#زهير كاظم عبود#
نص الدستور العراقي في الجملة ( ب ) من الفقرة ( أولا ) من المادة الثانية منه على ذلك ، كما اعتمد الدستور على نظرية فصل السلطات باعتبارها من النظريات التي تحقق من خلال هذا الفصل الرقابة الموضوعية والشكلية في تشريع القوانين ونفاذها وتطبيقها ، كما يحقق هذا الفصل أيضا رقابة متبادلة ومهمات محددة ، إذ تختص السلطة التشريعية بسن ووضع القوانين ، وتقوم السلطة القضائية بتطبيق تلك القوانين بأمانة وحياد وتفصل في المنازعات والخصومات المعروضة أمامها بالإضافة الى رقابتها على عدم خرق الدستور والقوانين كضمان من ضمانات مبدأ الشرعية ، وتقوم السلطة التنفيذية بتنفيذ الأحكام الصادرة ، ولأن القضاء العراقي معنيا بقانونية التشريعات ومدى انسجامها مع النصوص الدستورية فانه أيضا الجهة التي يحتكم اليها المواطن العراقي في سبيل تطبيق هذه الثوابت والمبادئ .
وثوابت العمل الديمقراطي التي يحرص القضاء العراقي على تطبيقها باعتبارها نصا دستوريا تظهر واضحة وجلية في نصوص الدستور ، ويتم انعكاسها عمليا على الحياة في العراق ، فتداول السلطة سلميا عبر الوسائل الديمقراطية من بين ثوابت الحياة السياسية واسلوب الحكم في العراق ، بالإضافة الى ان السيادة للشعب مصدر السلطات والذي يمنحها الشرعية ويمارس حقه في الاختيار بالاقتراع السري العام والمباشر وعبر المؤسسات الدستورية ، بالإضافة الى حظر الكيانات التي تنهج نهجا طائفيا او عنصريا او ارهابيا او تكفيريا ..
المساواة امام القانون بين جميع ابناء العراق مفصل مهم يتعارض مع التمييز القومي والديني والعرقي والمذهبي وبالتالي ينسجم مع المسار الديمقراطي ، ومن يطالع النصوص الدستورية يجد ان كل نص يحث على التمسك بالحقوق واحترامها ، ويدعو الى المساواة يصب في نهر الديمقراطية الذي لا يمكن ان يتم تحقيق الاستقلالية في العمل القضاء دون وجود هذا المسار.
فقد شكلت نظرية فصل السلطات الدستورية قاعدة عملية لتنظيم عمل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وعدم تجاوز حدودها في الإطار العملي المرسوم لها ، كما شكلت الإطار العملي الذي يمهد للنظام الدستوري الديمقراطي البديل عن الأنظمة الدكتاتورية التي تحصر السلطة عادة بيد سلطة واحدة، ومع إن هذه الاستقلالية لا تعني الانسلاخ عن منظومة العمل الدستوري ، إلا أنها تعني عدم تعدي أو تجاوز أي منها على عمل ومهام الأخرى ، وهذه النظرية تعطي الاستقلالية والحرية للسلطة القضائية بما يتيح لها ممارسة دورها المهم في بناء دولة القانون وترسيخ مبادئ العدالة ، كما يعطي للسلطة القضائية القدرة على الحركة وحرية الأداء والتطور ضمن دائرتها ، بالإضافة الى عدم تأثرها بالمواقف السياسية للسلطة التنفيذية ، ودون أن تتقيد بمراقبة كلا السلطتين أو تدخل أي منها في عملها أو في قراراتها ، وبهذا تضمن ليس فقط قدرتها في التطبيقات القانونية السليمة للقوانين ، وليس فقط حسم القضايا وتطبيق معايير العدالة والقانون بحيادية وعدالة ، وإنما تمكين المواطن من مقاضاة أي مركز من مراكز السلطتين التشريعية أو التنفيذية أمام القضاء في حال شعوره بخرق الدستور أو العمل بما يخالف النصوص القانونية ، مما يدفعها للتطور والإبداع في عملية البحث والاستنتاج ، وإيجاد القواعد القانونية المتناسبة مع الظروف ، ولهذا يعد استقلال القضاء من المقومات الأساسية التي تساهم في تثبيت دعائم العدالة والقانون ، وفي رفع مستوى الأمن وتجسيد مفهوم الاستقلالية كسند يحمي ثوابت الديمقراطية ويساندها ، ولايمكن بأي حال من الأحوال الاطمئنان الى قضية الحقوق إلا بوجود قضاء مستقل.
