#لطيف هلمت# .. خلق الشعر ليسبح في خيالك
#قيس قرداغي#
عندما زرت مدينة كفري لآخر مرة راحت مخيلتي تبحث في الآفاق عن رموز أشتهرت بها هذه المدينة وهي كثيرة ولا أشير إليها سوى الى رمز واحد ، وهو مدرسة كفري للحداثة الشعرية التي كنت رائدها ، تلك المدرسة التي أنقلب على القوالب الشعرية الجاهزة التي أستخدمها كل دخيل على صناعة الشعر ليبيع بضاعته للمتلقي الكوردي بسعرالإبداع الأدبي .
مدرسة كفري التي أسستها مع زملاء الصنعة المتقنة للكلمة تبقى شامخة مادامت رأس باباشاسوار شامخ يحكي بأمان عن كل ما آل بمدينة ( كفري - كيماش ) التي عاصرت بابل ونينوى وأربل من مصائب وويلات وكوارث وأخيرا سوء أكتراث من لدن إدارة صنعت من القاني من الدماء المسيلة من أرواح مئات الشهداء من أبناء ه ، نعم ، فمدرستك ليست إلا حصوة ثابتة في قعر الجدول ومزاعم الآخرين ليس الا ريح لا يعرف وطنا ولا مواطن ، فتزول صغريات الأشياء وكبرياتها تضحى رموزا على الحجر .
هناك في كفري وجدت آثار مكتبتك الصغيرة والزقاق الذي كنت فيه تقيم والسوق المسقوف الذي كنت تسترق السمع الى أحاديث الناس وتشهد ضوضاء المتسوقة من عشائر راكبة وراجلة يحضرون من أصقاع گرميان البعيدة كل يوم والنهر الذي أميت عنوة فماتت البساتين الغناءة بموته ولا سيما بستان الباشا مجيد الباباني الذي تغنى به خالد الذكر علي مردان ( تعالى نذهب الى بستان الباشا ) ، فإن مات كل جبار عنيد يبقى شعرك فواحا كبسمة الوليد شاهدا على عصرا يزداد فيه الأمي جهلا كلما تسلق الأكتاف وعدى في الطرقات لاهثا ، فلا أعرف أيها الملك سر ضعفك أمام الأنثى كما تقول :
{{ أنا عاجز عن إعلان الحرب
ضد أية أنثى
رغم أني ملك مغرم بالحروب !!
إلا إن رايتي بيضاء
أمام كل أنثى }}
ولعمري ليست هذه المرة الأولى التي تحمل الراية بيضاءا ، ألم تحملها في قاعة الأمتحان حينما أراد الجبر والرياضيات أن يشوها خيالك الشعري بأرقامه ورموزه المنتظمة التي لا تطيقها فطلقت ثانوية كفري وعقدت قرانك بالشعر وإن يترآى للبعض أن زواجك من الشعر لم يكن زواجا كاثوليكيا وزادوا في زعمهم على أن الإقتران كان عرفيا ، خاصة حينما دخلت خلوة الصمت وقلت أن الخروج منها سيكون في ع2000ام وسيخرج معك للملئ كائنات لطيف هلمت الألكترونية ، فحل ذلك العام ولازال عشاق شعرك ينتظرون منك إبداعا آخرا ك {{ الله ومدينتنا الصغيرة }} أو {{ ظفيرة تلك الفتاة خيمة مصفاي ومشتاي }} ، لا زلت في موضوعة الراية البيضاء أتحدث ولا أبوح سرا حينما أذكرك بديباجة الخطاب الذي أرسلتها الى تلك التي عشقتها وما لبثت متنافرا منها فكتبت لها {{ أكرهك كدرس الرياضيات والجبر }} ، لا مندوحة من هذا وذاك فعهدنا بك كائنا متحركا لا رباطا يربطك بالسكون والتحجر ، فكنت دائم البحث عن أقاليم جديدة لم يكشفها كولومبس بعد ، فبعد أن حطمت أصنام الشعر وقوالبه العتيقة لم ترم المعول جانبا فأردتها ثورة وليس أنقلابا فخشيت من الجذور الضاربة في العمق التي تنبت من بين أخاديد الكونكريت، فخال إليك مرة أن تصدر مجموعة شعرية في كراس مثلث الشكل كنوع من أنواع التمرد على المألوف وحتى أن كان المألوف إلقاءا شعريا على الطراز القديم فأقتحمت مع زميل الصنعة أنور - فرهاد شاكلي مسرح أحدى قاعات بغداد فألقيت شعرا بطريقة خاصة وشاكلي يعلك واقفا الى جنبك متفرسا الوجوه المسمرة مثل المقاعد المشدودة في القاعة إشارة منكما على أن عصرا جديدا من الشعر قد ولد وعصر القوالب قد قبر .
أربعة عقود من الانتاج الشعري ولم نجد في طي أحدى قصائدك أية مناسبة تختفي ، ولا نظام سياسيا ولا حزبا أو حركة سياسية ولا شخصية ، أية شخصية في إطار صورة من صورك الشعرية وبذلك سلمت عالمك الشعري الى الخلود في لوح تتداوله الأزمنة المتعاقبة طالما كان الشعر خالدا ، فالمناسبات تزول والأنظمة تسقط والشخوص تموت بينما الصور الشعرية الجميلة تبقى حية في الذاكرات ، المتفانون في العشق سيرددون الصور الشعرية ، وأي عاشق لا يتمنى لنفسه أن يضحى مسمارا مثبتا على الجدار !؟
{{ ما أسعد المسمار .. ما أسعده
يعلق عليه كل شئ
المصباح ،
الصورة ،
الآيات ،
حقائب النساء ،
مايوهات النساء ،
أزياء النوم النسائية .. والمناهد ..
