*عدنان حسين أحمد
رواية “الخادمة” للكاتبة كلاويز صالح فتّاح، ترجمة الشاعر والباحث الكردي جلال زنكابادي. وكدأبها في قصصها وروايتها السابقة تسعى كلاويز إلى تناول حُزمة من الموضوعات والأفكار الأساسية التي تعالجها ضمن السياقات السردية لهذا العمل الأدبي أو ذاك، آخذين بنظر الاعتبار أنها ترصد هذه الظواهر، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، أم محايدة،
وتحلِّلها بعين نقدية ثاقبة قد يغلب عليها الطابع الاجتماعي والنفسي، كما هو الحال في هذه “النوفيلا”، إضافة إلى تقنياتها المتنوِّعة ورؤاها الفكرية الأخرى التي قد تختلف من نصٍ إلى آخر.
قد يبدو عنوان هذه الرواية مُربِكاً بعض الشيء، فثمة أكثر من خادمة تتحرّك على مدار النص السردي مثل “كُلة”، “شكريّة”، “زيريرن” وحتى “فيروز” التي ستصبح خادمة لأسرة الضابط، ووعاء لتفريغ شهواته الإيروسية الجامحة، ولكن ما أن يمضي المتلقي في قراءة النص حتى يكتشف أن “شكرية” هي الخادمة التي تعنيها كاتبة النص ومبدعته كلاويز. فهي التي تلعب الدور الرئيسي في صناعة الأحداث المهمة مثل إنقاذ فيروز التي تعرضت للابتزاز والاغتصاب على مدى أيام طويلة بينما كان بعلها الديّوث يقوِّد عليها ويتاجر بشرفها هنا وهناك. كما أنّ شكرية هي التي تحنو على الطفلة “كُلة” وتعاملها معاملة إنسانية راقية، وتمنحتها سانحة الحظ لأن تمارس طفولتها في بيت السيد عثمان آغا الذي لا يخلو من قمع ومعاملة سيئة لها من قِبَل الأم ومعظم أفراد الأسرة.
تضع كلاويز ثلاثة أجيال في مختبرها السردي حيث يتمثّل الجيل الأول بالجد ميرزا أحمد، والجدة لطفية خان، والعمّة شيخزادة، بينما يتمثل الجيل الثاني بالأب عثمان ميرزا أحمد وزوجته مليحة خان، أما الجيل الثالث والأخير فهو جيل الأبناء الخمسة بختيار، باشا، جرا خان، جيمن خان وآسو. ومن خلال هذه الأجيال الثلاثة يمكن للقارئ أن يتعرّف على الشخصيات الأخر التي تنتمي إلى كل جيل على من الأجيال الثلاثة على انفراد.
ومما لا شك فيه أن القارئ يشعر بالتغييرات الاجتماعية التي تطرأ على هذه الأجيال. فإذا كان الجيل الأول متشبثاً بالعادات والتقاليد الاجتماعية، فإن هذا التشبث ستقل وطأته حتماً في الجيل الثاني، ويتضاءل أكثر في الجيل الثالث بما ينسجم مع القيم والأعراف الجديدة التي يفرزها الحراك الاجتماعي الناجم عن التقدّم والحياة المدنية المتطورة. وربما تكون شخصية شيخزادة، شقيقة ميرزا أحمد، هي الأنموذج التقليدي الذي يحيل مباشرة إلى هذا الجيل لأكثر من سبب، فهي قروية جداً ومتديّنة من جهة، كما أنها موغلة في تقليديتها من جهة أخرى، وخصوصاً فيما يتعلق بملابسها الفوكلورية القديمة، ولعل أغرب ما فيها شَدَّة رأسها الكبيرة جداً التي تثير سخرية الناس، وتفتح شهيتهم للتعليق والتندّر. هذا إضافة إلى المِسْبحات العديدة الملونة التي تطوِّق عنقها، والحُلي الفضيّة المُوزَّعة على جيدها ومعصميها وأصابعها. لم تقم شيخزادة بأي عمل من أعمال السحر والشعوذة، لكنها كانت تعتبر أدعيتها وقراءة بعض الآيات القرآنية على رؤوس النساء المرضى أو اللواتي لا ينجبن الذكور هي رغبة صادقة لفعل الخير للناس الآخرين.
تحيل شخصية مليحة خان وزوجها المهندس عثمان آغا إلى الطبقة الاجتماعية المتوسطة العليا التي يتمثل فيها الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي. ومن خلال “القبول”، وهي الزيارات الاجتماعية التي تتبادلها هذه العوائل، ميسورة الحال، بالتناوب، نتعرف على شرائح محددة من هذه الطبقة الاجتماعية فهناك عائلة الوزير، والمهندس، والطبيب، والضابط، والمدير المالي وما إلى ذلك حيث تبرز إلى السطح العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس المصلحة، فحينما تعرِض مليحة خان ملابسها الكردية المزركشة، بعد أن تخبئ الثمينة منها، على أم باسل زوجة الوزير فإنما هي تريد التأثير عليه لكي يستجيب لزوجها، مهندس الاشغال، عثمان آغا، أي أن رشوة زوجة الوزير ليس حُباً بها، وإنما محاولة للاستفادة من زوجها، وترويضه لتحقيق مآربهم الشخصية. لقد كشف بعض جلسات “القبول” مساوئ هذه الطبقة الاجتماعية، وكان التركيز فيها على الجوانب السلبية مثل “الإثراء السريع، والاختلاس، وسرقة المال العام، والاتجار بالسلاح والمخدّرات، والخيانة الزوجية، والرياء، والتزلّف الاجتماعي” وسواها من الظواهر السلبية التي تفزرها هذه الطبقة الاجتماعية.
