عندما يتم الاعتراف بإبداع الأكراد تكريما لهويتهم
شعراء وروائيون وفنانون يقعون ضحايا الجنسيات المكتسبة على حساب الهوية الأصلية
عارف حمزة
ليس الأمر مرتبطاً بالتعصب القومي، عندما يكتب أحد الكتاب الكرد، أو يصرح، بأنه كاتب كردي، فإذا أخذنا أمر الجنسيات الأخرى بعين الاعتبار، كأن نقول، كاتب فرنسي أو كاتب مصري أو عراقي أو ألباني أو كولومبي، يصبح الأمر عادياً بذكر ذلك الوصف حول الكاتب الكردي، على رغم أن ذلك الوصف هو وصف ما زال منفياً عن الخرائط الواقعية على هذه الأرض.
هذه الحساسية التي تنهش دواخل كل مبدع كردي دفعته مراراً إلى الملاحقة والاعتقال والمنفى والإنكار، من زملائه على الأقل، وكذلك إلى الموت. بمجرد أن يُصرح ذلك المبدع بأنه كردي تنهار وتنقلب عليه جنسيته السورية أو العراقية أو الإيرانية أو التركية، وهي البلدان الأربعة التي محت كردستان عن هذه الأرض.
في تركيا كان الأمر مأساوياً لكاتب أو فنان تركي يُصرح بكرديته علناً، فكان يتلقى هجوماً عنيفاً حتى من زملائه، وتذهب به المحكمة إلى السجن بتهمة زعزعة القومية التركية والدعوة لانفصال جزء من أراضي الدولة، وهي ذات التهمة في الدول الثلاث الأخرى.
بعد استلام مصطفى كمال أتاتورك (1881 – 1938)، الحكم في تركيا، والحكومات التي تلته، صارت حياة الكرد مأساوية، وصار يحق لأي عنصر من الشرطة أن يدخل البيت الذي تصدح منه أغنية كردية ويُكسر أثاثه ويأخذ رب البيت إلى التحقيق والسجن. ولم ينج عرس كردي من قتيل أو جريح أو معتقلين إذا صدحت الأهازيج الكردية، ليتحول العرس بسرعة وببساطة إلى مأتم.
ولا يُمكن نسيان الحافلات التي كانت تُقل الأكراد إلى مكان الاحتفال بعيد النوروز، وهي تتلقى الحجارة والاعتداء من بعض جيرانهم الذين يسكنون بينهم، كل عام، طوال ذلك الطريق.
يلماز غوناي مكرماً في مهرجان كان
في عام 1982 فاز فيلم الطريق للمخرج الممثل السينارست الكردي التركي يلماز غوناي (1937 – 1984)، مع فيلم اليوناني كوستا غافراس، بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي. وعلى رغم ظهور اسم تركيا، وليس كردستان، بأنها الدولة التي ينتمي إليها المخرج الفائز، إلا أن تركيا لم تحتفل ذلك الاحتفال المنشود، بل انتظرت حتى عام 2014 لتحتفل بفوز المخرج المصور السيناريست المنتج، نوري بيح جيلان (69 عاماً) عن فيلمه “البيات الشتوي”.
يلماز غوناي تعرض للسجن مرات عدة، وكان نجماً جماهيرياً معروفاً جداً، ومرحباً به كثيراً من النقاد الصحافيين والسينمائيين، سواء في تركيا أو خارجها، وشفعت له تلك النجومية أداءه بعض الأدوار التجارية “التافهة والرديئة”، على حد تعبيره في إحدى الحوارات التي أجريت معه قبل رحيله.
الهالة الكردية التي أحيطت به بعد رحيله بمرض السرطان وهو في السابعة والأربعين من عمره، بعد هروبه من السجن إلى فرنسا، تجعل أحدنا يسأل أسئلة منطقية، هل فكر غوناي نفسه بكرديته ومحاولة إبرازها والدفاع عنها؟ هل اعتُقل أكثر من مرة من السلطات التركية بسبب كرديته؟ أم بسبب نشاطه السياسي وبتهمة الشيوعية؟ وهل من الضروري أن يُعلن المبدع قوميته على الدوام لكي يحصل على محبة أبناء جلدته؟ أم يكفي النظر إلى درجة إبداعه من دون النظر إلى تلك الاعتبارات التي قد تُغطي في مرات كثيرة على عدم جودة، كي لا نقول رداءة، ذلك المنجز؟
مشاركة غوناي في الأفلام التركية تمثيلاً، وإخراجه لكثير من الأفلام باللغة التركية، لا تعني عدم تمسكه بخلفيته الكردية، بخاصة أنه من المعروف أن القوانين التركية منعت التمثيل والغناء والكتابة باللغة الكردية.
