د.محمد نورالدين
يشكِّل كرد تركيا النسبة الأكبر من الكرد المتوزّعين جغرافيّاً على ثلاث دول أخرى، هي: إيران والعراق وسوريا. وعددهم في تركيا يخضع فقط للتقديرات و«الدراسات»، إذ إن إحصاء السكّان الدوري الذي يجري في هذا البلد، منذ عام 1923، لا يشمل الأعراق والقوميّات ولا المذاهب. ف«معاهدة لوزان»، الموقّعة في 24 تموز من ذلك العام، اعترفت بوجود أقليّات دينية هي المسيحية واليهودية، لكنّها لم تعترف بوجود أقليّات عرقية أو مذهبيّة. بذلك، خسر الكرد أولى معاركهم مع الأكثرية التركية، تماماً كما خسر العلويون معركتهم مع الأكثرية السُنيّة. ولإسقاط الكرد والعلويين من تصنيف الأقليّات أهميّة قصوى، إذ يحقّ لتلك المعترَف بها في «لوزان»، أن تمتلك لغتها ومدارسها وصحفها، أي أن تمتلك هويّتها.
ونتيجة لذلك، افتقد الكرد هويّتهم. وشكّل ما تقدَّم جوهر الصراع الذي انفتح بينهم وبين الأكثرية التركية، والذي كان في أساس الاضطراب وعدم الاستقرار وإراقة الدماء المستمرّ منذ مئة عام.
تتفاوت «التقديرات» بالنسبة إلى عدد الكرد، بين مَن يقول إن عددهم يبلغ بين خمسة إلى سبعة ملايين نسمة، وبين الكرد أنفسهم الذي يقدّرون عددهم ب 12 إلى 15 مليوناً، مقارنةً بحوالي سبعة ملايين في إيران، وخمسة ملايين في العراق، ومليونَين في سوريا.
وكان «مَحو» الكرد من خريطة «لوزان» سبباً في اندلاع انتفاضات وثورات وتمرّدات مباشرةً أعقبت إعلان الجمهورية، للمطالبة بالاعتراف بالهوية الكردية وخصوصيّة الشعب الكردي. وقد تفاقم الاضطهاد الرسمي ضدّهم، كون ما لا يقلّ عن ثلثهم ينتمي إلى المذهب العلوي غير المعترف به أيضاً. وبذلك، التقى في الكردي - العلوي اضطهادان، أضيف إليهما اضطهاد ثالث، لأن معظم قواعد الحركات اليسارية الشيوعية والاشتراكية التي تعاظمت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، من المنتمين إلى النزعتَين الكردية والعلوية. وغالباً ما كانت الانتفاضات الكردية تتماهى مع الاحتجاجات العلوية، بحيث لم يَعُد يُعرف بدقّة ما إذا كانت الثورات ذات منطلق كردي أو علوي، وغالباً ما كانت تَجمع الصفتَين.
وقد شهد الاعتراف بالهوية الكردية من عدم الاعتراف بها مفارقاته الأكبر في عهد مؤسّس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك.
فبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في عام 1918، أَطلق مصطفى كمال حرب التحرير الوطنية، التي انضمّ إليها الكُرد، بعد وعود مؤكدة تاريخيّاً من «أتاتورك» بمنْحهم حكماً ذاتيّاً في جنوب شرق البلاد عام 1922، علماً أن «اتفاقية سيفر»، عام 1920، بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والسلطان العثماني، لحظت منْح الكرد حكماً ذاتيّاً، لكن «معاهدة لوزان» جاءت لتنسف الاتفاقية المذكورة، ومعها وعود الحكم الذاتي، ليخرج الكرد من «لوزان» بخفّي حنين، ولتبدأ بالتالي مرحلة طويلة مليئة بالانتفاضات والتمرّدات، كان أبرزها ثورة الشيخ سعيد بيران الكردي عام 1925، والتي انتهت بإعدامه؛ ومن ثمّ انتفاضة آغري الأولى والثانية في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات.