استقلالية القضاء تعني أيضا التزام القضاء العراقي بالحيادية وعدم الانحياز لأية جهة كانت ، وعدم إخضاع مجلس القضاء الأعلى أو قراراته ليس فقط للسلطة التنفيذية وإنما حتى للمصالح الخاصة والسياسية منها ، وبالتالي عدم تمكين تلك المصالح من النفاذ داخل جسد القضاء ، وتمكنها من أحداث شروخ تحرف القضاء عن مسار الاستقلالية والحياد التي يتطلبها الواقع العراقي الجديد ومتطلبات العدالة والقانون ، وفي سبيل ان تكون هناك جهة دستورية تحمي المشروع الديمقراطي لبناء كيان الدولة وحماية حقوق الانسان نقول لابد من قضاء مستقل بشكل حقيقي لا شكلي وعملي لا أعلامي .
إن العمل على تجسيد نصوص الدستور التي تؤكد على استقلال القضاء أمرا ضروريا لابد من تكاتف الجهود لإنجاحه ، حيث إن استقلال القضاء تفرضه الضرورة والحاجة الماسة قبل ان تلزمه النصوص الدستورية ، ومن اجل أن يتم تثبيت معالم دولة القانون التي طالما افتقدها أهل العراق زمنا طويلا في ظل حكومات الانقلابات المتعاقبة ، ولم يتم الشعور بها في ظل الحكومات التي أعقبت النظام الملكي . بالإضافة الى أنه يشكل الضمانة الحقيقية في قضايا المتخاصمين مهما كانت مراكزهم القانونية . وهذا الأمر يدفع بالضرورة الى أن تهتم السلطة التشريعية والتنفيذية بوضع القضاء العراقي وتساهم في تحسين صورته وتمكينه من تطوير أداءه ، بالإضافة الى دعم القضاء ماليا ومعنويا ، والإسراع في عملية الإصلاح القضائي والقانوني في العراق .
ليس المهم أن يتمكن القضاء العراقي من أداء دوره المرسوم دستوريا ووفقا لقانون التنظيم القضائي بشكل آلي وروتيني ، وليس مهما إن يكون للعراق قضاء يسد الفراغ وقضاة يملئون أبنية المحاكم ويسدون شواغرها ، إنما المهم في أن يكون هذا القضاء مستقلا بالمعنى الحقيقي للاستقلالية ، بعيدا عن الانتماء الحزبي والطائفية والمحاصصة ، وينأى بنفسه عن أن يكون طرفا في النزاعات السياسية ، أو أن يكون تابعا أو طرفا لأحدى التجمعات السياسية أو الطائفية ، مما يبعده حتما عن التمكن من أداء دوره الحقيقي ، ويخرجه عن معانيه الحقيقية في الاستقلالية ، واستقلالية القضاء العراقي تعني بناء قضاء مستقل قوي ، يعتمد على رموز قضائية تتمتع بالكفاءة والخبرة ، بالإضافة الى حياديتها ونظافة سيرتها ، والاستفادة من التجربة القضائية والسمعة التي كان القضاء العراقي يتمتع بها قبل حلول الدكتاتورية ومساهمتها في المساس بسمعة ومسيرة القضاء العراقي حيث كانت صفحة القضاء العراقي وبشكل نسبي نظيفة وجديرة بالتقدير ، واستقلالية القضاء العراقي تعني قدرة هذا القضاء على التمسك بالحيادية واكتساب ثقة المواطن في عدالته .
وليس اعتباطا أن تنص جميع الدساتير التي حلت في العراق منذ بواكير تأسيس الدولة العراقية مرورا بالدساتير المؤقتة لجمهوريات الانقلابات العسكرية وحتى الدستور الدائم الأخير ، على استقلالية القضاء العراقي ، وبالرغم انه في فترات متعاقبة لم يكن أي تجسيد حقيقي لهذه النصوص وللاستقلالية بمعناها الدقيق ، مما أثر على دور القضاء العراقي وساهم في تراجعه والإساءة إليه .