يشار كمال ونوبل
القاص السيناريست الروائي الكردي التركي، يشار كمال (1923 – 2015) الذي كان في السنوات الأخيرة مرشحاً أبدياً لجائزة نوبل للأدب، ورحل من دون أن ينالها، هو مثال آخر مشابه لمثال يلماز غوناي. بخاصة أنهما عاشا في المدينة نفسها (أضنة) بعد أن انتقلت إليها عائلته، وهناك شاهد كمال وهو في الخامسة من عمره مقتل والده في الجامع.
الروائي ياشار كمال (غيتي)
صاحب رباعية “محمد النحيل” نال عديداً من الجوائز التركية والفرنسية، ولم يُمنع من العمل الصحافي في صحيفة “جمهوريت” الواسعة الانتشار في تركيا. وكتب جميع أعماله باللغة التركية، وببساطة لأن لغته الأم الكردية كان ممنوعاً التعلم بها لجميع المراحل.
ماذا لو فاز يشار كمال بجائزة نوبل للأدب، هل كان سيُصنف كاتباً كردياً فائزاً بتلك الجائزة الكبرى؟ بالتأكيد كان سيُصنف ككاتب تركي، كما حصل عندما نال في عام 1978 جائزة أفضل كاتب أجنبي في فرنسا.
تهمة العنصرية
يختلف الموسيقار المغني الكردي التركي، أحمد كايا (1957 – 2000) عن غوناي وكمال، وكذلك عن كثير من المبدعين الكرد، في إبراز كرديته التي غيرت حياته ومكانته وأمكنته.
كان كايا في التاسعة من عمره عندما غنى وعزف أمام حشد كبير بمناسبة عيد العمال، لكنه اعتقل وهو في العاشرة من عمره لتوزيعه منشورات ضد انقلاب 27 مايو (أيار) 1960. كما تأثر بالأجواء والآمال التي صاحبت انقلاب عام 1970، وصار يتنقل بين المحافظات والمدن التركية ليُغني أغاني وطنية تركية تُمجد الثورة والديمقراطية وحقوق الإنسان. وصار نجماً بين طلاب الجامعات، وهذا ما جعل ألبومه الأول “بكاء الطفل” في عام 1985 يبيع أكثر من 500 ألف نسخة، على الرغم من خوف كايا من اعتقاله بسبب ذلك الألبوم الذي نال في نفس العام جائزة الصحافة التركية.
غنى كايا وكتب باللغة التركية، وفي عام 1999 قرر أن يصدر ألبومه الأول بلغته الأم/ الكردية. ولكن هل اختار توقيتاً سيئاً للإعلان عن ذلك؟، ففي شهر فبراير (شباط) من ذلك العام، نال جائزة موسيقار العام عن تلفزيون شو التركي. وعند تسليمه درع الجائزة قال كايا عدة جمل بأنه أخيراً سيصدر ألبومه الأول بلغته الأم الكردية. وبأنه لا يعرف إذا كان الأمر سينجح أم لا.
المغني أحمد كايا (فيسبوك)
كان أحمد كايا يقول تلك الجمل العاطفية أمام زملائه المغنين والملحنين، الكرد منهم والترك، بفرحة كبيرة، وبابتسامة واسعة لتغطية الدموع التي غزت عينيه بأنه أخيراً سيستطيع إصدار ألبومه الأول بلغته الأم.
لم تمض دقائق، بل كان كايا ما يزال على المنصة، حتى قامت زميلاته وزملاؤه من المغنين والموسيقيين الشهيرين بالتهجم عليه، والصراخ بطرده ليس من القاعة فقط، بل من كل البلاد، وصاروا يغنون النشيد القومي التركي في القاعة. فاضطر كايا أن يضع الدرع على الطاولة، ويخرج بحماية البوليس التركي، الذي أخذه إلى النائب العام لتتم معاقبته بالسجن ستة أشهر بتهمة العنصرية.
