#مؤيد عبد الستار#
من بين النخيل وأشجار البرتقال في بساتين ديالى التي كانت شاهدا على همسات المحبين الذين يحتفلون وينظمون المهرجانات اليسارية انبثقت رواية رائحة الوقت التي نقدم لمحة عنها في محاولة للتعريف بجانب من أحداثها الغزيرة التي استغرقت نحو 500 صفحة والتي صدرت حديثا للأديب هاشم مطر عن دار العالي ببغداد.
جذبتني النفحة الفلسفية التي تغلف عنوان الرواية، وما أن قلبتُ أولى صفحاتها حتى استغرقت في متابعة مصائر شخوصها التي رسمها المؤلف بريشة فنية تترك لمساتها بعناية فائقة على الأحداث.
رائحة الوقت تبدأ بموضوع تراجيدي، تهجير الكرد الفيليين من موطنهم العراق الى ايران، رغم ان خط الحدود الفاصل بين ايران والعراق لم يقسم القبائل التي تعيش على الجانبين كما تزعم السلطات، فلطالما عاشت الاقوام منذ القدم على هذه الارض وانهم في بلادهم حتى تم ترسيم حدود العراق واعلانه مملكة بمعاهدة سايكس بيكو اوائل القرن العشرين، فوجد أبناء القبائل الكردية أن نصفهم من سكان العراق ونصف آخرمن سكان ايران، والانكى من ذلك منحت صفة - التبعية لايران - لابناء القبائل الكردية الذين توزعوا على المدن والقرى التي اصبحت ضمن مملكة العراق عام 1921 .
هذا التهجير القسري الذي قامت به الحكومة العراقية عام 1980 يطالعنا من السطور الأولى لرواية هاشم مطر ، ويصبح محور الاحداث التي دارت على الاف الاسر الكردية التي كانت تقطن بغداد وديالى وواسط والعمارة والحلة وكربلاء وغيرها من المدن وسط وجنوب العراق. ومن الجدير بالذكر ان اعمالا أدبية وفنية أخرى صدرت ببغداد وخارج العراق تتكئ على قضية تهجير الكرد الفيليين مثل رواية قسمت لحوراء الندواي وقصة تسفير لمؤيد عبد الستار والمسلسل التلفزيوني رباب.
يتناول هاشم مطر سيرة حياة الفتاة مريم، الطالبة التي كانت تحلم بحياة تعبق بالسعادة وتحلق مع الطيور في السماء لتجد نفسها أمام زمرة عسكرية مدججة بالسلاح تأمرهم بمغادرة دارهم والصعود الى السيارة العسكرية الواقفة أمام باب الدار .
قالت الام: الى أين ؟
العسكري : لاتسأليني فانا نفسي لا أعرف .
بادر عسكري آخر بالقول: أنتم خونة عليكم ترك بلدنا والذهاب الى بلدكم !
باساليب وحشية وممارسات همجية تم نقل آلاف الاسر الى الحدود العراقية الايرانية وأجبروهم تحت تهديد وابل من الرصاص بالتوجه الى ايران سيرا على الاقدام وسط حقول من الالغام التي زرعوها منذ اندلاع الحرب التي شنها نظام صدام على ايران .
يقتفي الراوي مسار الرحلة المحفوفة بالاخطار وعبور المسالك الوعرة لجبال زاغروس والموت الذي يتربص بالمهجرين، منهم من تمزق جسده بانفجار لغم ومنهم من سقط من حافة الممر الجبلي الى قعر الوادي ومن وقع فريسة العصابات وقطاع الطرق في البراري المقفرة. سلسلة طويلة من الاحداث الاوديسية يصفها هاشم مطر بعين مراقبة للاحداث وكأنه يرسم مسار رحلة المهجرين بقلم مرافق لهم يعيش معاناتهم لحظة بلحظة وبدراية العارف الرائي لما جرى على القوم من ويلات ( طريق صخرية وعرة تنتشر على جانبيها آليات عسكرية محطمة ، تسلكها جموع بشرية يائسة على شكل أذرع وأرجل فحسب، ممرات ضيقة تمتلئ باجساد تندفع نحو قمة جبل تخيفهم عتمته الموحشة ... لغم أعاد لهم بعضا من حواس تناثرت مع غياب الاتجاه ...بعض منهم يجمع بقايا الاشلاء التي يغطونها ببضعة أغصان يابسة وحجارة ، ويسيرون ) ص 72
في الوطن الجديد الذي فتح أبوابه دون ارادته أمام سيل المهجرين ( مريم مع الجموع المهجرة في مكان أشبه بالمعسكر. خيام تصطف على شكل خطوط مستقيمة وسط برك مياه غادرها المطر ... تلك هي أرضهم ( الام ) الجديدة... والخيام التي كانت تزداد مع الوفود القادمة من ممرات أخرى أصبحت بيوتهم .. اصطفت مريم مع طابور طويل بصحبة أمها وأختها سهيلة وأخيها الاصغر حامد بانتظار دورهم بالتسجيل . الكثيرمنهم افترش الارض الموحلة بسبب الاعياء )ص165
رغم البعد الجغرافي للمهاجر عن وطنه الأم تبقى الذكريات ملاذا لمعالجة هموم الغربة والهرب من الحاضر الى الماضي الذي ضاع في زحمة الاحداث ، يتناول هاشم من ذاكرة مريم ، الشخصية المحورية في الرواية ، الصور المحفورة في اعماقها فيقدم لنا مجموعة من الرموز منهم بائع الدوندرمة و أبو وهاب بائع الكرزات وفاضل بائع الكبة ، وابو عدنان بائع الاقمشة الفلسطيني الذي استوطن العراق بعد خروجهم من فلسطين عام 1948.