فقد أكد القانون الأساس العراقي الصادر في العام 1925 ، في المادة الحادية والسبعون أن المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها ، ويشير النص المذكور الى استقلالية السلطة القضائية التي وضعها المشرع في الباب الخامس من الدستور تأكيدا على تلك الاستقلالية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ، ويمكن أن تكون الفترة التي عاشها القضاء العراقي في ظل النظام الملكي بالرغم من بعض السلبيات ، والتدخلات التي شابتها والهنات التي وقع بها بعض الحكام ( القضاة ) ، إلا أنها وفق وجهة نظرنا المتواضعة أحسن وأكثر اقتدارا بكثير من فترات الحكومات الجمهورية التي أعقبته من ناحية خرق استقلالية القضاء ، أو التدخل في شأنه وقراراته ، أو محاولة وضعه تحت عباءة السلطة التنفيذية ، أوعدم تمكين القضاء من تكوين رموز قضائية كبيرة رسمت لها صفحات ناصعة في تاريخ المؤسسة القضائية .
وبعد صدور الدستور المؤقت للجمهورية العراقية الصادر في 27 تموز 1958 ، أكدت المادة 23 منه أن القضاة مستقلون لاسلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لأية سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة .
وكما أورد الدستور المؤقت لعام 1964 نصا ضمن المادة 85 يؤكد على استقلالية الحكام والقضاة .
وسار الدستور المؤقت لعام 1968 على نفس النهج في المادة 76 أيضا ، وجاء في قانون أدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية نص المادة 43 الذي أكد على استقلالية القضاء من السلطة التنفيذية ووزارة العدل بأي شكل من الأشكال ، ونص الدستور العراقي الأخير على استقلالية السلطة القضائية ضمن عدة نصوص ، حيث أكد في النص الأول على إن السلطة القضائية مستقلة ، في حين أورد النص الثاني إن القضاة مستقلون لاسلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة .
وهذه النصوص الدستورية لا أثر لها ولا قيمة دون أن تجد لها تطبيقا عمليا ، بالرغم من إن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل أكد في الباب الرابع منه على الجرائم المخلة بسير العدالة ، وحدد في الفصل الأول منه المساس بسير القضاء العراقي ، حيث جاء في المادة 233 معاقبة كل من يحاول التدخل في عمل القضاء أو التأثير على قناعات القضاة القانونية بأية طريقة بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ، ومع إن هذا النص يعتبر فعل التدخل جنحة ، فأن المحاكم لم تجنح لمسائلة أي مسؤول قام بالتدخل أو عمل على تغيير قناعة القضاة طيلة الفترات السابقة ، بالإضافة الى إن ما يلغي هذا النص ويتجاوز حتى على الاستقلالية التي يريدها الدستور حين يصار الى قبول القضاة وفقا للتنظيمات السياسية الحاكمة في البلد ، أو ضمن التجاذبات الطائفية القائمة ، مما سينتج وبالا مستقبليا على العدالة والقانون في العراق ، حيث إن الالتزام بالحيادية واستقلال مواقف القضاة السياسية شرطا أساسيا يعزز مبدأ استقلالية القضاء العراقي .
ويمكن أن تكون صور التدخل في استقلالية القضاء العراقي غير مباشرة أو مكشوفة من قبل السلطة التنفيذية أو حتى التشريعية ، فعملية إلغاء قرارات المحاكم بقرارات تشريعية يعد تدخلا وأضعافا لدور القضاء ، وإلغاء الاستقلالية في إصدار الأحكام وفقا لاجتهاده وحياديته ، حيث إن القوانين العراقية هي المرجع في تكييف العلاقات القانونية عندما يتطلب الأمر تحديد نوع هذه العلاقات ، كما إن مسار تطبيق القانون سبق وان تم إقراره ومنصوص عليه في نصوص قانونية أقرتها السلطة التشريعية و لا تقبل الاجتهاد ، إذ لا اجتهاد في مورد النص ، كما إن التعسف في التدخل بوضع القضاة وتقييدهم أو اتخاذ الإجراءات بحقهم يساهم في إضعاف دور القضاء وتحجيمه ، ما يؤدي إلى تراكم القضايا وضعف الحسم وتذمر المواطن بعدم الحصول على حقوقه ضمن أقصر الطرق وأضمنها ، وبالتالي خلق شروخ وحواجز بين القضاء والمواطن .
