الحل الديمقراطي لاتطرح الانفصال لأن الانفصال لم يعد الأولوية من بين الخيارات الديمقراطية.
و قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في 12 أيار بعدم عدالة حكم المحكمة التركية لأوجلان عام 1999يجب أن ينظر لها كورقة لصالح تركيا عبر تحليل المصيدة التي ذكرناها , فما معنى أن يقوم الأوروبيون بتسليم أوجلان لتركيا و الآن يقومون بمحاسبتها ؟
إن أي فشل في الالتزام بالقرار سيعرض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي للخطر قبل شهور فقط من بدء أنقرة محادثات الانضمام مع مجموعة الدول ال25 . لذا فإن أفضل طريقة لتخطي الفخ الأوروبي هو الاستجابة للقرار و عدم التنازل في مكان آخر . لكن حكومة ( akp) تحاول استغلال رفض القرار لتخفيف الضغط الداخلي عليها , حيث رفض قرار المحكمة أعادت توحيد جميع القوى المعارضة مع الحكومة بما فيها المؤسسة العسكرية .
في ظل هذه السياسة الداخلية و الخارجية لا يمكن أن يجد السلام و الديمقراطية فرصتها و خاصة في الوقت الذي يشن فيه الجيش التركي حملاته العسكرية في منطقة كردستان ضد قوات حماية الشعب . وهذه الإجراءات تزيد من تعقيد الحل و يفقد تركيا دعماً كبيراً في الخارج , و خاصة في البرلمان الأوروبي , فنواب الكتل اليسارية لا يمكن أن يؤيدوا انضمام تركيا في ظل الخروقات التي تقوم بها للقضية الكردية و حقوق الإنسان و عدم التزامها بمبدأ المشروطية السياسية وفقاً لمعايير كوبنهاغن . و نواب الكتل اليسارية هؤلاء , و على عكس نواب الكتل اليمينية ,لا يرون في الجذور التاريخية و الإسلامية لتركيا عائقاً, لذا لا بد من كسبهم في الوقت الذي تتزايد فيه شعبية اليمين في أوروبا .
إن تخلي تركيا تركيا عن سياستها الحالية وهو عدم قبولها لأي خطوة باتجاه الحل الديمقراطي للقضية الكردية إلا عندما تكون مرغمة من الخارج – وهو ما نقصده بفقد تركيا لسيادتها – سيخلق الثقة المفقودة بين مؤسسات الدولة و مواطني تركيا و هي أهم شرط لتحقيق الديمقراطية ضمن تركيا .
لقد أدرك أتاتورك استحالة خوض حرب التحرير بدون الأكراد , فكان تحالف أنقرة مع دياربكر هو الذي استعاد استانبول . و اليوم على النخب السياسية التركية أخذ القناعة ذاتها بأنه دون تحالف أنقرة مع ديار بكر لا يمكن الوصول إلى بروكسل . فالداخل هو منصة الإنطلاق إلى الخارج . فكم كان من مصلحة تركيا لو أن أردوغان قد زار ديار بكر بدلاً من تل أبيب .[1]