فتح الله حسيني
في قصة “عابرة سبيل هائمة” تمجد الروائية والقاصة الكردستانية كلاويز صالح فتاح الدور الانساني والبطولي الذي لعبته جمهرة من المناضلين الكرد بأسماء شتى، في مناطق متفرقة من العراق، سواء في كردستان أو في بغداد أو في مدن الوسط والجنوب، وذلك التمجيد ليس إلا تدويناً صرفاً لوقائع مرت، كان يجب أن تدون.
وه نه و شه، الشخصية المحورية في القصة، التي تهرب من المجهول، بحسب تصورها، فانها تهرب من المعلوم سردياً، أو ان هربها المباغت من منزل خالتها.
هذه الخالة الطيبة قلباً وروحاً ولكن هي امرأة لاحول لها ولاقوة في ظل زوج متعامل مع السلطة، والتي تتوارى شخصيتها تماماً في القصة، من البداية الى النهاية، إلا عندما تتذكرها وه نه و شه بحنين قاتل، لاسيما إدراكها التام بانها لن تترك خالتها إلا بسبب عمالة زوجها ولامبالاة ابنها الثمل على الدوام، الذي بدوره يهجم بشكل لاأخلاقي عليها كل ليلة بعد وجبة ثمالة وحفلات سمر وقمار في بيته مع ثلة من الفاسدين.
بتصفير القطار، صفيره الأول، وسيره على سكة مرعبة باتجاه المجهول بالنسبة لوه نه و شه، يكون تنفسها لاطبيعياً، في ظروف أشبه بالموت المفاجئ، فما أن ترى حركة غريبة، بمناسبة وبلامناسبة، حتى تحس أن كل مَنْ في القطار من مسافرين ومفتشين ومرافقين وطاقم الخدمة ينظرون إليها فحسب، وكأنها وحدها مسافرة في هذا القطار.
في أول بدء الرحلة تجلس الهاربة وه نه و شه الى جانب العمة رحمة خان، في كرسي واحد، بلااستئذان، ثم ما تلبث أن تتمكن من التقرب الى هذه السيدة الفاضلة، التي تحاول أن تهدئ قلق الفتاة التي تجالسها، بين فينة وأخرى، لاسيما ملاحظتها المستمرة لقلقها أثناء تفقد مفتش القطار لتذاكر المسافرين.
تدرك “العمة رحمة خان” للوهلة الأولى، كما ستقول لها هذ الاسم الى آخر القصة، ان الفتاة يكتنف حالتها غموض ما، ولكن لم تكن تدرك انها هاربة من فساد أخلاقي يطاردها، لتحبها أكثر، فيما بعد، بعد سيناريوهات متفاوتة في الطول والتوقيت، تصل المسافرتان معاً الى بغداد، المدينة الحلم بالنسبة لوه نه و شه، تصلان الى منزل شرمين، ابنة رحمة، الفتاة التي تغير من جمال بري، بعد تغيير اسمها الحقيقي، فيقودها فضولها في التعرف أكثر على شخصية بري، التي عرفتها الخالة بانها إحدى قريباتها، ولكن سرعان ما تحس بما يجول في خاطر ابنتها شرمين وغيرتها على زوجها من بري، ذلك الزوج الذي ما كان يعود من عمله الى المنزل إلا في نهاية المساء، فيجده يتردد بين ساعة وأخرى على المنزل بمناسبة وبلامناسبة محملاًُ بأكياس الطعام والملذات.
تقود الأقدار، مصير بري أو وه نه و شه الى (شمال)، ابن العمة رحمة خان، الذي تجده بري لأول وهلة، شاباً حماسياً تقوده مبادئ الكوردايتي بعيداً عن شهوات الحياة، فيعيش متوارياً عن الأنظار، متخفياً في منزل مستأجر في أحد الأزقة المهملة عن طريق رفيق، هو طبيب، دون أن يدرك صاحب الدار أن الشاب المستأجر لديه له مشاكل أمنية وسياسية مع السلطة الحاكمة وهو متخف عن الأنظار.
لايقتنع شمال في بداية الأمر بوجود بري لديه في المنزل، وهو بالأساس يرفض فكرة أن يجالس فتاة، ثم تقنعه والدته بفكرة بسيطة بعد أن تنبهه وتسأله أليس كل نضاله من أجل المساكين والفقراء وإعادة الحقوق الى أصحابها، يرد بكلمة نعم، فتقول له: إذاً ليس أمامك إلا أن تساعد هذه الفتاة وهي في أوج محنتها.