في 28 تشرين الثاني من العام 1917 تم تأسيس المحاكم العراقية في ظل وجود سلطات الاحتلال البريطاني ، وأصدرت قوات الاحتلال مجموعة من القوانين سمتها ( القانون العراقي ) ، بدأت في تطبيقها على مدينة البصرة والناصرية والعمارة ، وخارج نطاق هذه المدن يتم تطبيق القانون العشائري ( نظام منازعات العشائر ) ، وحلت المحاكم العراقية بديلا عن المحاكم التي تعتمدها السلطات العثمانية ، واشترك قضاة انكليز مع العراقيين في تأسيس تلك المحاكم ومباشرة أعمالها حيث تم اعتماد اللغة العربية في الأحكام والقرارات ، وصدر في العام 1929 قانون الحكام والقضاة ، وتم إصدار قانون أصول المحاكمات الجزائية البغدادي في تشرين الثاني من العام 1918 من قبل القائد العام لقوات الاحتلال البريطاني والذي أصبح نافذ المفعول بتاريخ الأول من كانون الأول 1919 . كما تم إصدار قانون العقوبات البغدادي من قبل نفس قيادة الاحتلال بتاريخ 21 تشرين الثاني 1918 والذي أصبح نافذ المفعول بتاريخ الأول من كانون الثاني 1919 ، حيث تم تطبيقه على ولاية بغداد أولا ثم امتد تطبيقه إلى الأجزاء الأخرى من العراق بعد ذلك ، وصدرت تباعا القوانين الأخرى التي تنظم عمل المحاكم ومنها قانون المرافعات المدنية والتجارية ، ونص قانون المرافعات المدنية والتجارية الذي تم تعديله إلى قانون المرافعات المدنية بعد حين على عمل القضاة وأنواع القضاء وطرق الطعن ، ومن ثم صدر قانون التنظيم القضائي الذي اختص بعمل القضاة ، وأستند القانون في استقلالية العمل القضائي على تلك النصوص الدستورية التي وردت ، والتي لم تنسجم مع طبيعة السلطات التي حكمت العراق بتلك الفترات ، حيث أن ولاية القضاء العراقي تسري حتى على قرارات الحكومة ، إلا إن الذي صار في تطبيق ما يخالف المبدأ المذكور ، فتصير المحاكم خاضعة لقرارات الحكومة تحت شتى المزاعم التي قيلت ومنها المرحلة الانتقالية والثورية وما إلى غيرها من الركائز التي تعكزت عليها السلطات ، وصار القضاة ومجلسهم تابعين إلى وزير العدل يلتزمون بأوامره وتعليماته ويتأثرون بقراراته ، كما بدت تدخلات السلطة السياسية واضحة من خلال تهميش القضاء ومنعه من الفصل في العديد من القضايا ، وإلغاء العديد من الأحكام والقرارات .
مرت المؤسسة القضائية تبعا للمتغيرات السياسية بظروف تمسكت باستقلاليتها وحيادها ، غير أن تلك الظروف أثبتت توجه تلك السلطات لخرق هذه الاستقلالية وعدم الالتزام بنظرية فصل السلطات التي كررتها في دساتيرها المؤقتة ، حتى أن السلطة البائدة حولت القضاء الى وظيفة ، وقيدت سلطته ، وحجمت دوره وشلت متابعته واجتهاداته حرصا منها على سيطرة أنظمتها على الحقوق والحريات والتطبيقات الدستورية دون تقييد أو منع .
أن عدالة النظام القضائي تتلازم مع استقلالية هذا النظام ، وكل هذه العدالة مرتبطة بشكل أو بآخر بعدالة القضاة واستيعابهم لدورهم وتطابق أحكامهم مع القوانين والعدالة ، والمتابعة والبحث والتقصي من خلال تفسير وتحليل النصوص القانونية وفق روحها ، وتحقيق العدالة من خلال البحث والتدقيق في مجالات تطوير القواعد القانونية والفقهية بما ينسجم مع واقع العصر وحياة الناس في الزمن الحاضر ، ومحاولة استنباط النصوص القانونية وتطوير العمل القضائي ، وتأكيد استقلالية القرار القضائي والسعي لتأصيل الاستقلالية حتى يمكن أن تصير ثابتة مع ما يصاحبها من عملية إصلاح النظام القضائي العراقي الذي انتابه الخلل الأكيد طيلة فترة سيادة الدكتاتورية والطغيان في العراق ، وأمام التردي والشرخ الذي أحدثته هذه الأنظمة البائدة ، صار لزاما إن نعيد الثقة بالقضاء لدى المواطن العراقي ، وصار لزاما إن تأخذ السلطة التشريعية دورها في عملية الإصلاح ، من خلال التدقيق في عملية اختيار القضاة أو الاستفادة من الطاقات والكفاءات القضائية والقانونية المقتدرة ، بعيدا عن التقسيمات والمحاصصة والطائفية ، مع استعادة لمسيرة القضاء العراقي قبل إن يختل ويتم تهميشه في زمن الدكتاتورية والاستفادة من تلك الفترة وما خطته من صفحات ومواقف يعتز بها القضاء .