سأقصد محل حداد
كي يحولني الى مسمار
رب والد فتاة ما
وفي ثورة غضب
يعلق أبنته من شعرها
على ّ }} .
لا آرى في المشهد الأدبي الكوردي أحدا قبلك منح لغة الكلام الى الى الأشياء الجامدة كالحجر والشجر والمطر والزهر المسمار والإبر ، فأصبحت الكائنات كلها ناطقة متحركة ما وسعت أفق الخيال سابحا في بحر متلاطم الأمواج من الصور المتحركة فقطعت بذلك صلة الرحم بين القديم والحديث فسار رهط من الشباب الشاعر في الدرب الذي بدأت السير فيه نهاية ستينات القرن المنصرم ،
{{ أنا لا أسأل
بل أنصت الى لغة الحجر
لو تفقهين لغة الحجر
لسكرت من طعم ومذاق
الصمت ... }}
أو حينما تلتقط صورة الظواهر الطبيعية ذات الصفات الأزلية بالأسود والأبيض :
{{ الليل لم يذق النوم منذ ألف ألف عام
عيونه الزرقاء تتلألأ أبدا
لعله ينتظر أحدا ,
أو
لديه ثروة طائلة
يتوجس من القمر أن يسرقها منه
حينما ينام ...! }} .
وأحيانا تتمرد على الشمس الحارقة في بلادك والأثرياء المستغلين في آن واحد فتتخذ قرارا بأسم الفقراء وتقاضي الشمس :
{{ أنا لا أملك أجهزة التبريد
أيها الأثرياء
من فضلكم ،
سأحبس الشمس
في قفص
حتى الشتاء القادم }} .
قلنا أن المناسبات المختلفة لم تجد تحت سمائك موطئا لأقدامها ، غير كان للوطن وقعه في كل مناسبة ، أذكر أنك أشتركت مع الكبير الراحل هيمن مهابادي في أمسية شعرية في قاعة جمعية الثقافة الكوردية بشارع المغرب ببغداد قبل أكثر من ربع قرن وقتما ألتهمت المؤامرات الدولية العملاقة ثورة أيلول التي كنت أحد بيشمركتها مع صفوة من الأدباء في إذاعتها الماثلة أمام شلال الصواريخ فألهبت مشاعر الشباب المتعطش الى زاد الحرية بمقاطع رمزية شفافة ، الى أن قلت ( أماه .. ذاهب أنا ، إن لم أعد ثانية , فأغدوا زهرة في تلك الجبال ) فرزم البعض من الأصدقاء أمتعتهم البسيطة وتوجهوا الى الجبل وغدوى البعض منهم نرجسا بريا في براري گرميان وقمم كويستان وللتأريخ فقط أذكر أبن شورجة كركوك الشهيد نجم الدين فاتح الذي كان حاضرا هناك ، وهنا في المقطع التالي هكذا ترسم الحنين الى الوطن :
{{ في ليلة من ليالي الشتاء
قالت عصفورة صغيرة : يا أماه ،
أنت تجولت في شتى الجبال
وزرت الكثير من الأقاليم الحارة
رأيت الكثير من المدن
وعشعشت في غابات كثيرة
قولي لي ، نجوم أية سماء
أجمل من كل النجوم
ويلمع بصيصها دوما في القلوب
وتسبح في العيون سرا
قالت أمها :
نجوم السماء التي
تفتحين تحتها عيناك .... }} .
الذهول والعجب والتأمل أشيائك التي تحملها أبدا في حقيبة رأسك ، تلك هي الشطحة الصوفية التي أتقدتها البيئة الأسرية الخاصة التي ترعرت فيها ، غير أنك تعجز عن الاحتفاظ بذلك العبئ الثقيل في رأسك فتسكبه سائلا على محيى القصيدة وتتركه سؤالا أزليا في حقائب الرؤوس الأخرى ولعمري ما كان الشعر إلا سؤال سرمديا في البرية :
{{ يطلب الله من الأنسان
أن يتحلى بالحلم
غير إنه ( جل جلاله )
ومنذ مئاة الألوف من السنين
يحد سيفه
ضد الشيطان ... }} .
تقول أنت :
{{ حين يجتمع ملكان
ليحكما مدينة واحدة
تكون الحرب ثالثهما
.....
حين يجتمع عاشقان
في فضاء غرفة تكون القبلات
ثالثهما }} .
وأقول أنا وبلسانك أن تلك الأم التي ضاعت منك ونبتت في سفح باباشاسوار خضراءا كالعشب ، عاشت مع كل بيت من ابيات شعرك سواء ذكرتها أم لم تذكرها بالاسم :
{{ كل النجوم المهاجرة عادت
وتعشعشت على زجاجات النوافذ مجتمعة
الا نجمتي
ترى كيف أبحث عنها
في أية غابة وقرية
على أي تل .. في أي درب
أه ، جل ما أخشاه
أن تضيع نجمتي مثلما ضاعت أمي ........ }}[1]