فريق التحرير
ألقت الحرب الدائرة في سوريا بظلالها على البنية المشكلة لقوام ما اصطلح عليه «الشعب السوري» وعبثت بمكوناته، وتنامى الصراع الطائفي في بعض المناطق، وكذلك اشتعلت حرب ضارية بين وحدات حماية الشعب YPG وداعش في مناطق الكرد. على أي السيناريوهات ينفتح المشهد السوري حسب رأيك؟ وهل ما يجري في سوريا هي حرب أهلية، أم هنالك تسمية أخرى تراها مناسبة أكثر؟
منذ بدء الانتفاضة السورية ربيع 2011، انقسمت سوريا إلى: سوريا النظام/الأسد، سوريا الثورة والمعارضة، سوريا الثالثة. وازداد التباعد بين هذه السوريّات مع تنامي العنف وسيلان الدماء. بينما كانت الأهداف الأولى للانتفاضة وشعاراتها تدور حول «شعب سوري واحد» ينشد الكرامة والحرية والحقوق الأساسيّة، عن طريق «إسقاط النظام»، تحوّلت اليوم سوريا كلّها حلبة لصراعات دامية، وساحة دمار وعنف وميليشيات متكاثرة، وفقر شديد وفوضى ضاربة.
المكوّنات الاجتماعيّة السوريّة تتعرض لعملية تسييس بليغة. وهذا التسييس سوف يفعل فعله في مرحلة ما بعد «النظام» الحالي أيضاً، إذ سيكون للبعد الاجتماعي- الأهلي دوراً كبيراً في الحقل السياسي والمجال العام وربما بصورة مشروعة إن لم تكن شبه مشروعة.
كان الطغيان والاستبداد يوحدنا ك «شعب واحد خلف القيادة الحكيمة». وبعدما اهتز بنيان الطغيان والاستبداد، صار مباحاً الكلام عن الطوائف والإثنيات والأكثرية والأقليات.
من المبكر إعطاء إجابة قاطعة في شأن المستقبل، سيما وأننا لا نعلم متى تتوقف هذه الحرب وبأية صيغة ستتوقف. لكن «الشعب السوري»حتى وإن بقي «واحداً» لن يكون بالصورة السابقة للانتفاضة. أيّاً تكن مآلات الصراع السوري لن يعود «الشعب السوري» موحّداً كما كان متصوّراً من قبل، حين كانت الآلة القمعية الجبارة ونظام الدولة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي يوحّدان «الشعب السوري الواحد». نحن أمام انهيار تدريجي بطيئ للناظم السياسي والاجتماعي الذي كان يوحّد الشعب السوري، أيّاً كانت صيغته من قبل، إلاّ أن شرعيته لم تكن موضع تشكيك وتساؤل قبل الثورة.
نحن أمام حالة معقّدة اجتماعياً وسياسياً، وأي توصيف بمفرده لا يمكنه تفسير وشرح هذه الحالة. هناك صراع سياسي عميق نابع من إرادات سياسية ورهانات اجتماعية متضادة، متداخلة مع انقسام أهلي متزايد (غير شامل) في البلاد. وقد تطرقت إلى هذه القضايا في دراسة لي منشورة بعنوان «الصراع السياسي – الاجتماعي في سياق الثورة – الحرب»، يمكن العودة إليها لمن يرغب. وفي هذه الفسحة المتاحة في هذا الحوار مع مجلتكم يمكننا القول أنه لا ضير من استخدام تعبير الحرب الأهلية السورية، بشرط أن نعرف حدود هذا التعبير وتداخله مع العوامل الأخرى المحرّكة للصراع السوري وتبدل أطوار هذا الصراع نفسه منذ انطلاقته كانتفاضة واحتجاجات موضعية حتى تحوّله إلى صراع مسلّح ضد النظام، وإلى صراعات متعددة داخل الصراع الواحد وإلى تفكك النسيج الوطني … الخ. فالحرب الأهلية السورية تحمل خصائص مجتمعية وسلطوية في الآن ذاته، كي لا يعمل المصطلح المتداول (الحرب الأهلية) هنا على حجب الخصوصية السورية.