وبعد ثورة الشيخ سعيد، اتّخذت السلطات التركية إجراءات أضعفت الوجود الكردي في مناطقهم، مِن مِثل تهجير السكان إلى أماكن بعيدة واستبدالهم بسكّان أتراك. وظهرت، خلال ثورة آرارات في عام 1930، تصريحات لوزير الداخلية التركي، محمود عزت بك، عكست حقداً جارفاً على العرق الكردي، إذ قال: «التركي هو السيّد والمالك الوحيد في هذه البلاد، وللأتراك غير الأنقياء (أي الكرد) حقّ واحد هو أن يكونوا عبيداً وخَدَماً».
لعلّ الحدث الأشهر في تاريخ الكرد انتفاضة ديرسيم في عام 1936، التي جمعت الصفتَين العلوية والكردية بقيادة سيد رضا.
وقد سُحقت الثورة بدموية قاسية، وأُعدم سيد رضا في 15-11-1937، ليعقبها سكون دام أكثر من ثلاثة عقود. وفي 7 كانون الأوّل 1936، قال وزير الداخلية التركي، شكري قايا، أمام البرلمان، إن أصل الكرد هم الأتراك الذين في الجبال. ومنذ ذلك الحين، شاع مصطلح «أتراك الجبال» في ذروة انعكاس الإنكار للهوية الكردية.
كان الإحياء الكردي متلازماً لظهور الحركات اليسارية في الشارع، كما في الجامعات في السبعينيات. ومن كلية الحقوق في أنقرة، انطلق الوعي الكردي الجديد مع الطالب عبد الله أوجالان الذي شكّل نواة الحركة القومية الكردية على قاعدة يسارية ماركسية، فكان تأسيس «حزب العمّال الكردستاني» عام 1978، الذي شكّل محطّة حاسمة في تاريخ الحركة الكردية.
وقد جعلت ماركسية «العمّال» قادة الحزب بزعامة أوجالان على طرفَي نقيض أيديولوجي مع الفئات الكردية المحافظة في تركيا، كما مع الأحزاب الكردية التقليدية في شمال العراق، وعلى رأسها «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، بقيادة الملّا مصطفى بارزاني.
مع ذلك، نجح «العمّال الكردستاني» في كسْب جانب كبير من الرأي العام الكردي في الداخل التركي، كما في الدول الأخرى. وكان له الدور الأبرز في بلورة الوعي الكردي، وإبرازه؛ وجاء في مقدمة مطالبه العمل على إقامة دولة كردية مستقلّة في تركيا.
وعلى الرغم من العامل الخارجي في الحركة الكردية في العقود الأولى من عهد الجمهورية، غير أنّه برز بصورة أكثر وضوحاً مع إطلاق «حزب العمّال الكردستاني» الرصاصة الأولى، في 15 آب 1984، على مخفر للقوى الأمنية التركية في قرية أروح.
فانتقلت معظم قيادات الحزب، وفي مقدّمها عبد الله أوجالان، للعيش خارج تركيا، ولا سيما في سوريا، كما أُنشئت معسكرات تدريب للمقاتلين الكرد في كل من سوريا ولبنان.
وشكّل 15-08- 1984، بدايةً لواحدة من أكبر عمليات التمرّد الكردية على الدولة التركية، عندما أَطلقت مجموعة من المقاتلين الكرد الرصاصة الأولى التي استهدفت مخفراً تركيّاً في قرية أروح في جنوب شرق البلاد، لتبدأ مواجهة عسكرية هي الأطول بين الكرد والجيش التركي، لا تزال مستمرّة حتى اليوم، وأودت بحياة أكثر من 40 ألفاً من الطرفَين من عسكريين ومدنيين.
ولم تخرج المسألة الكردية من كونها المشكلة الأساسية بين تركيا وسوريا، إلّا مع مطالبة أنقرة، في أيلول - تشرين الأوّل عام 1998، بضروة إخراج أوجلان من سوريا، وهو ما حصل في النصف الأوّل من تشرين الأوّل، بمغادرة زعيم «العمّال الكردستاني» إلى اليونان ومن ثم إلى روسيا وإلى اليونان مجدّداً فكينيا، حيث اعتُقل في 15 شباط 1999، في عملية مشتركة للاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والتركية، ونُقل إلى تركيا. حُكم على أوجالان بالإعدام، لكن أنقرة أَلغت، تحت ضغط الاتحاد الأوروبي، هذه العقوبة، واستبدلتها بالمؤبد، فيما لا يزال الرجل يقبع في زنزانة في جزيرة إيمرالي النائية في بحر مرمرة.