خلال فترة سجنه تلك سمحت له السلطات التركية، في شهر يونيو (حزيران)، أن يُغادر إلى فرنسا، لإحياء حفل موسيقي كان كايا قد اتفق معهم عليه سابقاً، على أن يعود بعد الحفل ليُكمل مدة سجنه، لكنه بقي في باريس ليموت بنوبة قلبية عن ثلاثة وأربعين عاماً فقط، وما زال جثمانه مدفوناً في مقبرة العظماء.
بهمن قوبادي المصر على كرديته
يُعد المخرج الكردي الإيراني بهمن قوبادي (1969) من أفضل المخرجين الكرد، كما يعتبره كثيرون من النقاد خليفة يلماز غوناي. ويُعد كذلك من أكثر المبدعين الكرد الذين أرادوا، في كل مناسبة، وصفهم بالكردي بدلاً من جنسياتهم الأخرى. بل أن قوبادي نادى في إيطاليا، على هامش تقديم فيلمه المميز “موسم الكركدن”، باستقلال كردستان، وبأنه يُفضل تقديمه كمخرج كردي وليس كمخرج إيراني!.
لذلك يُمنع على قوبادي دخول إيران، بل يعيش صاحب فيلم “السلاحف تستطيع أن تطير” منذ سنوات طويلة في هولير – أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق.
“كل داخل سيهتف لأجلي”
في السنوات الأخيرة تعلم عديد من الكتاب الكرد الكتابة بلغتهم الأم مباشرة، ليس في إقليم كردستان العراق فحسب، حيث صار يُسمح هناك بتعلم اللغة الكردية في المراحل الدراسية الأولى والجامعات منذ سنوات طويلة، فصار عديد منهم يكتب بالكردية مباشرة مثل الروائي “بختيار علي”، بل في سورية التي ما زالت السلطات تمنع فيها تعلم هذه اللغة، على الرغم من سماحها بتعلم لغات مثل الآشورية والسريانية في المناطق التي تسكنها الغالبية الكردية.
تعلم كثيرون في سورية، ولو على كبر، لغتهم الأم كتابة وقراءة وصاروا ينشرون كتبهم الكردية في دور نشر كردية في العراق وتركيا، مثل الشاعر أحمد الحسيني (1955) والروائي الشاعر المترجم جان دوست (1966)، والروائي القاص حليم يوسف (1967)، والأخيران يعيشان منذ سنوات طويلة في ألمانيا، على سبيل المثال. بينما هناك كثير من الكتاب الشباب، بخاصة الشعراء منهم، صاروا يكتبون باللغة الكردية مباشرة، وصار مجايلوهم يترجمون نصوصهم إلى العربية.
العلامة الفارقة للكرد السوريين كان، وما يزال، الشاعر الروائي الكبير سليم بركات (ولد في قرة موسيسانا، عامودا في عام 1951)، لدرجة أن أحدنا يُطلق عليه صفة “هبة الله للأكراد” ببساطة وبراحة كبيرة.
بقي بركات في مسقط رأسه حتى بلوغه التاسعة عشرة، ليذهب إلى دمشق ويدرس الأدب العربي في جامعتها، لكنه غادر دمشق بعد عام واحد، أي في عام 1971، ليذهب إلى بيروت التي بقي فيها حتى عام 1982. من هناك انتقل إلى قبرص حتى عام 1999، حيث يعيش منذ ذلك العام في مملكة السويد.
برز اسم سليم بركات بشكل مبكر من خلال مجموعته الشعرية الأولى “كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً” التي صدرت طبعتها الأولى في عام 1973 عن دار مواقف. ومن بعدها صار من أشهر الشعراء والروائيين الكرد، وأسلوبه في الكتابة جعله رائداً في ذلك، وصارت كتب النقد تذكره كمدرسة في الكتابة الشعرية السورية، وليس الكردية، التي لها مريدوها الكثر، مثل مدارس نزار قباني ومحمد الماغوط وأدونيس.