الخصيصة الأهم هنا على الإطلاق أن النظام نفسه، الذي يتماهى مع الدولة في الحالة السورية، يستخدم موارد الدولة العامة نفسها في حربه ضد الثورة وبيئاتها. الحرب الأهلية السورية لم تنشأ من جرّاء فراغ في السلطة المركزية كما في أغلب الحالات الأخرى للحروب الأهلية، أو على الأقل ما نعرفه من منطقتنا. بل على العكس بسبب توغّل السلطة ومتانتها وتماسكها. الخصيصة الثانية المتكاملة مع الأولى هو البعد الأهلي – الطائفي في تكوين النواة الحاكمة للنظام السوري (الطائفية هنا غير المذهبية) إلى جانب الأبعاد المتعددة التكوينيّة للنظام (الحزب الواحد – الحاكم الفرد والأسرة الحاكمة – نمط الاقتصاد الشعبوي – التكوين العسكري للنظام – الجذور الريفية للنخبة الحاكمة والدائرة في فلكها – التحالفات الاقتصادية داخل المجتمع – الإيديولوجيا الفاشية الوطنية – إيديولوجيا المقاومة ضد إسرائيل)، كذلك هناك بعد أهلي وطائفي في البنية الاجتماعية الحاضنة للثورة أيضاً، وفي شكلها الجذري خصوصاً. زاد من الملمح الطائفي للصراع الأهلي في سوريا دخول الميليشيات الشيعية إلى جانب النظام من خارج سوريا، وتوافد آلاف الجهاديين السنّة من شتى دول العالم إلى الأرض السورية، من أجل الجهاد ضد «النظام النصيري العلماني البعثي الكافر».
بالإضافة إلى هذا الصراع الطائفي، هناك صراعات أخرى تدور على الساحة السورية، وصراعات داخل الصراع الواحد. رغم ذلك من المستبعد أن تصل الحالة في سوريا إلى حرب الكل ضد الكل. كما استبعد احتمال تقسيم سوريا، إنما ستكون دولة ضعيفة ومرتهنة للخارج اقتصادياً وسياسياً، ومجتمع مقسّم نفسياً لفترة طويلة. كما لا أرى أن النظام نفسه يسعى لإقامة «دويلة علوية» ولا هي ضمن أجندته. وهذا لا ينفي البعد الطائفي القوي في بنية النظام أو في العديد من ممارساته وسياساته الإجرامية.
أين يكمن دور المثقف في ظل حالة الفوضى الحاصلة ضمن المشهد السوري؟ هل سيجد المثقف سبيلاً ما ليكون مؤثراً وله صوت مسموع في ظل الانتعاش الحاصل لدى التيارات والجماعات المتطرفة والشمولية؟
المثقفون ليسوا كياناً واحداً ولا حزباً موحداً في سوريا، وفي جميع الدول. يختلف المثقفون في توجهاتهم مثل جميع الفئات والناس. تبعاً للموقع الاجتماعي. بينهم مناصرون للنظام، وبعضهم مع الثورة، وبعضهم متردد، أو خائف من المستقبل. والمثقف بحكم امتلاكه لسلطة عامة ومَلَكَة التعبير وفرصة الظهور أكثر في المجال العام أكثر مقدرة على تبرير مواقفه أيّاً كانت.
يبدو لي أن السؤال يفترض ضمناً دوراً مميّزاً للمثقف في زمن الثورات. وهذا غير دقيق. لا في سوريا، ولا في غيرها.
أما لو كان المقصود بالمثقف هو المتعلم والذي يحوز على درجة ما من التحصيل العلمي، فأغلب هذه الشريحة الاجتماعية تندرج تحت عنوان «طبقة وسطى» تنشد الاستقرار وانتهاء الحرب. وهذه النقطة بالذات بحاجة إلى استقصاء أكبر وتحقيق ميداني واسع. في هذه الحرب الطاحنة لا يمكن أن يسمع صوت الاعتدال. هذا زمن الثورة!!
ما مدى اطلاعك على عمل منظمات المجتمع المدني والفعاليات الأخرى الناشئة في قامشلو وباقي المناطق المجاورة لها، هل تعتقد أن لديها القدرة على تأسيس نواة لمجتمع مدني حقيقي بين الكرد والمكونات المتعايشة معهم من عرب وسريان وآثوريين؟
أتابع بعض هذه النشاطات قدر المستطاع. ولا أزعم إني أحيط بها تماماً، سيما وأنا أعيش خارج البلاد. لكني أجهد لفهم خلفياتها السياسية وعلاقاتها. وأسمح لي بحكم أن قرائكم من جيل الشباب والعاملين في هذه المنظمات أن أبدي بعض الملاحظات.