أغرت مليحة خان في حضورها “للقبول” الأول زوجة الوزير أم باسل ودعتها لحضور قبولها الذي سوف تعقده في منزلها بعد بضعة أيام. وبالفعل كانت الدعوة ناجحة ولافتة للانتباه خصوصاً وأنها حدثت بوجود الجد ميرزا أحمد والجدة لطفية خان والعمة شيخزادة الذين استمتعوا بهذا الحدث الاجتماعي الغريب بالنسبة لهم. أما القبول الثالث فقد حدثت فيه واقعة تهريب الضحية “فيروز” التي جاءت بها زوجة الضابط كي تتباهى بها أمام بقية النساء وتقول بأن لديها خادمة مثل بقية النساء المرموقات، لكن شكرية عقدت العزم على تهريبها وإنقاذها من براثن الضابط الذي يغتصبها بين أوان وآخر. وحينما شعرت بخطورة ما أقدمت عليه من عمل قد يضعها تحت طائلة القانون فاتحت المهندس عثمان آغا بالأمر فوافق على مقترحها بأخذ فيروز إلى منزل السيدة فهيمة وزوجها درويش اللذين تعرفهما جيداً وتثق بهما ثقة عمياء. وعلى الرغم من أنّ مشكلة فيروز لم تنتهِ كلياً إلا أنها ظلت في منأى عن زوجها الذي لا يجد حرجاً في المتاجرة بجسدها، وبعيداً عن عائلتها التي تقطن في دهوك ولا تجد ضيراً في إرجاعها إلى زوجها الذي يدّعي أنه عقد عليها في محكمة شرعية، بينما يكشف واقع الحال أن الزيجة مُفبرَكة، وأن الأوراق غير قانونية.
ادّعت مليحة خان بأن ابن عمه بيستون يغازل الخادمة شكرية، وأنّ هذه الأخيرة قد أوقعت صينية إستكانات الشاي حينما شاهدته، وهي تفقد توازنها حينما ترى أي رجل يدخل البيت! لم تنم شكرية ليلتها، وفي صبيحة اليوم التالي حزمت صرّتها واصطحبت معها الخادمة الصغيرة “كُلة” وقالت إنها مصرّة على ترك الخدمة في هذا البيت الذي لا يعبأ أصحابه بكرامتها، ولا يقدّرون الجهد الكبير الذي تبذله منذ ساعات الصباح الأولى حتى آخر الليل. وحينما احتّد النزاع بسبب اصطحابها للخادمة الصغيرة اعترفت شكرية بأنها قررت الزواج من والد “كُلة” الذي أخذ يتردد كثيراً على منزل عثمان آغا بحجة اطمئنانه على ابنته الصغيرة، بينما كان ينوي الاقتران بشكرية والعودة بها إلى خانقين. توارت الخادمتان عن الأنظار بينما اشتبك الزوجان في مشاجرة جديدة لأن زوجته المعتدية أرادت استدعاء البوليس.
على الرغم من الحس النقدي المرهف الذي تمتلكه الروائية كلاويز في رسم المشهد الواقعي الذي ترصده، وتكتب عنه فإنها تتوفر على مميزات تقنية عديدة منها البوح الجانبي الذي يأخذ صيغة المونولوغ الداخلي الذي يكثر استعماله في المسرح على وجه التحديد “وهو كَلام يَقولُه المُمَثِّل عَلى المَسْرَح من دون أن يَسْمَعَهُ الجُمْهور” ولعل أبرز الأمثلة في رواية “الخادمة” هو كلام عثمان آغا الذي انتقد والد زوجته مليحة خان وقال لنفسه بما معناه “أن ثروة والدها وأملاكه هي من سلب أملاك القرويين وامتصاص دمائهم”. كما قالت مليحة لنفسها وهي تتحدث عن زوجة الوزير أم باسل قائلة: “إنها دُبة غبراء شبيه بالغولة” في إشارة إلى قصر قامتها، وسمنتها المفرطة. لقد نجحت كلاويز في تقديم نص روائي يستجيب لاشتراطات الواقع الذي عاشته الروائية في بغداد وكانت أمينة في نقله من دون بهرجة أو رتوش. لابد من الإشارة في خاتمة المطاف إلى الجهد الكبير الذي بذله المترجم البارع والشاعر المبدع جلال زنكابادي في ترجمة هذا النص الروائي إلى العربية وإضفاء لمساته اللغوية عليه على الرغم من الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الدار بنشر النسخة الأولية غير المصححة من العمل المترجم، ولعل القارئ العربي أو الكردي، على حد سواء، يعرف لغة زنكابادي سلفاً، ويدرك تجلياته الإبداعية في هذا المضمار الذي يشتغل فيه منذ أربعين عاماً ونيّف من السنوات.[1]