يختلف بركات في أنه يُذكر دائماً ككاتب كردي، على الرغم من عدم كتابته أي كتاب باللغة الكردية من ضمن منشوراته التي زادت عن الخمسين، وعلى رغم كل هذا الحضور فإن بركات لم ينل أية جائزة لا في الشعر ولا في الرواية. ليس المقصود فقط تلك الجوائز التي يجب على الكاتب، أو دار النشر، أن يترشح لها، بل كذلك تلك الجوائز التي لا تحتاج إلى ترشيح. وربما لو نال بركات إحداها لذُكر مباشرة ككاتب كردي أكثر منه ككاتب سوري.
مالفا الرسام
في عام ولادة بركات ولد في الحسكة الفنان التشكيلي الكردي العالمي عمر حمدي/ مالفا (1951 – 2015)، الذي اعتبر من الرسامين العشرة الأفضل في العالم، والذي كان يترأس لجنة التحكيم في غاليري آرت فوروم للفن المعاصر في العاصمة النمساوية فيينا، وبيعت لوحاته بأسعار ضخمة، ورحيله المبكر كان فاجعة للنمسا ولسورية أكثر منه للأكراد، الذين شن بعض صحافييهم وكتابهم هجوماً عليه مدعين، حتى قبل رحيله، أنه “تنصل من كرديته”، وهذا ما جرح عميقاً مالفا خلال أواخر حياته.
كان مالفا يُذكر على أنه فنان عالمي نمساوي من أصل سوري، ويبدو أنه كان من المشقة ذكر أصوله الكردية في ذلك التقديم كي لا يطول. تلك الأصول التي من الممكن أن تذكر خلال الخوض في التفاصيل.
العثمانية والكرد… تحالف مرتبك وميراث دموي يتجدد (2-1)
على هذا المنوال يذكر كاتب بأنه فرنسي من أصول تشيكية، أو ألماني من أصول عراقية، أو فرنسي من أصول مغربية، فكانت تلك الأصول تدل على جنسية سابقة للكاتب أو الفنان الذي حصل على جنسية دولة أخرى وأقام فيها. ولأنه لا توجد، لحد اللحظة، جنسية كردية، فإن ذكر الأصول الكردية يُعد وصفاً شاقاً في الإضافة، لذلك يتم التخفف منها ومنه، فلا نقدم الكاتب على أنه كاتب سويدي من أصول سورية وكردية، أو كاتب سويدي من أصول سورية كردية، أو كاتب سويدي من أصول كردية سورية.
حساب طويل
يتعرض كثير من الفنانين والكتاب الكرد، بخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، مع بروز حركات وأحزاب قومية كردية، لكثير من المساءلة حول “اعتزازهم” أو “تنصلهم” من أصولهم الكردية، بل صار مثقفو تلك الأحزاب يطلبون من الكاتب الكردي الكتابة باللغة الكردية، بدلاً من الكتابة بالعربية أو التركية أو الفارسية، وإلا سيتعرضون لحملة كبيرة تنال منهم سواء خلال حياتهم أو بعد رحيلهم!!
في الوقت نفسه كانت تحدث مقاطعة للكاتب الكردي السوري، على سبيل المثال، من زملائه ومجامليه من الكتاب العرب السوريين، ويصيرون ينظرون إليه كقومي يرغب باقتطاع جزء من بلدهم سورية، بل وصل الأمر ببعض الكتاب العرب أن كتبوا تقارير للاستخبارات عن زملائهم، الذين صاروا قوميين كرد، وكأنه لم يُولد كردياً أصلاً.
لذلك نجد المبدع الكردي واقعاً تحت هذا الضغط الهائل من تفاصيل وأحاديث جانبية، ومن كثير من الأطراف، قد تفتك بفنه وإبداعه، في الوقت الذي لا يحتاج فيه إلى اعتراف من أحد، فإبداعاته سوف تواصل حياتها خارج حزنه وضجره الكبيرين، وولادته تلك، في ذلك الحزن المتواصل من النحيب الكردي، سيبقى ملتصقاً به مثل تلك الشعيرات الدموية الرقيقة وهي تتضخم، بسبب الأسى، في العينين.
[1]