هناك بروز لدور الشباب في المجال العام بصورة لم تشهدها سوريا من قبل بعد عقود من موت السياسة والبُعد عن القضايا العامة. وهذا شيء عام في بلادنا. وفي المنطقة كلّها، جرّاء الإحباط العام المنتشر قبل الثورات التي كانت إحدى أسبابها، البطالة والتهميش وحالة الاغتراب لدى الشباب. كما أن تسمية الانتفاضات العربية بثورات الشباب خصوصاً، وهي لا تنطبق تماماً على سوريا بالدرجة التي تنطبق على مصر وتونس، تساهم في إضفاء سمة إيجابية مبدأيّة على أي نشاط أو فعل سياسي يقوم به مجموعة من الشباب، خصوصاً مع ترهّل معظم الأحزاب السياسية.
لكن دعني أسجّل اعتراضاً هنا حول ظاهرة «الشعبوية الجديدة» التي تتأسس على مقولات بسيطة مثل أنّ الشباب هم قادتنا وأملنا ومستقبلنا، وخطاب تمجيد التنظيمات الشبابية، وإطلاق الأوصاف الكبيرة على الشباب لمجرد كونهم شباب. فلكون المرء شاباً، ولكون القيادات الحزبية هرمة بشكل عام، لا يعني أن ما يقوله الشباب هو الصح. هذه معادلة تبسيطيّة تسود بيننا هذه الأيام.
ونلاحظ أن أمراض الأحزاب السياسية وهي كثيرة، أي الأمراض والأحزاب معاً، موجودة بأشكال شبابية أيضاً. من الإقصاء إلى التفرّد وتطلّب الزعامة. كما أن عدد الحركات الشبابية أصبح فائضاً عن الحاجة ، مثل الأحزاب.
أخمّن أن وراء هذه الظواهر، تكاثر الأحزاب الكردية والمجموعات الشبابية، نفس الأسباب؛ هي تشظّي الحقل السياسي الكردي وعدم استقراره، والتنافس على السلطة الرمزية، وحبّ الزعامات، في مجتمع يغلب عليه الطابع الاجتماعيّ الريفيّ وتحتل فيه الهيبة والوجاهة موقعاً مهمّاً، ويمرّ بمرحلة انتقالية بعد عقود من القمع السياسي والحرمان من التعبير عن الذات والشخصية.
وافترض أن الحاجة إلى «الحزب السياسي» راهنية جداً في حالتنا السورية والكردية ضمناً. ولم ينتهي دور الحزب رغم كل ما يمكن أن نقوله عن مسيرة الأحزاب السياسية التقليدية، ورغم التقليعة السائدة عن «أفول الأحزاب السياسية» وبروز عصر المنظمات غير السياسية تحت شعارات مثل «موت الإيديولوجيا» (وهو شعار إيديولوجي للغاية) ذاك أن «السياسي» (بالمعنى الشامل للاجتماعي والاقتصادي، ومسألة السلطة السياسية) هو بعد أساسي ومركزي في حياتنا في هذه البلاد، حيث «السياسة في كلّ مكان» كما كان يقول الراحل إدوارد سعيد. لا ينفي ذلك ضرورة وجود «منظمات وسيطة» كبعض المنظمات الناشطة حالياً على الساحة السورية، وفي المناطق الكردية، مع علمنا جيداً أن العديد من هذه المنظمات ليست محايدة كما يبدو على خطابها للوهلة الأولى. وبعض هذه المنظمات تأسست كنتيجة لرغبة مؤسسات دولية، حكومية أو «غير حكومية»، في اختراق الواقع السوري السائل والمفتوح أمام الجميع من خلال التمويل المالي والدعم الإعلامي.