يتابع هاشم رحلته الادبية مع مريم وزواجها وهجرتها الى اوربا وعلاقتها الزوجية المرتبكة فينقل صورا من حياة العراقيين الذين انتقلوا الى مجتمعات اوربية بعد مرورهم بأهم المدن التي عاشوا فيها سنين قبل رحيلهم منها ، المدن السورية ، دمشق واخواتها حيث استطاعوا شق طريق جديدة مليئة بالصعوبات و الاشكالات .
يقدم لنا هاشم خلال احداث روايته شخصيات جديرة بالانتباه الى واقعها الزئبقي الذي صاغته قوى الشرطة السرية ومسخت روحه في الوقت الذي كانت تروم شق طريق حالم في حياة ثقافية جديرة بالاحترام مثل سمية عزام وامير مسلم .
يستند هاشم مطر في روايته الى قاعدة عريضة من المعرفة أو الفلسفة إن شئت ، فيطرح تساؤلاته من خلال شخصية ( أمير مسلم) الاستاذ الجامعي من زاوية صراع الحضارات(كان يحاول بمحاضراته أن يضفي روح الامل والتفاؤل، فينصف علماءه الوسطيين الاجلاء، كأن ينضو عن ابن سينا ثوب ايمانه بتوصيفه النبوة، ويستحلف ابن رشد أن لايحرق مخطوطاته وأن يقرأ عليهم شيئا منها قبل أن يغادر الى منفاه، ويعيد لابن الهيثم عدساته ليرى ما صنعت أمة من دثار الوقت والموقف تحت مجهر الطعون والرمزية المخجلة. وعن زميله ابن خلدون، كما يحلو له أن يسميه، فكان أمير يحدث طلبته عن شارات مجتمعه الغارقة بالعفن تماما على عكس ما اقترحه من قواعد بهيجة لرياض المدينة وتحرر العقل . لكنه كان يختم محاضرته بشئ من الاحتباس فلا طريق يؤمه بحرية.)ص 104
ملامح بعض شخوص الرواية
- أمير مسلم : استاذ جامعة يتعرض للاهانة على أيدي الشرطة السرية - المخابرات - ويحاول التمرد على تدجينه. ينشر مقالا في صحيفة يصدرها صديقه عدنان الذي يحذف مقاطع من المقال كي لا يثير السلطات ضد أمير، لولاه لكان أمير سيتعرض الى الاعدام .
- وليد : من ابناء الاقليات، لم يحصل على وظيفة في دوائر الدولة رغم تخرجه من الجامعة منذ سنتين. اعتقل عدة مرات واطلق سراحه بسبب معلومات غير مؤكدة بعد تحقيق وتعذيب ويجبر على توقيع ورقة الذل بارادة مخذولة.
- سامر : يتعرض الى الاعتقال ويضطر الى توقيع ورقة التنازل عن مبادئه وافكاره ويقول ( إنهم أوباش سرقوا افراحنا واحلامنا ) .
- عدنان : صديق أمير مسلم ، صاحب صحيفة هي أقرب الى الايقونة منها الى شيء حي ... كان أبوه يمتلك الجريدة نفسها - البلد - التي ورثها عدنان وما زالت بنفس الاسم وهي اسبوعية سياسية مستقلة .ص 116.
- سمية عزام : سيدة اعلامية متحررة تقدم برنامجيا تلفزيونيا اسبوعيا ( آفاق)، وهي مثقفة يسارية ، معارضة وطنية .تسكن في شقة فاخرة في حي الرسالة.
روبيركان اول شخص عاشرته في باريس بعد طلاقها ببضعة شهور .
مخابرات النظام تلاحقها وهي في الخارج - باريس- .
ظِل نائب الوزير كان يرعبها طوال الوقت.
ثاني تجربة كانت لها مع جاك، تعرفت عليه على ساحل البحر الجنوبي .
مغامرات سمية عزام كانت فاشلة (ص15 و 106و127)
- ندى : اعتقلت . تصاب بالكآبة بعد خروجها من المعتقل وتدخل في صمتها بسبب اغتصابها ص 268.
* * *
وللانعطاف خارج احداث الرواية التي حجزت لها مكانا في عالم السينما لا بد لنا من وصف رائعة هاشم مطر رائحة الوقت بانها رواية فخمة تحيط باحداث شغلت مساحة كبيرة في حياة المهجرين وعالجت باسلوب فني احداثا عاشها العراقي بشكل عام والكردي الفيلي بوجه خاص داخل وطنه الأم وفي اوطانه ( الأم ) الاخرى التي تنقل اليها يرافقه هاشم مطر معتقا برائحة الوقت وعطر أزهار البرتقال الممزوجة بآلام المهجرين وآمالهم[1].