القصة برمتها قصة أقدار مختلفة تقود أبطالها الى مصائر مجهولة، في ظل نظام سياسي قاس، فظ، يستخدم لغة الحديد والنار مع شعبه، والقصة تتمركز أحداثها المتتالية بين كركوك المدينة ذات الأحداث الساخنة وبين بغداد المدينة التي تكون في قمة الهرم السلطوي من سجون وزنازين وقتل تحت التعذيب، وبين السليمانية، ومع ذلك يجد الكردي لنفسه فيها ملجأ ليناضل من أجل عدالة قضيته.
في أول خروج له من بغداد، بعد أن يتعرض منزله للتفتيش والمداهمة من قبل رجال الأمن، يتوارى شمال في بيت شقيقة رفيق له في كركوك، لايخرج من البيت، بينما رجل البيت يعمل طاهياً لدى مدير شرطة كركوك، فيشك هذا الرجل بضيفه، متسائلاً في قرارة نفسه: لماذا ضيف شقيق زوجتي في منزلي؟ وسرعان ما تكبر الشكوك وتتفرع الى أن يقوده تفكيره الى شراء مسدس وقتلهما معاً، زوجته والضيف، في شك أوحد في إنهما يخونانه.
يأتي القدر هذه المرة من صوب الزوجة، التي تحس بقلق زوجها حيال مكوث ضيفهما في البيت وعدم خروجه، فتتقرب اليه بود، ونعومة، وتقنعه بأن كل ما يفكر فيه هو محض شك لاأكثر، فيخجل الزوج من تصرفه الخاطئ بعد أن يعرف من زوجته أن ضيفه أحد الملاحقين من قبل الأجهزة الأمنية، وهو مناضل كردي، وقد توارى في منزله بالذات لأنه يعمل في منزل مسؤول أمني لا أحد يتجرأ على الاقتراب منه تحت أي ذريعة كانت، ثم ما يلبث أن يقود الطاهي قدره نحو منحى آخر، وهو منحى السياسة التي لم تك تعني آنذاك إلا الولوج الى صفوف المناضلين من أجل الكوردايتي، فيبدأ الطاهي بتوزيع البيانات السياسية على كل من يصادفه في طريقه بين حقول بابا كركر وبين مكان عمله اليومي، غير آبه بالمصائر، بعد أن فكر ملياً بأن الانسان يلاقيه الموت الحتمي، فلماذا لايموت ميتة مشرفة.
في الطريق من بغداد الى كركوك، وهذه المرة أيضا تكونان وه نه و شه ورحمة خان في كرسي واحد في القطار، ولكن هذه المرة في الدرجة الثانية، وفي غرفة المبيت، وبخوف أقل، ليذهبا الى شمال هناك، واجواء القطار فيها مصير معتم كأضواء عربات القطار الخافتة، يصلان الى عنوان أشبه بسر مستتر، الى استديو تصوير: وكلمة السر “فريدون يسلم عليك” فيصطحبهما الشاب (مريوان) الى حيث المطلوب، بعد أن تكون بري أو وه نه و شه قد حلمت ب(شمال) وهي نائمة في القطار، أن شمال يقبلها من فمها بحرارة وأن عنقها وصدرها كله ملك لشمال وكذلك شمال بكل شبابه ملك لفتاة جميلة وجذابة مثل (بري).
“عابرة سبيل هائمة”، قصة تعيد الى الأذهان ماعاناه الكرد أبان حكم الطاغية في العاصمة ومدن أخرى، وليس في أماكن سكناهم على أرضهم التاريخية فحسب، هي قصة يغيب عنها الخيال فتضحي بمجملها وأحداثها قصة واقع معاش بامتياز، قصة المقاومة الباسلة لشعب كردستان سواءً أكان في بغداد أو في كركوك أو في السليمانية، وفي القصة أحداث مفجعة لانود التحدث عنها ليتابعها القارئ بنفسه.
وأخيراً لقد استمتعت بقراءة هذه القصة الطويلة للسيدة الروائية كلاويز كما استمتعت بقراءة روايتها “ العالم غابة”.[1]