ونتيجة لإخراجه من سوريا، تحسّنت العلاقات بين البلدَين، ووقّعت «اتفاقية أضنة» الشهيرة، في 20-10- 1998، لتنظيم العلاقات الأمنية بين أنقرة ودمشق.
وبعد الغزو الأميركي للعراق والضغوط التركية على مقاتلي الحزب، استغلّ «الكردستاني» الفوضى في العراق وتمركز معظم قادته وعناصره في منطقة جبال قنديل، في المثلّث التركي - الإيراني - العراقي.
وفي فترة الاعتقال، طوّر أوجلان من نظرية الدولة الكردية في اتجاه التخلّي عنها، والدعوة، بدلاً من ذلك، إلى إقامة كونفدراليات داخل كل دولة في تركيا والعراق وإيران وسوريا بين المكوّن الكردي والأكثرية الحاكمة، على أن تقوم لاحقاً كونفدرالية كردية عامّة تجمع بين الكونفدراليات الكردية الأربع.
لم يقتصر حضور الحركة الكردية في تركيا على الجانب العسكري ومع بداية التسعينيات، بدأت تنخرط في العملية البرلمانية.
وبما أن النظام الانتخابي التركي كان يحول دون دخول الحزب الذي يحصل على أقلّ من 10%، البرلمان، فقد ترشّح الكرد على لوائح أخرى، ولا سيما تلك العائدة لوريث «حزب الشعب الجمهوري»، «الحزب الاجتماعي الديموقراطي»، بزعامة أردال إينونو.
ومن ثمّ كان الفائزون يعودون إلى أحزابهم الأصلية. لكن هذه الوسيلة، التي كانوا مضطرّين إليها، كانت تخسّرهم أكثر من نصف عدد النواب الذي يمكن أن يستحقّوه. ولم تكن التجربة البرلمانية للكرد ناجحة؛ فقد كانت أحزابهم تتعرّض للإغلاق الدائم من جانب المحكمة الدستورية بذريعة دعْم الإرهاب، ليؤسّسوا في كل مرّة أحزاباً جديدة غيرها، وهكذا دواليك. كما تعرّض النواب الكرد للاعتقال أكثر من مرّة.
وكانت الوعود التي أطلقها حزب «العدالة والتنمية» بُعيد وصوله إلى السلطة عام 2002، مثار ترقُّب من جانب الكرد. فقد اعترف إردوغان، في صيف عام 2005، بوجود قضيّة كردية في تركيا. ولكن اعترافه لم يُترجَم على أرض الواقع، وبقيت معظم المطالب الكردية حبراً على ورق. على أن الاعتراف هذا لم يكن الأوّل من نوعه، إذ سبقه إليه رئيس الوزراء، سليمان ديميريل، في خريف 1991، عندما اعترف ب«الواقع الكردي»، ومن ثم رئيسة الوزراء، طانشو تشيللر، التي دعت إلى تطبيق نموذج الباسك في تركيا، ورئيس الوزراء، مسعود يلماز، الذي قال إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يمرّ من ديار بكر، أي الاعتراف بالقضيّة الكردية.
لكن ما تقدَّم لم يَعْدُ كونه وعوداً كاذبة لكسْب الصوت الكردي، بسبب اعتراض الدولة العميقة المتمثّلة بالمنظومة الإسلامية التركية على منْح الكرد أيّ نوع من أنواع الحكم الذاتي أو أيّ مطالب تتعلّق باللغة الكردية، بذريعة أن مشكلة الكرد ليست مشكلة سياسية أو ثقافية، بل مشكلة أمنية يتطلّب حلّها استخدام القمع والبطش.