إن تثبيت دعائم الاستقلالية للقضاء العراقي فعلا وبشكل عملي يدفع بالعملية السياسية إلى خطوات ثابتة وراسخة ، وعند اطمئنان المواطن إلى وجود جهة مستقلة وتتمتع بالحيادية يرسخ اعتقاده من أن حقوقه لن تضيع ، مع ما يمكن معها إن تخضع جميع الأطراف إلى قرارات القضاء ، وبالتالي لا يوجد احد شخصا كان أو حزبا أو هيئة أو تجمعا فوق القانون ، بالإضافة إلى عدم اعتماد القضاء الاستثنائي أو منح الموظفين الإداريين صلاحيات قضائية حتى يمكن حصر مركز الأحكام والقرارات التي تخص الحقوق بالقضاء العراقي ، وتعميق منهج حقوق الإنسان في عمل المؤسسة القضائية المدنية منها أو الجنائية ، علما بأن القضاء الاستثنائي بأشكاله وصوره التي حلت علينا في العراق من المجالس العرفية والمحاكم الثورية والخاصة ومحاكم امن الدولة جميعها مخالفة صريحة لمبدأ استقلالية القضاء ومخالفة للدساتير التي كانت سائدة في تلك الفترات .
مسألة استقلالية القضاء عنصر رئيسي من العناصر الرئيسية في مكونات النظام السياسي ، ومسألة استقلالية القاضي لا يعني بأي شكل من الأشكال أن تكون قراراته باتة ودون تدقيق ويتصرف كما يشاء، الاستقلالية تعني في الالتزام بإجراءات التقاضي وإصدار الأحكام وفقاً للقانون. وتحقيق أقصى ما يستطيع لتحقيق العدالة والحق ، وعلى هذا الأساس وحتى يتم تبلور مفهوم استقلالية القضاء العراقي على السلطتين إن تترجم هذه الاستقلالية من خلال كف يدها من التدخل في الشأن القضائي أو العمل على إدخال عناصر منسجمة أو ملتزمة مع أحزابها أو تنظيماتها السياسية أو تجمعاتها الطائفية إلى الجسد القضائي ، بغض النظر عن كفاءتها أو خبرتها مما سيحدث أثرا سلبيا مستقبلا على وضع القضاء العراقي ، ويشكل حجر عثرة في طريق الاستقلالية .
ويأتي تشكيل المحكمة الاتحادية في العراق خطوة أكيدة على سبيل ترسيخ مبدأ الاستقلالية ، وحرص من المشرع على أن تكون جميع الخطوات والقرارات التي تخطوها السلطتين التشريعية والتنفيذية تحت التدقيق القانوني ومن قبل جهة مستقلة ، حيث إن القانون رسم طرق الطعن في قرارات المحاكم العراقية ، وبذلك تعود مرجعية التدقيق والبت في هذه القرارات من قبل القضاء العراقي الذي له الولاية العامة بما في ذلك المحكمة الدستورية .
ومع إن الظرف الراهن خلق مؤسسات مستقلة لها صلاحية اتخاذ القرارات والأحكام دون أن يكون للقضاء العراقي صلاحية تدقيق قراراتها أو نقضها ، مما يمكن أن يتم اعتباره أضعافا لدور القضاء وشرخا في العمل القضائي والقانوني ، فأن هذه الجهات مع ما منحها الدستور من وظائف وصلاحيات لاتجد لها مبررا أو غطاءا أمام استقرار الوضع أو انسجام العمل السياسي مع مبدا فصل السلطات واستقلالية العمل القضائي .
أن مبدأ استقلالية القضاء المعزز بمقتضى الدستور يشكل قاعدة متينة ترتكز عليها دولة القانون ، الدولة التي طالما افتقدها العراقي ردحا طويلا من الزمن ، إذ طالما خرقت السلطات تلك الاستقلالية وتجاوزت عليها ، ، ولذا كان مبدأ الاستقلالية مجرد كلمات منصوص عليها في الدساتير المؤقتة دون أي تطبيق ، وكانت تلك السلطات تعتبر المؤسسة القضائية خصما عليها إخضاعه أو استمالته ، ولذا لم يكن مبدأ الاستقلالية محترما على الدوام بأي شكل من الأشكال ، ويمكن إن تشكل المحاكم الاستثنائية وسلب اختصاصات المؤسسة القضائية وتعطيل أحكام محاكم الجنايات والبداءة ، ومنح الموظفين المدنيين صلاحيات القضاء ، وغيرها من الأمور التي تتجاوز على استقلالية السلطة القضائية ، حتى وصل الأمر بالدكتاتور البائد إن يعتبر القضاء وظيفة عادية ضمن هيكل المؤسسة .
