السوري رشيد حسو فنان لا يكتفي بتنظيم تجربته بل بإبلاغها
قراءة بصرية في جدلية العلاقة بين العمل الفني والمتلقي
غريب ملا زلال
في رحلته نحو تأسيس تجربة تشكيلية خاصة به وحده لا ينسى الفنان الكردي رشيد حسو أن يبحث في تساؤلات كبرى ويجيب عنها، ومنها العلاقة بين العمل الفني والمتلقي وتحديدا الإجابة عن سؤال من يقرأ من، اللوحة أم المشاهد؟
“إن لم تجدني بداخلك، فإنك لن تجدني أبدا”، كلمات قالها قطب الصوفية جلال الدين الرومي تذكرتها وأنا أطوف بين أعمال الفنان التشكيلي الكردي رشيد حسو، بل أحسست أن أعماله تلك تخاطبني بهذه الجملة، وكأنها تقول لي: اِلتفت إلى دواخلك فأنا هناك، وإذا أردت أن تقرأني جيداً إقرأ ما في هذا الداخل وأنت تتأملني، وقد تكون هذه المقدمة وخزة لمفهوم القراءة التشكيلية، وإجابة عن سؤال مَن يقرأ مَن؟
هل نحن نقرأ اللوحة أم هي التي تقرأنا، وبالتالي كل ما نقوله وما نكتبه هو ما تولّده اللوحة في دواخلنا، فقط نحن نقوم بترجمته للقارئ.
وما يفسر هذه الحالة قد تكون تلك الاعتباطية القائمة على إلحاق الظاهرة بمعطيات تفرضها مقتضيات الداخل التي تجعل المتلقي ينتقل عفويا إلى أصوات هي التي تقود ذاكرته نحو تحويل الجوهر من الملموس إلى المجرد.
أقول قد تكون تلك الاعتباطية فاعلة إلى حد كبير في تجربة الفنان رشيد حسو، في تشكلها وإقلاعها، والتي تملك قيمة معرفية بمردود تحليلي هي في واقع الأمر متواليات صوتية تلحق تغييرا ما في مفهوم التصور الذهني لديه، وهذا يشكل علامة لتصنيفاته الموجودة داخل تجربته، فالأمر هنا لا يتعلق بحسو كنسق ثقافي، بل بمنتجه كحقل معرفي تُرْبته هي مجهودات حسو في تعامله مع هذه التجربة التواصلية مع الإنسان بوصفها ألسنة عدة تستحوذ على الكثير من الإيماءات التي يستخدمها ضمن قدرته على الخلق خارج أيّ إخضاع لأداة يسقطها في التكيف مع سلوك تحكمه اعتبارات أخلاقية/اجتماعية.
إنه فنان لا يكترث بتلك الإجراءات التدليلية، الأمر الذي يجعله يمسك المعاني ويلاحقها في جميع مواقعها، أو يقودها نحو تحديد خاصيتها، فحسو يطلق اللسان لعمله وفي جميع الحالات، بل في جميع الوحدات المنتمية إلى حامله الذي يملك البحث كأهم خاصية من الممكن أن يحرك بها حسو كيانه التعبيري.
ركام الفنان من الألوان بإجراءاته الدقيقة هو في حد ذاته وحدة جمالية تستدعي الربط بين أكثر من جهة وبالتالي بين أكثر من عنصر، وهنا يكمن سر بصمته الفنية التي تتحدث عن نفسها بكل اللغات وتنشط الذاكرة الذاتية لديه، الذاكرة التي لا تحتاج إلى ضبط الصوت ولا إلى إجراءات التعيين، بل إلى إمكانيات البحث بأشكالها وإشاراتها على نحو يرقى بها نحو وجود غير محكوم بقوانين تحدد هويتها.
لن تكون الذاكرة الجمعية عاقرة بل ولودة بعلامات تغطي الكثير من أعمال حسو، والكثير من أنماط تصنيفاته المبنية وفق علاقة فعل الإنتاج بلحظة تحققه، وبذلك تكون صياغاته التشكيلية نسيجاً من العلامات التي قد تكون هي السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالات مع القبض على أنساقها جميعا، وهذا ما يبرّر لنا قراءة بناء نصوصه البصرية/أعماله التشكيلية قراءة انبثاقية متبادلة تعيدنا إلى التساؤل الذي طرحناه في بداية هذه المادة: من يقرأ من؟ اللوحة أم المتلقي؟
أعمال رشيد حسو تحمل دوائر غير تقليدية تدور في تخوم الوقائع بوصفها تصنيفات بصرية تزود مناطقنا في ضفافها الأخرى بمعرفة مشهدية مهمتها ولادة جديدة بمعطيات تبنى على رؤية قد تكون جديدة وقد يحملها تأويلها إلى آفاق عديدة سعى إليها الكثير من الفنانين، ورسموا في ما وراءها خطابهم الجمالي بتحديد الوعي المعرفي أو تفعيله، داخل تلك المنطلقات أو خارجها، وقد تكون على حوافها لغاية غير معلنة، ومتشعبة تتخذ من المفاهيم العامة أداة لمعرفة الأشياء التي يطلقها حسو في أذهان متلقيه لكسر التشيؤ فيه وتحريك حاسته التاسعة ليخرج من المجالات الضيقة نحو تأويلات متباين.
هذا الفنان يجعل متلقي أعماله يجمع الإشارات الإيحائية مع بعضها لإطلاقها من جديد كحالات إبلاغية نحو خطاب تنتظره الحافلة بذهنية متبلورة تتجاوز جدارها، فحسو لا يكتفي بتنظيم تجربته، بل بإبلاغها على شكل كيانات ذهنية تسكن في عينه المدركة لشبكة علائقه ذات نمط مدروس بعناية حدسه والتي ستكون هي الضمانة لتكهنه وتحوله من مجرد معطيات بصرية إلى معطيات حسية دون أن يهمل أو يتجاهل أيّ واقعة قد تلد في فضاءاته ويكشف عن امتداداتها.
رشيد حسو فنان تشكيلي يستمد قوته من قدرته على استيعاب كل العناصر التي لها علاقة بالبنية الإدراكية، تلك العناصر التي تلائم ألوانه في تآلفها وإن من وجهة نظر معينة، ثم يعيد بناءها – أقصد تلك العناصر – وفق قوانينه هو وضمن كيان يخصه هو وبإمكانات محكومة بشروطه هو، حتى الذات عنده متكلمة بمقاماته، وحده غرابه يخفق بجناحيه ويطلق نعيقه بين محاور أحزان لأشجار تخصنا جميعا وتخصه هو أيضا.[1]