وترى النخب القومية (علمانية كانت أو إسلامية) أن أيّ «تنازل» للكرد، سيفتح الطريق أمام قيام دولة كردية مستقلّة على حساب الوطن التركي.
وشهد عام 2015 نقطة تحوّل مهمّة، فترشّح الكرد ليس بصفة مستقلّين أو في لوائح أحزاب أخرى، بل كحزب مستقلّ هو «حزب الشعوب الديموقراطي»، والذي استطاع أن ينال 13.12% مع ثمانين نائباً، وبالتالي التمثّل في البرلمان بكامل قوّته، وهو ما كان يحدث للمرّة الأولى.
وكان لذلك نتائج سياسية مهمّة جداً ستترك أثرها على الحياة السياسية والتوازنات في البرلمان. إذ حَرم الفوز بهذه الطريقة، «العدالة والتنمية» الحاكم، من «سرقة» عدد كبير من النواب الكرد، فخسر الحزب حينها، للمرّة الأولى، الأكثرية المطلقة في البرلمان (276)، ونال 258 نائباً.
لكن رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، ضغط من أجل إعادة الانتخابات بعد أربعة أشهر. وخلال هذه الفترة، عَرفت تركيا واحدة من أكثر مراحلها دموية، عندما صعّد الجيش حملته على «حزب العمّال الكردستاني» والمدن الكردية في جنوب شرق تركيا، واعتقل العديد من أنصار «الشعوب الديموقراطي»، لينجح الحزب الحاكم في الفوز مجدّداً بالأكثرية النيابية، في انتخابات الأوّل من تشرين الثاني من ذلك العام، حاصداً 317 نائباً. لكن، مع هذا، نجح «الشعوب الديموقراطي» في الفوز، ونال 10.76% (59 نائباً)، وتكرّر انتصاره في انتخابات 2018، حين حصد 11.70% (67 نائباً).
بهذه النتائج، تحوّلت الحركة الكردية المؤيّدة لعبد الله أوجلان، إلى رقم صعب في المعادلة السياسية الداخلية. ولولا دعم حزب «الحركة القومية» - من منطلق عرقي - لحزب «العدالة والتنمية»، لكانت سلطة الأخير قد انتهت منذ عام 2015.
تواجه الحركة الكردية، اليوم، تحدّيات كثيرة في الطريق إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرَّرة في حزيران المقبل (وربّما قبل ذلك). فجميع المؤشرات واستطلاعات الرأي تدلّ على أن فرص إردوغان للفوز بالرئاسة، غير مضمونة، في حال توحّد المعارضة حول مرشّح مشترك واحد، إذ تدلّ النتائج على إمكانية تعادل مرشّحي السلطة والمعارضة، بما يعادل 40%-42%.
لكن فوز مرشّح مشترك للمعارضة يصبح مؤكداً في حال تأييد ناخبي «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي له، فينال على الأقل 52%-54%. لذلك، تبدو الأشهر المقبلة حبلى بمفاجآت وتطوّرات في الصراع على الصوت الكردي، حيث أعلن «تحالف العمل والحرية» اليساري الذي يضمّ الحزب الكردي، أنه سيتقدَّم، في الدورة الأولى، بمرشّح خاص به، مؤجّلاً الحسم إلى الدورة الثانية لمعرفة إلى من سينحاز الناخب الكردي، مع الإشارة إلى أن إردوغان يجد في الحالة الكردية متنفّساً له، ليَظهر بمظهر الزعيم الوطني وقائد الأمة التركية من خلال الحملات العسكرية في شمال العراق وشمال سوريا وفي الداخل التركي لاستهداف عناصر «العمّال» و«امتداداته».
كما تستهدف الحكومة التركية الواقع السياسي الكردي في البرلمان والبلديات، من خلال إقالة رؤساء البلديات الكرد، وتعيين موالين ل«العدالة والتنمية» بدلاً منهم. أيضاً، يحاول إردوغان أن يستخدم قدْر الإمكان ورقة اعتقال عبد الله اوجالان لتوجيه رسائل ضغط للحركة الكردية عشيّة كل انتخابات رئاسية أو نيابية أو بلدية.[1]