أما بخصوص سؤالكم عن إمكانية نشوء مجتمع مدني؛ فأظن أنه أمر بالغ الصعوية في ظروف الاستقطاب السياسي الحاد حالياً، وستكون مهمة شاقة أمام من يريد التصدي لها. القسم الأكبر من سكان الجزيرة السورية المتنوعة قومياً، والمهمشة اقتصادياً منذ عقود، باتت تعاني أكثر معاشياً بسبب آثار الحرب من حصار متعدد الأوجه من النظام والجماعات المسلّحة المتنوعة. وهذا الجمهور ليس معنيّاً أبداً بهذه الخطابات النخبوية لدعاة «المجتمع المدني» أو خطاب المنظمات غير الحكومية «NGOS» وما شابه، أما «النخب» فهي منهمكة في صراع سياسي وهوياتي، ما عدا القليل جداً.
كتبت العديد من المقالات والدراسات عن الوضع السوري والكردي، ولكونك كاتباً صحفياً تنشر ضمن فضاء الصحافة العربية هل تجد ما يكتب – في العموم – معبراً بعمق عن الواقع؛ أم أن ما تم التطرق إليه من قبل الكتّاب والصحفيين ما زال قاصراً عن إجمال الوضعين السوري والكردي ؟
في الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة كنت أتابع – كما غيري – كل شاردة وواردة تنشر في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام عن سوريا، بحكم فرادة الحدث بالنسبة لبلدنا المغلق والمصمت الذي عاش تحت وطأة ديكتاتورية خانقة لعقود متواصلة. وكانت الآمال طازجة والهمّة على القراءة عالية أيضاً. وقد لعبت وسائل الإعلام دوراً تناقضياً. ففي حين نقلت معاناة الشعب السوري إلى الخارج، وأكثر من ذلك، كالتحريض على استمرار الاحتجاجات. وأتكلم هنا بشكل خاص في الأسابيع الأولى من الانتفاضة، أعطت وسائل الإعلام تلك انطباعات خاطئة مبالغ فيها في كثير من الأحيان عن الوضع الداخلي في سوريا. وكان ضرورياً التفلت من سلطة وسائل الإعلام اليومية وتدفّق الأخبار والصور قليلاً لفهم الواقع السوري بصورة أفضل، وهذا كان صعباً بنفس الوقت.
ما نشر وينشر عن سوريا كثير جداً ومتشابه عموماً، وهناك القليل مما يستحق المتابعة في الصحافة اليومية، بما فيها الصحف المشهودة لها بالحياد النسبي. ليس فقط بسبب الملل والإحباط أو انكشاف الوضع السوري أمام الجميع، بحيث أصبحت «الأفكار مرميّة على قارعة الطريق» كما قال الجاحظ، بل لأن معظمه لم يعد يفيد فعلاً في فهم هذا الواقع، وفي أحيان كثيرة مضلّل تماماً. وعموماً كانت كتابات المثقفين الموالين للثورة متأخرة عن التحولات العميقة التي كانت تعتمل في البنية الاجتماعية والمخاطر المترتبة على ذلك.
أما في حالة الإعلام الكردي فالحديث له شجون أخرى. الإعلام الكردي الحزبي وغير الحزبي يُرثى له. فهو يتراوح بين نموذجين: الأول هو الاكتفاء بالإنشاء السياسي والمقولات العامة، التي يمكن أن تقال في أي وقت. وتحت بند الإعلام الحزبي يندرج إعلام حرب أهلية وتحريض على العنف وتشويه للخصم السياسي، يمارسه الطرف الكردي المهيمن على الساحة حالياً، و هو أكثر النماذج الكردية بُعداً عن الإعلام مهنياً.
والنموذج الآخر هو الإفراط في التركيز على القضايا الحزبوية (والإعلام غير الحزبي متورط هنا بنفس الدرجة أو أكثر) من قبيل: مَن حضر الاجتماع الفلاني، وماذا قال الشخص الفلاني في الاجتماع ذاك، والمماحكات الشخصية والحزبوية الصغيرة. إنه مستوى أقل حتى من السياسة اليومية. طبعاً من الضروري متابعة التفاصيل والجزئيات والأحداث اليومية للفهم والتحليل والتركيب، لكن هذا النحو الذي يُقدّم في وسائل الإعلام، لا يساعد في بناء سياق تحليلي للأحداث هذه. الملفت حقاً أن هناك فعلاً لهفة كبيرة لمتابعة هذه الشؤون الصغيرة جداّ عند الجمهور الكردي بشكل عام، ويحتاج الأمر إلى دراسة خاصة.[1]