وكان للراحل جلال طالباني دورا رياديا ومهما في ترسيخ أسس الأستقلالية في الدستور ، ليس فقط لكونه من الأسرة القانونية ، انما جسد بالفعل معنى الأستقلالية ضمن المباديء العامة التي يؤمن بها ، ولهذا فأن تلك النصوص بالأضافة الى المحكمة الأتحادية العليا شكلت معلما جديدا في البناء القضائي ضمن الدستور العراقي الجديد .
إن الحرص على تجسيد تلك النصوص إلى واقع عملي يؤكد لدينا ضمان فعالية أكيدة لمبدأ الاستقلالية ، وتأكيدا على ترسيخ ثوابت الديمقراطية في بلد تنمو فيه قيم الديمقراطية مثل نمو الطفل الوليد في تجربة دستورية تعتمد قبل كل الاعتمادات الأنسان وحقوقه .
ولتأكيد تلك الاستقلالية ينبغي تجسيد تلك المبادئ ، وأيضا من خلال إعداد القضاة أعدادا منهجيا ينسجم مع ثقافة حقوق الإنسان التي يؤكدها العراق الجديد ، ومن خلال عملية أصلاح القضاء العراقي الموجود ، ومن خلال إصلاح النظام القضائي العراقي بما ينسجم مع الدستور والتطلعات التطبيقية لمنهج الديمقراطية والنظام الاتحادي الفيدرالي الذي يسعى اليها العراق ، والتركيز على مبدأ فصل السلطات في التطبيقات العملية والسعي لنشر الثقافة القانونية بين المجتمع ، من خلال منظمات المجتمع المدني ودور الأحزاب الوطنية في الشارع العراقي وحصانة القضاة وحمايتهم وتحصينهم ، وان تسعى السلطة التشريعية إن لاتتناقض مع أحكام وقرارات السلطة القضائية ، والالتزام بالنصوص القانونية التي توحد العراقيين وتنصف المرأة وتحافظ على كيان الأسرة والطفولة وعدم تشتيتها بما يضعف المجتمع ويضر بأوضاعه ، ووضع المؤسسة الأمنية التي تختص بوظيفة التحقيق تحت أمرة القضاء أو ربط ترقيات أفرادها أو عناصرها بالقضاء العراقي .
ويتحدد استقلال القضاء في سيادة القانون واحترام الدستور ، وفي قدرة المؤسسة القضائية أن تأخذ دورها الحقيقي والفاعل في الساحة ، وكذلك تمكين المواطن من اللجوء الى القضاء بأسهل الطرق .
وإذا كان استقلال القضاء العراقي يؤدي إلى فاعليته وإسهامه في استقرار الوضع السياسي في العراق ، يستوجب الأمر إن تلتزم كلا السلطتين بهذه الاستقلالية التي أكدها الدستور وتتطلبها ظروف الحياة العراقية ، وأن تحرص السلطة التنفيذية على تعميق هذا الدور إيمانا منها بالمهمة الصعبة المنوطة بالقضاء العراقي ، حيث إن الأنظمة الديمقراطية تحرص على تلك الاستقلالية ، بينما لاتلتزم بها الأنظمة الشمولية والمتخلفة حتى وان وضعتها كنصوص في دساتيرها ، وتفعيل قانون التنظيم القضائي بما ينسجم مع أهمية المرحلة التي يجتازها العراق وهو يؤسس لبناته الأولى على طريق الديمقراطية والالتزام بالنظام الفيدرالي . كما يتطلب الأمر من الأقاليم العراقية المنضوية تحت راية العراق الاتحادي الاهتمام بعملية أعداد القضاة لتأسيس لبنة من لبنات القضاء العراقي المتسلح بثقافة حقوق الإنسان .
وعليه فأن من بين أهم ركائز دولة القانون اعتماد نظرية فصل السلطات ، وأهم أعمدتها الأساسية استقلالية القضاء العراقي الذي يعد أحد ثوابت السياسة الديمقراطية في العراق .
*قاض متقاعد من مجلس القضاء العراقي.[1]